صغير الحجم وكبير القيمة؛ إنه كتاب «الأخلاق بين اللذة والزهد - دراسة في فلسفة الأخلاق عند كل من الأببيقوريين والرواقيين» تأليف د. حمزة السروي؛ الكتاب من القطع الصغير، ويقع في حوالي 140 صفحة، وصدر نهاية العام الماضي 2023 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. كُتِبَ بلغة بالغة الوضوح، فضلاً عن حلاوة الأسلوب وطلاوته؛ حتى أنك إذا أمسكت به لتقرأه، فلن تتركه حتى تفرغ منه، وهذا ما حدث معي. فلقد قضيت وقتًا ممتعًا في قراءته، حتى أنني تمنيت ألا تنتهي صفحات الكتاب. وهذا الأمر لا يحدث كثيرًا في حالة المؤلفات الفلسفية المكتوبة باللغة العربية.
إن هذا الكتاب كُتِبَ بأسلوب واضح، وهذا الوضوح يدل على حسن الفهم من جانب المؤلف للموضوعات التي تناولها بالعرض.
إن بعض القرَّاء يتصور خطأً أن الإمعان في الغموض يدل على عمق الكاتب أو المفكر، وهذا غير صحيح، والبعض الآخر، أو قد يكون هذا البعض نفسه، يتصور أن الوضوح والتبسيط يعني السطحية، وهذا أيضاً غير صحيح. إن الغموض غالباً ما يُخفي وراءه عجز الكاتب عن الفهم، وبالتالي عجزه عن التعبير والتوضيح والتبسيط.
إن اللذة والزهد هما اتجاهان رئيسيان في فلسفة الأخلاق عند فلاسفة اليونان في مرحلة ما بعد أرسطو. وبخصوص اللذة فقد اهتم بها أبيقور، وأنزلها مكانة عالية، فهي تمثل محور فلسفته، بل تكاد تكون هي كل فلسفته وما عداها مثل: نظرية المعرفة، أو علم الطبيعة، أو الإلهيات، ما هي إلا موضوعات مُسخرة لخدمة أخلاق اللذة عنده. لقد تمحور اهتمام أبيقور – في بادئ الأمر - حول اللذة الحسية، وبخاصة لذة البطن (المتعلقة بالطعام، والشراب، والجنس). ولكنه اكتشف أن كل لذة يصحبها ألم، ومن ثم أجرى حسابًا للذات والآلام، انتهى فيه إلى القول بأن اللذة الحقيقية هي الخلو من الألم. وانتهى إلى القول بأن اللذة هى أقرب ما تكون إلى اللذة العقلية القائمة على التأمل.
هكذا عالج أبيقور فكرة اللذة ببراعة شديدة حتى صارت أشبه ما تكون بالسعادة النفسية. أوضح المؤلف في كتابه كيف تأثر «أبيقور» في مفهومه للذة بالفلاسفة السابقين عليه، إذ تأثر على وجه الخصوص بنظرية «ديمقريطس» في اللذة، وإن أنكر أبيقور ذلك، مدعيًا الأصالة، رغم أن ظاهرة التأثير والتأثر – كما يقول الدكتور السروي – هي ظاهرة طبيعية، فضلاً عن كونها ظاهرة صحية.
وبصفة خاصة فإن مقارنة الأفكار حول مفهوم اللذة بين أبيقور وبين من سبقه، تؤكد وجود هذا التأثير، ولعل أكبر تأثير كان لديمقريطس، حيث اعترف بذلك أبيقور ثم عاد وأنكر إنه تأثر بديمقريطس أو غيره. تبقى اللذة عند أبيقور، من حيث هي لذة الفرد، هدفًا أسمى، ويبقى ما عداها من فضائل مجرد وسائل لتحقيق هذه اللذة، أما تفسيرات مذهبه بأنه دعوة إلى الإباحية، أو دعوة إلى التقشف، فهي تفسيرات، تأخذ – كما يقول الدكتور حمزة السروي مؤلف الكتاب - بنصف الحقيقة، ومن ثم فهي تفسيرات ناقصة.
يُشكل مفهوم اللذة عند أبيقور محور فلسفته بأكملها حيث اتخذ من مباحثه الأخرى، أدوات لدعم اللذة وضمان استمرارها، ففي نظرية المعرفة، اختار أبيقور المعرفة الحسية أساسًا لهذه الفلسفة، وهو اختيار منطقي يتماشى مع تَصَوِّره للذة كغاية، لقد كانت المعرفة عنده وسيلة لتحقيق تلك اللذة.
وفي علم الطبيعة، دأب أبيقور على نفي معظم المعتقدات الشعبية حول خلق الآلهة للعالم، وتدخلهم في شئون البشر، وحسابهم بعد الموت في حياة أخرى، وفي المقابل قرر أن العالم قد وُجِدَ بشكل طبيعي نتيجة تصادم الذرات وأنه توفيق من آلاف التجارب الفاشلة، وأن الإنسان قد نشأ وتطور في الطبيعة، مثله في ذلك مثل غيره من الكائنات الحية، ومن ثم فهو كائن مادي، وأن النفس مادية كذلك، وإنه بموت الإنسان تتبدد الذرات المكونة للجسم، وكذلك الذرات المكونة للنفس، ومن ثم فلا بعث ولا حساب بعد الموت!!
على ضوء فلسفته الطبيعية هذه؛ حرص أبيقور على تحرير الإنسان من المخاوف المتعلقة بالمعتقدات الخاصة بتدخلات الآلهة، أو معاناة الموت أو الحساب بعد الموت، وبالقضاء على هذه المخاوف ينعم المرء بالهدوء، ويُقبل على اللذات دون قلق.
ويُعَقِّب الدكتور السروي على هذا الموقف من جانب أبيقور؛ فيقول:
«ويُحمد لأبيقور في هذا التفسير نظرته العلمية لكل من تَكَوُّن الطبيعة ونشأة الإنسان، ولكن ما كان ينبغي أن يجعل من هذا التفسير العلمي مدعاة لإقبال الإنسان على اللذة وانسحابه من المجتمع، بينما كان الأدعى أن يُزيد هذا التفسير من طموح الإنسان لمزيد من الانتصارات العلمية، وأن يعزز الروح الاجتماعي الذي يضمن استمرار تلك الانتصارات».
وفي موقفه من الدين، رفض أبيقور أن يكون للآلهة دور في خلق العالم أو خلق الإنسان أو العناية بشئونه، فالعالم مليئ بالشرور بما يُفيد عدم عناية الآلهة به، فضلاً عن أن عناية الآلهة بالبشر من شأنها أن تثير قلق الآلهة، الأمر الذي لا يتناسب مع ما يتمتع به الآلهة من سعادة.
وقد اعترف أبيقور بوجود الآلهة، لأن هناك اعتقادًا عامًا بوجودهم من ناحية، وحاجته إلى اتخاذهم نموذجًا للحياة السعيدة، يتعين على البشر أن يحتذوه، من ناحية أخرى. فإن الإيمان بوجود آلهة كنموذج يجعل البشر، فيما يرى أبيقور، أقدر على تحقيق اللذة والسعادة.