الجمعة 3 مايو 2024

إصدارات التراث الشعبي في معرض الكتاب الخيال الشعبي وصناعة التاريخ


د. عمرو عبد العزيز منير

مقالات5-2-2024 | 12:11

د. عمرو عبد العزيز منير
  • يؤكد معرض الكتاب أننا نقف أمام تراكم معرفي كبير للفنون والآداب المصرية وأمام دور حيوي وجوهري لمؤسسات المجتمع سواء الدينية أو العلمية
  • استطاعت مصر خلال فترة وجيزة أن توجه جهدًا كبيرًا للتراث وللثقافة الشعبية خلال سلاسل لكتب الثقافة والدراسات الشعبية في هيئتي قصور الثقافة، والمصرية العامة للكتاب
  • أدركت مصر وجود علاقة وثيقة بين نمو المشروع الوطني بكل ما يحمل من تجليات وبين تعزيز مفهوم ودور "معرض القاهرة للكتاب" كأحد أدوات القوة الناعمة لمصر
  • اتجهت بعض الدراسات الشعبية إلى الدراسات الثقافية، واتجهت كذلك إلى البحث عن أسئلة التأصيل لربط السردية العربية الحديثة بالموروث السردي
  •  

لا يزال معرض القاهرة الدولي للكتاب وجهة مفضلة لمئات الآلاف من الشباب الراغب في اقتناء الكتب بتكلفة معقولة، إنها احتفالية مدهشة تلك التي تشاهد فيها طوابير طويلة من المترددين على المعرض ينتظرون دورهم في الدخول حاملين رقة صغيرة مدون عليها أسماء الكتب التي ينوون شراءها إذا سمحت الميزانية بذلك.

ورغم انتشار الكتاب الإلكتروني وإمكانية تحميل الكتب من شبكة الإنترنت مجانا فلا يزال الكتاب الورقي يحتل مكانة خاصة لدى مريديه الذين يجدون شغفًا خاصًا في الاحتفاظ بالكتاب الورقي وتدوين ملاحظاتهم. أو وضع خطوط حمراء بأقلامهم .

الدولة المصرية نجحت في إدراك وجود علاقة وثيقة وطردية بين نمو المشروع الوطني بكل ما يحمل من تجليات وبين تعزيز مفهوم ودور (معرض القاهرة للكتاب) كأحد أدوات القوة الناعمة لمصر. ورغم ارتفاع سعر الكتاب الورقي وتأثيره سلبًا على قدرة القراء في اقتناء ما يرغبون فيه من كتب إلا إن وجود مؤسسات مصرية مثل هيئة الكتاب والمركز القومي للترجمة ساهمت في تخفيف وطأة الأسعار إذ مكنت محدودي الدخل من الاقتناء إلا أن المشروع الوطني المصري وقوته الناعمة بثقافته لم يتراجع ولم ينحسر لوجود الممكنات لهذا لدور طوال الوقت.

معرض الكتاب بهذه الجاهزية يؤكد أننا نقف أمام تراكم معرفي كبير للفنون والآداب المصرية وأمام دور حيوي وجوهري لمؤسسات المجتمع سواء الدينية أو العلمية أو غيرها من مكونات صناعة التأثير في الآخر . وتحصد الدولة المصرية من نجاح فعاليات المعرض مكاسب معنوية وسياسية دونما إطلاق طلقة واحدة من مسدس لا يخرج من مخدعه سوى لخفافيش الظلام والتطرف والتعصب والجمود دفاعا عن التجدد والطلاقة والاعتدال والحوار مع أهل الحوار.

الدولة المصرية استطاعت خلال فترة وجيزة جدًا أن توجه جهدًا كبيرًا للتراث وللثقافة الشعبية خلال سلاسل لكتب الثقافة والدراسات الشعبية في هيئتي قصور الثقافة، والمصرية العامة للكتاب، وقد ظهرت مجددًا في الآونة الأخيرة عدة دراسات بحثت في منطقة الحدود بين التاريخ والموروث الشعبي، نستهلها بدراسة أحمد رشدي صالح عن تطور الفلكلور العربي في مصر، بصفة عامة، وقد ركز فيها على تطور الفلكلور، ومحطاته المختلفة، خاصة فيما يتعلق بالمأثورات، والفنون الشعبية، على حد قوله. وبالتزامن مع هذه الدراسة، جاءت دراسة قاسم عبده قاسم عن تطور الأسطورة في التاريخ، وفيها تناول علاقة الأسطورة بالتاريخ، وأساطير المنطقة العربية، وقدم ما أسماه بالقراءة الأسطورية للتاريخ. وعلى الصعيد الآخر، سلط خُريسات الضوء على الرواية الشفهية، ولقد غلب عليها الطابع اللغوي البحت، وتتبع الدلالة اللغوية لمفهوم "الشفهي". ومؤخرًا، ظهرت دراسات مثل: الأدب الشعبي في مصر، سلط فيها خالد أبو الليل الضوء على مسار الأدب الشعبي، وعلى جيل الرواد في قسم اللغة العربية، تحديدًا، وقد تحدث باستفاضة عن أنماط الأدب الشعبي، واتسمت دراسة محمد رجب النجار التراث القصصي في الأدب العربي مقاربات سوسيوسردية بالطابع الموسوعي الذي أراد فيه الباحث أن يتعرض لأشكال وأنواع عدة من القصص العربي والمملوكي، وقاده تصوره للتــاريخ إلى جعل النصوص السردية تابعة للعامل التاريخي فأصبحت بذلك تعالج الأدب في التاريخ وليس التاريخ في الأدب .

ولعل الدراسات السابقة بينت أن موضوع تحولات الدراسات التي بحثت في منطقة الحدود بين التاريخ والموروث الشعبي في مصر وتطورها بحاجة إلى رصد ودراسة منهجية تحاول الإفادة من بعض تلك الدراسات الرائدة في سبيل النهوض بتأريخ لحقل الدراسات البينية للتاريخ والموروث الشعبي في مصر بتشكلاتها المتنوعة استنادًا إلى المنهج التاريخي التعاقبي للكشف عن تشكلات الدراسات الشعبية التاريخية وتحولاتها بين القديم والحديث، والأنساق الثقافية التي صدرت عنها، ومن ثم، فإن هذه العتبة الاستهلالية هي مزيج يتناول بين طياته هذه المعطيات المختلفة، المشكلة لطبيعة الدراسات الشعبية التاريخية في مصر، وتعقب ملامحها، ومسار تطورها عبر فترات زمنية كبيرة نسبية، وهذا التباعد الزمني له دلالته الواضحة في إيضاح هذا المسار بشكل يتسم بالتنوع، والثراء، معا. فما هي هذه المسارات؟ وما هي الملامح المشكلة لها؟ وكيف تطورت الدراسات الشعبية عبر محطات زمنية متباعدة ومتباينة؟ وهل ارتبط ذلك بالمعطيات السياسية، أم أن ذلك كان بمنأى عنها؟

البدايات الأولى:

تكشف لنا شهادات الرحالة الغربيين إلى بلاد المشرق العربي في القرن التاسع عشر الميلادي عن رواج مرويات السيرة الشعبية والحكايات العجائبية. إذ يذكر ج. دي. شابرول G.de Chabrol في كتابه (وصف مصر) بأن آلاف الأشخاص في القاهرة كانوا يترددون يوميًا على المقاهي، ويستمعون إلى رواة القصص الشعبية. وفي حديثه عن المصريين المحدثين يذكر أن القاهرة وبولاق ومصر القديمة تحتوي على أكثر من ألف وثلاثمئة مقهى تستقبل المقاهي الفخمة منها بين مئتين ومئتين وخمسين زائرًا كل يوم. ويتزاحم الجمهور في المقاهي حيث الرواة والمنشدون يقصون بحماسة ملتهبة مغامرات عجيبة تخلب الألباب بطريقة فريدة.

وقدم محمد عمر في كتابه (حاضر المصريين) إحصاءات بالمقاهي آنذاك؛ فيذكر أن عددها يبلغ قرابة عشرة آلاف مقهى تعمر بعضها مجالس القص، ويرتادها الفقراء للسهر ولسماع القصص من القصاص، أو سماع الرباب من الشعراء الكذابين الذين يقصون عليهم قصص زناتة، وسيرة بني هلال، وقصة سيف بن ذي اليزن، أو السلطان حسن أو "دون جوان" والإقبال عليها من جانب المتلقين الذين كانوا يدورون وراء القصاص (الحكواتي) (الراوي) من قهوة إلى أخرى، ويتلذذون بسماع ما يتلوه من أخبار عنترة بن شداد، والزير أبي ليلى المهلهل، والزناتي خليفة، وعلي الزئبق عايق زمانه، وقصة الملك سيف، والملك زاد بخت بن شهربان، وجميع ما ورد في ألف ليلة وليلة من الحكايات. إذا بات بطل الرواية في ضيق وكرب لا يهدأ بالهم ولا تنام أعينهم إلا بعد تمام الخبر وفهم ما جرى.

اتسم موقف محمد عبده (1850- 1905م) من رواية القصص الشعبي بالتصادم، وتبنى مهاجمة المأثورات الشعبية باعتبارها مفسدة للمجتمع، عكس ذلك وصفه السير الشعبية الرائجة في عصره كالظاهر بيبرس، وأبو زيد، وعنترة عبس، وإبراهيم بن حسن، وغيرها بالأكاذيب الصرفة، التي يذكر فيها تاريخ أقوام على غير الواقع.

كما أيد قرار الحكومة المصرية بتقييد طباعة الكتب التي تنتمي إلى السير الشعبية، باعتبارها مخلة بالدين، ومناقضة للسياسة. واتخذ جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897م) الموقف نفسه من السير الشعبية، ونعت إياها بـ "الكذبة"، وقد تشابهت مواقف كل من الأفغاني، وعبد الله النديم (1843 - 1896م)، فجمع بينهما اشتراكهما في موقفهما من الأدب الشعبي؛ الخوف من تأثير الحكايات الخرافية والسير الشعبية على منظومة القيم التي رسختها السلطتان السياسية والدينية هو الذي جعل يعقوب صروف ينشر في عدد نوفمبر من المقتطف لعام 1891م جوابًا صارمًا عن سؤال يخص الحكايات الخرافية فكان جوابه " في قراءتها شيء من التسلية، ولكن فيها مضار كثيرة؛ لأنها مشحونة بالأوهام والخرافات وحوادث الحب والغرام". وهو ما دفع محمد حسين هيكل (1888- 1956م) نشر روايته (زينب) باسم مصري (فلاح) بدلا من اسمه الحقيقي؛ خشية ما قد تجني صفة الكاتب القصصي على اسم المحامي" هذا التلقي المتعالي سببًا في إدراج الأنواع السردية الكبرى (القصة العجائبية، السيرة الشعبية العربية) ضمن دائرة "اللانص" في الثقافة العربية الإسلامية.

ونجد عند محمد عمر في كتابه (حاضر المصريين أو سر تأخرهم) (1902م) رصدًا للكتب الرائجة في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وهو رصد لا يختلف عما لاحظه محمد عبده قبله. ورأى أن رواج المرويات السردية عند الناشرين مثل كتاب (ألف ليلة وليلة)، وسيرة (سيف بن ذي يزن)، وكتاب (عودة الشيخ إلى صباه) دليل على "انحطاط كبير وخذلان ليس له مثيل والعياذ بالله"، ويطالب بعقاب صارم تنفذه الحكومة على مروجي هذه الكتب الذين يطبعونها! .

مما جعل الدراسات الشعبية تتشكل في منأى عن الثقافة الرسمية السائدة، ولكن سار هذا التطور باتجاه عكسي في أواخر القرن التاسع عشر، فبمطالعة كتابات محمد مختار باشا، وإسماعيل باشا سرهنك، وأيضًا كتابات فيليب جلاد، ويعقوب آرتين في مصر، وسليم نقاش اللبناني، وميخائيل شاروبيم، نجد أنها لم تخرج عن كونها كتابة حولية مضمونًا ومنهجًا، كتعبير عن ذاك البطء في حركة المجتمع المرتكز إلى فقه مؤسساتي ضابط للمجتمع والثقافة.

مسار الريادة العلمية الحديثة:

بدأت الدراسات الشعبية التاريخية، تأخذ منحى جديدًا على يد قسم اللغة العربية بالجامعة المصرية بتطويع النصوص السردية للعامل التاريخي، فأصبحت بذلك تعالج الأدب في التاريخ، وليس التاريخ في الأدب، واتجهت بعض الدراسات الشعبية إلى البحث عن أسئلة التأصيل لربط السردية العربية الحديثة بالموروث السردي، واتجهت كذلك إلى الدراسات الثقافية؛ كدراسة سَهير القلماوي عام 1941 عن "الناحية الأدبية في ألف ليلة وليلة"، التي أسست دراسات الأدب الشعبي، أعقبها رسالة الماجستير لعبد الحميد يونس عام 1946، المعنونة "سيرة الظاهر بيبرس"، والتي قدمت الرؤية المتخيلة في الوجدان الشعبي لتأسيس دولة المماليك في مصر؛ ليصبح عبد الحميد يونس فيما بعد مؤسسًا لمدرسة الدراسات الشعبية في الجامعة المصرية، وذلك بالتزامن مع بروز مضمون جديد للشعب في التحليل السياسي والنزوع القومي التحرري لمواجهة الاستعمار، وأنشئ أول كرسي للأدب الشعبي في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1955م نتاجًا لهذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرت بها مصر بعد ثورة يوليو 1952م، التي خلقت ظروفًا موضوعية تاريخية للتطور الفكري والاجتماعي الذي فرض الاتجاه إلى حياة الشعب وتاريخه وميراثه وفنونه بهدف دعم شخصيته وتأصيل الطابع القومي في الإنتاج الفني والثقافي، ومن يمعن النظر في النقلة النوعية التي أحدثها الإنتاج الأكاديمي الرصين لجيل ما بعد الثورة في حقل الدراسات الشعبية على مدار أكثر من خمسة عقود خلت. وفى وسعنا تفسير هذه الظاهرة الجديرة بالاهتمام من خلال نظرية تربط عادة بين ما يطرأ على بنية النظام الاجتماعي من تغير، وبين ميلاد جيل ينعكس عليه هذا التغير، يفجر فيه طاقات جديدة واهتمامات جديدة تتواكب مع مسار ذلك التطور.

ظهرت كتابات تساير الاتجاه السائد وقتها، مثل كتابات سعد الخادم عن الصناعات والفنون الشعبية في مصر 1957م، التي ارتبطت بحقول معرفية أخرى كعلم الفولكلور.

وامتدادًا لدراسة الأدب الشعبي على يد جورج يعقوب، وبول كاله لكتاب "طيف الخيال" لابن دانيال الموصلي، عن خيال الظل، نجد دراسات فؤاد حسنين في مقالاته المنشورة عن ابن دانيال في مجلة الثقافة، قام إبراهيم حمادة بتحقيق نصوص خيال الظل، وتمثيليات ابن دانيال 1961م، حصل أحمد صادق الجمال، على درجتي الماجستير والدكتوراه بجامعة القاهرة "تخصص في الأدب الشعبي"، عن رسالته "الأدب العامي في مصر في العصر المملوكي" عام 1965، وغيرها من الدراسات، وأخيرًا دراسة لمحمد قنديل البقلي، عن "الأوزان الموسيقية في أزجال ابن سودون".

جيل السبعينيات ومسار التحولات:

شهد الموروث الشعبي السردي الشعبي منذ سبعينات القرن الماضي تنبها من النقاد العرب على ضرورة الاستفادة من منجزات النظرية النقدية الغربية في تلقيهم التأصيلي لإيجاد نظرية أنواع أدبية خاصة بالسرد العربي القديم، وفي تلقيهم البنيوي والتـأويلي، وفي تلقيهم للنقد الثقافي، وخطت الدراسات الشعبية التاريخية في مصر خطوات لا بأس بها في ستينيات القرن العشرين، ولكنها قيدت من قبل التيارات السائدة وقتها، فتوجس المحافظون من دراسة أدب الشعب، وما يمثله من تهديد للغة والإسلام، ووصف اليساريون الدراسات الشعبية بالرجعية والتخلف، وارتأى دعاة الوطنية أن الدراسات الشعبية صنيعة الاستعمار؛ لأنها تمت على يد المستشرقين، وأشار القوميون إلى ما يمثله هذا الحقل المعرفي من فرقة وانقسام، باعتبارها ذات نزعة إقليمية، ووصل الأمر إلى اتهام العاملين في حقل الدراسات الشعبية بالعمالة، ولكن تغيرت الظروف الموضوعية في عقدي السبعينيات والثمانينيات، بظهور توجه يهتم بالدراسات الشعبية في ضوء النظريات النقدية الحديثة للأدب، على المستويين الأكاديمي والثقافي، فتناول محمد رجب النجار فكرة البطل، وقضايا العدل الاجتماعي في ملحمة الظاهر بيبرس، ثم دراسته الشعر الشعبي الساخر في عصر المماليك، موضحًا أن الحقل المعرفي المتعلق بالدراسات الشعبية التاريخية لم يلق حقه العلمي والمنهجي من الدراسة، وأن معظم الآثار الأدبية الشعبية والشعرية الشعبية قابعة في مكتبات العالم. وفي رأيه أن التراث الشعبي الذي جاء في كتب المؤرخين وأصحاب الموسوعات، كان ينقسم إلى قسمين كبيرين: أحدهما لايزال بوظائفه الحيوية والفكرية والنفسية والجمالية، وهو ما يسميه علماء الفولكلور "المأثورات الشعبية"، والثاني هو هذا الجزء من المادة، أو العناصر الفولكلورية التي تحجرت وظائفها منذ زمن بعيد، وتحولت إلى مجرد رواسب ثقافية احتفظت بها كتب التراث العربي، ولم تعد لها من قيمة الآن سوى قيمتها الثقافية، أطلق عليه مصطلح "الأوابد"، دلالة على أنها لم تعد حية وفاعلة.

ودراسته المعنونة "حكايات الشطار والعيارين" مستعرضًا بوادر ظاهرة الشطار والعيارين في المصادر التاريخية والأدبية، كمحاولة للتوصل إلى دراسة واقعهم التاريخي والسياسي، ثم انطلق رجب النجار في مشروعه المتمثل في ضرورة جمـع أدبنا الشعبي العربي من المصادر التراثية ودراسته، وقد تحقق مشروعه في تحقيق ودراسة لسيرة على الزيبق المصري 1998م، وفاكهة الخلفاء وفاكهة الظرفاء 2003، ثم كتابه التراث القصصي في الأدب العربي مقاربات سوسيوسردية، جل غايتها أن تبين لنا أن موضوع السرد العربي الشعبي في مصر كان في حاجة إلى دراسة منهجية متكاملة تحاول الإفادة من بعض تلك الدراسات الرائدة في مجال السرديات العربية والسير الشعبية في سبيل النهوض بتأريخ جديد لهذه السرديات بتشكلاتها المتنوعة.

الجيل الثالث ومسار التحولات والنضج:

وفي التسعينيات من القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة، بدأت الدراسات الشعبية تأخذ منعطفًا جديدًا بالربط بين التاريخ والفولكلور، من خلال الاتجاه الذي قاده قاسم عبده قاسم، بعد أن تأثر بعشق أحمد علي مرسي، ومحمد رجب النجار للموروث الشعبي، فأضاف بُعدًا جديدًا للدراسات التاريخية من خلال " القراءة الشعبية للتاريخ "، ومن أهم دراساته في هذا المجال: كتابيه بين الأدب والتاريخ، وبين التاريخ والفلكلور، وأبحاثه المتعددة حول التراث الشعبي والأدب مصدرًا لدراسة التاريخ، في محاولة منه ليعالج التاريخ في الأدب وليس الأدب في التاريخ، ولعل أهم ما ميز هذا الإنتاج تأكيده على أن المؤرخ لا الوثيقة هو منتج المعرفة التاريخية، وأنه من خلال تنمية كفاءة المؤرخ وإثراء خبرته عبر تسليحه بالثقافة المنهجية التي لا تتوقف عن تجديد نفسها، يمكننا تطوير الدراسات الشعبية التاريخية.

الجيل الرابع وغياب الفرضيات والجدليات:

رغم أن القَرنين الماضِيين شهدا ولادة الاهتمام بطباعة بعض تلك السير الشعبية طبعات منتقصة راجت بين كثير من فئات الشعب، مثل: قصة سير الإمام علي بن أبي طالب ومحاربته الملك الهضام، وفتوح اليمن الكبرى الشهير برأس الغول، وقصة الزير سالم الكبير، غزوة الأحزاب وما جرى للإمام علي الفارس المهاب، وسيرة العرب الحجازية، وقصة ديوان الأيتام، وقصة قتل الأمير دياب، وسيرة بني هلال في قصة أبو زيد الهلالي والناعسة وزيد العجاج، وحرب البسوس الكبير، وتغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة، وديوان العرب المسمية، وسيرة أبي على بن سينا وشقيقه الحارث، وسيرة قرة العين في أخذ ثأر الحسين، وقصة الأميرة ذات الهمة، وسيرة الجازية الهلالية، وسيرة عنترة بن شداد، وسيرة الظاهر بيبرس.

إلى جانب سير وحكايات شعبية أصبحت مجهولة ولكن تحتفظ خزائن الكتب بمخطوطاتها التي تحتاج لمن يتصدر لتحقيقها ودراستها، وقد بدأت أبرز ثمرات هذا الجهد في مصر حين أضطلع بتنظيره وتلخيصه والتنويه عن أهمية تحقيقه المصري شوقي عبد الحكيم ومن بعده عالم الفولكلور المصري محمد رجب النجار الذي أهدى حقل الدراسات الشعبية التاريخية سيرة علي الزيبق محققة ومدروسة مزودة بشروح للمفردات الغامضة وبهوامش تربط بينها وتاريخ مصر الاجتماعي والسياسي، ثم ظهرت عدد من المحاولات الدكتور هشام عبد العزيز لتحقيق سيرة الزير سالم، وألف ليلة وليلة بالعامية المصرية ، ومحاولات عمرو منير لتحقيق ودراسة سيرة فتوح البهنسا الغراء على أيدي الصحابة والشهداء وتم نشرها ضمن سلسلة الجوائز بعد فوزها بجائزة تحقيق التراث القصصي الأولى عام 2012م بهيئة قصور الثقافة بمصر، ثم تبعها سيرة فتوح مصر المحروسة على يد سيدي عمرو بن العاص 2016م، وتوالى الجهد المبذول منه لتحقيق مخطوطات السير والحكايات الشعبية العربية مثل: سيرة القس نصير الإسكندراني وابنه مرقس (سيرة شعبية قبطية ق18م)، سيرة فارس العراق، سيرة سيف بن زليزل (باللهجة الشامية)، تحقيق ودراسة لكتاب طيف الخيال (تمثيليات خيال الظل لابن دانيال الموصلي)، تحقيق كتاب سيرة الحاكم بأمر الله (سيرة شعبية 20 جزء)،وتحقيق سيرة دلال وكمال، إضافة إلى (سيرة الملك البدرنار بن النهروان بن طيبوش بن قيبوش) في اثني عشر جزءًا وقد تأثر الراوي فيها ببعض شخصيات السيرة الهلالية فخصصت للهلالية مساحة عريضة تبدأ من الجزء الثالث، مما أتاح لنا لمس مدى تأثير الهلالية على مجتمعها من عشاقها ومدمنيها على امتداد أجيال عديدة،عبر مجتمع الرواة الذين خلبت السيرة ألبابهم فمنحوها أعمارهم كأنهم يؤدون رسالة مهمة في الحياة بأن يصيروا من رواة السيرة الهلالية والتي سلكت طريقها لديهم من الآباء في ظروف أتيح فيها للمتلقي الإصغاء والتفاعل مع عالم السيرة الخلاب، فكان فعل الأداء لديهم يقوم على استلهام تراث السيرة الشعبية عبر تواصله الشفاهي بواسطة التفاعل الحي بين مشاركيهم وبهدف تقوية إحساسهم بهويتهم ووحدتهم بحثا عن البطولات العربية الممتدة منذ بطولة الرسول  الذي يمثل النموذج الأعلى للبطولة الإسلامية.

عتبات نقدية:

الملاحظ، أن بدء الاهتمام الأكاديمي بـ(منطقة الحدود بين التاريخ والتراث الشعبي) يرجع إلى المستشرقين، خاصة الفرنسيين؛ إذ دونوا ملاحظاتهم الدقيقة عن الطبيعة، المشكلة لغالب الطبقات الشعبية في ذلك الوقت، وهذا ما يتفق مع الفكر الاستشراقي، الذي يسعى إلى كسب المزيد من المعلومات " الحياتية والذهنية" لتلك الطبقات، وسارت في نفس المسار، الحوليات التاريخية على استحياء، فوجدنا الجبرتي، يرصد لمحات مهمة عن هذه الطبقات، ولكن يجب الإشارة إلى ملمح خطير، وهو أن هذا الاستشراق، المتتالي، قد أخذ ما أسماه إدوارد سعيد بالصورة النمطية، التي باتت تتكرر في المدونات المختلفة، بصورة تكاد تكون منقولة حرفيًا، لذا، كانت الظروف السياسية، التي تعرضت لها الأفكار المجتمعية، كانت بمثابة انذرًا للتراث الشعبي، في أن يعيد النظر في مكونه الثقافي، كي يكون قادرًا على مواجهة " التحديات الأجنبية"، ومظاهرها، التي تغلغلت داخل البنية المجتمعية.

Dr.Randa
Dr.Radwa