الخميس 21 نوفمبر 2024

ثقافة

طه حسين وسليم حسن في معرض القاهرة الدولي للكتاب: بعض دلالات الحضور

  • 5-2-2024 | 11:51

د. سامي سليمان أحمد

طباعة
  • د. سامي سليمان أحمد
  • تبدو مصر الحلمُ قاسما مشتركا يجمع طه حسين وسليم حسن؛ فكلاهما كان يسعى إلى أن يكون حاضر مصر الحديثة مبنيا على صلة حميمة بماضيها المجيد
  • يتفق طه حسين وسليم حسن على أن فهم حقيقة ثقافة ووجودها الحي الممتد لن يتحقق إلا بوضع الحضارة المصرية في امتداداتها وتجلياتها المختلفة في إطارها الجغرافي الإقليمي

 

     لعل احتفاء معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخامسة والخمسين في يناير وفبراير 2024 بكل من طه حسين (1889-1973) وسليم حسن (1893-1961) لا يعود إلى محض المناسبة التاريخية الخاصة بكل منهما، بل لعل مصادفة الجمع بينهما في هذه التظاهرة الثقافية الكبيرة يتيح لنا أن نتوقف عند بعض الدلالات التي تجمع بينهما. فكلاهما علمان من صناع النهضة المصرية الحديثة التي تبلورت أزهى ملامحها في مرحلة نهضة الطبقة الوسطى المصرية وصياغتها مشروعها نحو الحرية والاستقلال؛ في النصف الأول من القرن العشرين؛ حيث صارت الدعوة إلى الكشف عن الشخصية المصرية مطمحا من أبرز مطامح الثقافة المصرية الحديثة. وهو ذلك المطمح الكامن وراء مشروع كل منهما، مع الاختلاف بينهما بسبب طبيعة المجالات التي كانا يعملان فيهما. فعلى حين كان تركَّز عمل طه حسين على الثقافة بمختلف مجالاتها لاسيما ما يتصل بالتعليم مما كان له أثره البارز في صياغته مشروع نهضة مصر القائم على نهضة الثقافة المصرية بمكوناتها الثلاث: العنصر الفرعوني والعنصر العربي الإسلامي والعنصر الحديث المتأثر بالثقافة الأوربية تركَّز مشروع سليم حسن في مجال دراسة الآثار الفرعونية والتنقيب عنها والكتابة عن تاريخ مصر الفرعونية على النحو الذي جسدته مؤلفاته الكثيرة التي جاوزت الخمسين وتوجتها موسوعته الضخمة "موسوعة مصر القديمة" بأجزائها الستة عشر. وكان المطمح الكامن وراء ذلك المشروع هو الكشف عن جذور تشكل الهوية المصرية في أصولها التاريخية العميقة التي تعود إلى أقدم مراحل التاريخ البشري. ولعل هذه العودة التأصيلية المبنية على الآثار بوصفها دلائل مادية تناظر مرتكزا من المرتكزات الأساسية التي قام عليها مشروع طه حسين النهضوي، وهو مرتكز التوثيق الدقيق للمادة التي يستمد منها المعلومات التي يعيد تحليلها واستنباط ما يمكن استنباطه منها من نتائج تمثل دلالات على تحولات الواقع الإنساني في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية المختلفة، ثم إعادة صياغة تلك الاستنباطات وفق رؤية طه حسين. ولعل شيئا من إمعان النظر في  مسلكي طه حسين وسليم حسن يكشف عن تلاق جم بينهما مصدرُه مسكوتٌ عنه قوامُه أن صناعة النهضة المصرية الحديثة لابد أن تُنبى على أساس من الوعي التاريخي الدقيق بحقائق الماضي وعيا يستند إلى تحكيم منظور عقلاني صارم يؤكد أن العقل أساس التثبت من ناحية وهو أساس الاستنباط مما تُثبت منه من ناحية أخرى. لتكون الحصيلة مبنية على معرفة صحيحة ثبتت أمام فروض الشك المختلفة.

       ويلتقى طه حسين وسليم حسن عند منطلق مشترك كانا حريصين على بلورته وترسيخه في قلب الوعي المصري الحديث، وهو منطلق أن فهم حقيقة ثقافة ووجودها الحي الممتد لن يتحقق على الوجه المنشود إلا بوضع الحضارة المصرية في امتداداتها وتجلياتها المختلفة في إطارها الجغرافي  الإقليمي؛ لأنه الإطار المادي المباشر الكاشف عن اقتدار المصرين طوال عصورهم التاريخية الممتدة على التجاوب مع ذلك الإطار يفيدون منه عناصر يمصِّرونها ويفيدون منها من ناحية، ثم يقومون دائما بتصدير منتجات الفكرية والفنية والحضارية إلى أبناء الجوار في ذلك الإطار من ناحية أخرى؛ مما يتيح للمنتج الثقافي والحضاري المصري أن يصل إلى أصقاع كثيرة خارج ذلك الإطار وقد صارت النكهة المصرية عنصرا من عناصر تكوينه في تشكله المتحول عبر ثقافات متنوعة شكلت كل منها مقوما من مقومات الحضارات الإنسانية المختلفة. ولعل هذا الالتقاء بين طه حسين وسليم حسن هو الذي يفسر للمتأمل في مسيرتهما التقاءهما في دائرة نشر الوعي التاريخي بأحداث التاريخ وحركاته وتحولاته في افئدة المواطنين لاسيما الصغار والشباب منهم في مؤسسات التعليم المختلفة؛ وليس دور طه حسين في ممارسة التعليم وفي الإسهام في تأليف الكتب التعليمية بخافٍ على المتصلين بسيرته العملية، كما أن دور سليم حسن المثيل له في مجال تدريس التاريخ والتأليف المدرسي أو التعليمي فيه ليس بخافٍ أيضا على من يعرفون سيرته العملية التي كان العملُ بمؤسسات التعليم المختلفة عنصرا من أبرز عناصرها. ولعله ليس محض مصادفة أن يلتقي طه حسين وسليم حسن التقاء شديدا في هذه الدائرة لأن أساس الوعي بالذات الجمعية والذات الفردية لا ينشأ إلا من إدراك الوجود التاريخي للمجتمع وللفرد في سياقاتهما المختلفة التي لا تتحقق إلا في إطار التاريخ. وفي هذا ما يفسر العنايةَ الكبيرة التي أولاها طه حسين للتاريخ سواء من بدء دراسته له بالجامعة الأهلية أو من سفره إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه في العلوم التاريخية أو في تدريسه التاريخ القديم بكلية الآداب، جامعة القاهرة (1919-1925)، قبل أن يتحول إلى تدريس تاريخ الأدب العربي بقسم اللغة العربية بالكلية ذاتها مع تحول الجامعة إلى جامعة حكومية في عام 1925. وأما سليم حسن فلعله من قبيل التزيد بالنسبة للقارئ المتصل بما قدمه أن يقال إنه عاش حياته من أجل التاريخ فهمًا ودراسةً وتدريسًا واكتشافًا واستنباطًا؛ وذلك سعيا إلى تحقيق عناصر الوجود التاريخي لمصر القديمة كي تصير مرتكزات في النهضة المصرية الحديثة؛ فنشر الوعي التاريخي يمثل نقطة انطلاق مشتركة بين طه حسين وسليم حسن.

       وتبدو مصر الحلمُ قاسما مشتركا يجمع طه حسين وسليم حسن؛ فكلاهما كان يسعى إلى أن يكون حاضر مصر الحديثة مبنيا على صلة حميمة بماضيها المجيد؛ بما يؤكد عمق الوجود الحضاري لمصر في مسارات التاريخ الإنساني وبما يمنح المصريين المعاصرين مقومات الوعي بضرورة حمل الرسالة التي حملها الأجداد والآباء من أبناء هذا الوادي حيث حملوا عبء البناء والتنمية وحمْل مشاعل الحضارة ونشرها بين ربوع الأقطار المختلفة التي وصلوا إليها. ولعل إدراك طه حسين وسليم حسن ما يفرضه تحقيق ذلك الحلم على المؤمنين به من تضحيات كبيرة هو الذي دفعهما دائما إلى تقديم ضروب من التضحيات التي قد لا يتحمّل الآخرون تقديمها؛ فكان ذلك منهما وفاء لهذه الأرض الطيبة التي أرضعت أبناءها قيم التضحية والبذل والمحبة التي جسدتها أمنا الأولى إيزيس وهي تطوف أرجاء هذا الوادي بحثا عن أشلاء أوزريس لتعيد جمعها وضمّها كي تعود هذا الأرض إلى خضرتها الناضرة بعثًا لقيم وجودها الحق. ولذلك التقت سيرة كل من طه حسين وسليم حسن عند ضروب من التضحيات الهائلة التي بذلها كلٌّ منهما في سبيل توصيل رسالته وتحقيق أهدافها النبيلة؛ فكان أن صارا نموذجين في مجابهة الصعاب والتحديات صانعين بذلك ما جعلهما نموذجين قادرين على إلهام المصريين ولاسيما الشباب المتطلعين إلى وضعية تحتل مصر فيها مكانتها الجديرة بها بين أمم العالم المتقدم.

       لعلها لم تكن محض مصادفة أن يلتقي طه حسين وسليم حسن في حياتهما  بسبب ارتباط بعض أنشطتهما معا في الإطار المؤسسي، واتصال مشروعهما التنويري معًا في عناصر النهضة وإثارة الوعي الوطني وبث حلم العمل للمستقبل، بل كانت المصادفة الأكثر جمالا أن يلتقى معًا في معرض القاهرة للكتاب هذا العام ليكونا أيقونتين باذختين في الانتماء إلى هذه الأرض الطيبة وفي العمل على نهضتها ورفعة أبنائها لتظل حركة مصر قائمةً على تواصل حاضرها بماضيها العريق تحقيقا لأبرز مقومات التواصل الحضاري الذي كانت مصر وستظل حارسةً وراعيةً لقيمه الإنسانية النبيلة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة