سهام بنت سنية وعبد السلام - ناقدة وباحثة أنثروبولوجية مصرية
يحاول فيلم "يوم للستات" أن يقدم لنا حكاية حارة مصرية. يسود الفيلم كيانان كبيران تتحرك على خلفيتهما الشخصيات (ولا أقول الأحداث إذ يكاد الفيلم يخلو من الحدث بمعناه الدرامي). الكيانان هما الحارة التي يعيش فيها الناس وحمام السباحة الذي افتتحته الحكومة حديثا في مركز شباب الحي وخصصت يوما من أيامه للسيدات. فهل نجح الفيلم في مسعاه؟
الحارة:
نجح الفيلم أحيانا في ذلك المسعى، مثلما حدث في التيمات المتكررة على المستوى البصري باستعراض أرض الحارة الغارقة في المجاري مما يضطر الناس للتنقل على حجارة بخطوات غير متزنة فيجعلهم آيلين دائما للسقوط حركيا، ومقارنتها بفضاء حمام السباحة المفتوح النظيف لكنه لا يقل عنها خطورة على الناس لاسيما مع جهل معظمهم بالسباحة، فهم إما معرضون للسقوط في وحل الأرض أو الغرق في مياه الحمام، ولا مفر لهم، ففي الحارة معيشتهم وفي الحمام متنفسهم الوحيد.
لكنه أخفق في أحيان أخرى حين لم يراع التفاصيل الواقعية للحارة في فيلم صرحت صانعاته بأنه فيلم واقعي. من هذه التفاصيل فيما يخص الحارة أنها قدمت في شكل (حارة الأبواب المفتوحة)، فمثلا تتمكن شامية (إلهام شاهين) من التسلل إلى بيت أحمد (محمود حميدة) فجرا لتتحسس جسده وهو نائم، ونرى ليلى (نيللي كريم) تدخل بيت بهجت (إياد نصار) لتطمئن عليه، هكذا بلا أبواب تطرق أو تغلق على ساكني بيوت الحارة. أما التيمة التي تسود الحارة على المستوى الاجتماعي فهي الغربة التي تنتهي إما بالموت (زوج ليلى وابنها) أو العودة بخيبة أمل بعد السجن في الغربة (أحمد) أو حتى العودة بأقل الخسائر دون تحقيق الأحلام المأمولة (بهجت). والنساء هن الثابتات في الحارة في معظم الأحوال أما الرجال فمتنقلون بين المهجر والحارة، وتبدو عودتهم خطوة تسبق قفزة أخرى إلى مجهول خارج مكانهم المألوف.
الحمام:
قدم الفيلم مشهدا رمزيا ناجحا حين رأينا أغطية رؤوس تخلع وترمى في كومة وحين اتجهت السيدات لتغيير الملابس المبتلة عادت الأغطية للرؤوس دلالة على دور الحمام في التنفيس عن الضغوط التي تعانيها نساء الحارة.
ومن المشاهد الواقعية الموضحة لسلوك أهل الحارة الرجال وهم يحاولون الدخول للحمام في يوم الستات، وحين يتعذر عليهم ذلك يتسلقون سور مركز الشباب لينظروا للنساء، وعزة (ناهد السباعي) التي تقفز بتلقائيتها في الماء وتكاد تغرق فتعلمها المدربة (هالة صدقي) السباحة. وفي مشهد واقعي آخر معبر عن توتر العلاقة بين الناس والحكومة عبرت إحدى سيدات الحارة عن خوفها من أن تكون الحكومة قد وضعت للناس سما في الحمام.
ومن أجمل مشاهد الحمام مشهد يوضح دور الحمام في خلق الحميمية بين سيدات الحارة حين تكاد ليلى تغرق حين ترى ابنها بعين خيالها تحت الماء وتمد له يدها فتنقذها المدربة وتلتف حولها سيدات الحارة مواسيات لها وهن يلمنها لأنها تعرض نفسها للخطر وهي لا تجيد السباحة. وحين تبكي ليلى للمرة الأولى منذ وفاة ابنها تلتف حولها النساء مشجعات وفرحات وهن يزغردن ويرقصن فرحا بتنفيسها عن كربها. عاب هذا المشهد أداء نيللي كريم في السباحة، فهي الوحيدة من بين الممثلات التي تسبح سباحة أوليمبية سليمة يستحيل أن تغرق معها، وكان يجب توجيهها للتعامل مع الماء بحركات عشوائية لتتوفر المصداقية لتعرّضها للغرق. وفي المشهد نفسه تفتح "شامية" قلبها لنساء الحارة اللاتي اعتدن التباعد عنها والشك في سلوكها وتحكي لهن عن عملها كموديل للفنانين منذ نعومة أظافرها مع أمها وخالتها وهن يبدين تفهما لها ربما للمرة الأولى في حياتها.
لكن حمام السباحة حظي بنصيب الأسد من التفاصيل غير الواقعية التي أخلت بصورته ووظيفته الدرامية في الفيلم. فجميع حمامات السباحة الملحقة بمراكز الشباب تابعة لوزارة الشباب والرياضة ولها قواعدها الصارمة، لكننا نرى في بداية الفيلم أهل الحي يبلبطون في الحمام قبل إتمام ملئه وهو أمر غير مسموح به في أي حمام سباحة. كما يزدحم الناس في الحمام بلا ضابط ولا رابط ويمارس كل منهم ما يحلو له، فيلهو معظمهم ويسبح أقلهم، وهو ما لا يسمح به في حمامات مراكز الشباب أبدا إذ يقسم الرواد على مدار اليوم وتخصص ساعتان لكل عدد معقول من الناس، والرواد إما يسبحون أو يتعلمون السباحة، وغير مسموح إطلاقا باللهو. كما يستحيل أن توجه المدربة الرواد من النساء لارتداء كلسون للسباحة، فالمسموح به فقط هو المايوه سواء كان قطعة واحدة أو بشورت أو مايوه محجبات، بل لا بد أيضا من ارتداء كاب السباحة المطاطي ومن لا ترتديه لا يسمح لها بالنزول للماء. كما يقدم الفيلم مشهدا غير واقعي ولا فانتازي ولا مذهب فنيا له، إذ نرى السيدات ينزلن للماء بجلاليبهن وشعورهن العارية أو أغطية رؤوسهن العادية، وبعضهن يزغردن ويدرن الكاسيت بأعلى صوت، ويلعبن بالكرة والبالونات في الماء، بل تطعمهن إحدى السيدات محشي الكرنب، ولا أدري كيف تسللت إلى حرم الحمام بهذه الحلة الهائلة من المحشي، فمن ملاحظاتي أثناء ترددي على حمامات مراكز الشباب في الأحياء الشعبية الصرامة في تنظيم الدخول لحرم الحمام واستخدامه بل ولأماكن تغيير الملابس، لذلك أجد أن من المشاهد غير الواقعية مشهد اكتشاف سرقة ملابس النساء حتى تجدها إحداهن مع صوت أذان الفجر بجوار صندوق القمامة فلا تتمكن السيدات من مغادرة الحمام إلى منازلهن إلا فجرا.
فيلم شخصيات:
يدور الفيلم حول ثلاث شخصيات نسائية رئيسية: ليلى صانعة العطور ومدمنة الحزن التي تبدو دائما مغلوبة على أمرها لكنها تقاوم في صمت، وشامية التي ظلمتها صورتها عند أهل الحارة بينما هي مكافحة ومحافظة على التقاليد، وعزة بسيطة العقل التلقائية الجريئة. يقدمهن الفيلم في علاقاتهن بأهلهن، التي تبدو فيها هامشية رجال الحارة، فوالد ليلى (فاروق الفيشاوي) سلبي مغلوب على أمره وشقيقها (أحمد الفيشاوي) صورة نمطية للمتطرف، وابنها الذي تتكرر مشاهد لرؤيتها إياه بعين الخيال أو سماعها له بأذن الخيال، بل إن تصورها لوجوده في عمق حمام السباحة هو الدافع الوحيد الذي أقنعها بالنزول للماء لمحاولة انتشاله بعد أن فشلت جهود شامية وعزة في إقناعها بمشاركتهن في اللعب في الماء. وهي تندفع بلا تفكير إلى الغوص في الحمام مع جهلها بالسباحة (افتراضا، فقد رأيناها تسبح بحركات سليمة) فتكاد تغرق ولا تبالي بالموت غرقا في سبيل أن تلمس ابنها الذي تتصوره. أما الرجل الذي يحبها فهو الكابتن بهجت مشرف حمام السباحة الذي يبدو نموذجا راقيا كأنه أتى من خارج الحارة وزرع فيها. يتضح هذا من تباينه مع والد ليلى حين يتحاوران هل الحمام أولوية أم الصحة والتعليم فيضيف الكابتن بهجت للأولويات الموسيقى بينما يضيف والد ليلى الحشيش.
ليلى:
ليلى دائمة الحزن تعيش على ذكرى ابنها الراحل في حادث العبارة، فهي دائما تتخيله في الحارة وتهتف باسمه في خلوتها ببيتها، وتفرح بالعثور على أي من متعلقاته الصغيرة مثل ساعته. والدها يتعاطف معها ويهتم باهتمامها بذكريات ابنها، أما شقيقها المتطرف فدائم التبكيت لشقيقته ووالده، بل يضربه لأنه يرتدي شورتا وله علاقات نسائية وغير مواظب على الصلاة، ويؤنب أخته بشدة لأن العطور فتنة وهي تصنعها وتتاجر بها، حتى يفيض الكيل بليلى فتهاجمه لأنها تنفق عليه وتطرده من البيت وتقول له لو "عاوز تأكل ادفع". لا يخفف أحزان ليلى إلا علاقتها بصديقتها شامية ورسائل نصية متفائلة تأتيها على هاتفها المحمول من شخص لا تعرفه تخفف عنها حزنها، يتضح لها فيما بعد أنها من الكابتن بهجت الذي كان يريد الزواج بها لكنه لما عاد من عمله بالخليج وجدها قد تزوجت.
شامية:
تعمل شامية موديلا للرسامين منذ نعومة أظفارها وقد ورثت المهنة عن أمها وخالتها. المفارقة أن نساء الحارة يعتقدن أنها فاسدة أخلاقيا بينما لا يدرين أنها محافظة على التقاليد وما زالت عذراء كما تبوح لصديقتها ليلى، لذلك فهن دائمات الهجوم عليها حتى يشجعها جو الحمام على الحوار معهن ولا تنكر أنها كانت ترسم عارية في شبابها لأنها لا تخجل من جسدها. بالنسبة لشامية علاقتها الأساسية بأحمد المنكسر الذي عاد من الخليج بخفي حنين حيث سجن لأنه ضرب نارا في الهواء بعد أن سكر بسبب ضيقه من الفراغ والكبت وعاد بعدها لمصر ولم يتزوج شامية لاعتراض أمه عليها بسبب طبيعة عملها. لكن شامية تحبه وتتمناه، بل تجرؤ على التسلل لبيته فجرا لتتحسس جسده معرضة نفسها لهجوم أمه عليها. وبقية علاقاتها تتسم بالعدوانية تجاهها من نساء الحارة أو بغياب أطرافها. وتفضفض لصديقتها الصدوق الوحيدة ليلى بحزنها على وحدتها بينما تزوج أحمد الذي تحبه وأنجب طفلين.
الماستر سين لشامية هو المشهد الذي تنهار فيه بسبب ما تعيشه من كبت ووحدة رغم تملكها للكثير من المقتنيات التي لا تعوضها عن حياة عاطفية وجنسية حرمت نفسها منها بإرادتها حتى لا تنجب طفلا لا تعرف من والده من بين الرسامين الذين تقف أمامهم عارية ليرسموها، حتى الرجل الذي تحبه تخلى عنها، وتصف نفسها بأنها "حمارة تحب حمارا لا يحس بها". وتتضح وحدتها في هذا المشهد حين لا تجد من يحنو عليها غير ليلى، لكن بقية الجارات يعلقن على انهيارها العصبي قائلات إن سببه "مشيها البطال". أما غير المنطقي فهو أن هذا المشهد أتى عقب مشهد الحمام الذي تتقارب فيه النساء مع شامية، فلا مبرر إذن لأن يتهمنها بسوء السلوك بعد أن حدث بينها وبينهن تقارب إنساني في الحمام. وربما فات على المخرجة والمونتير الترتيب المنطقي لهذا المشهد بسبب كثرة الحذف وإعادة التركيب التي تعرض لها الفيلم حسب تصريحات مخرجته.
عزة:
النموذج النسائي الثالث هي عزة وهي من صاحبات التخلف العقلي البسيط الذي يرشحها دراميا للعب دور الكلاون الذي يكشف مواضع الضعف والعيب فيمن يعلونه مقاما، لكن الفيلم لم يوظفها في هذا الدور.
بساطة عقل عزة تجعلها تندفع بتلقائية لإشباع رغباتها البريئة دون حساب لعواقبها، مثلما ابتاعت مايوها من وكالة البلح واندفعت لتلقي بنفسها في حمام السباحة مع جهلها بها حتى كادت تغرق، وكانت أولى النساء اللاتي جرؤن على استخدام الحمام، كما تجرؤ على لعب الكرة مع صبية الحارة وهو ما لا تجرؤ عليه غيرها من شابات الحارة ممن هن في مثل سنها. لكن بساطة عقلها لا تحول دون تحملها لمسئولية جدتها المريضة وتعيش معها على عطايا الجيران الذين يرسلون لهما الطعام، فهي يتيمة مات والداها في حادث موتوسيكل.
ينحصر عالم عزة في جدتها حتى تقع في حب إبراهيم الميكانيكي (أحمد داود) رمز ابن البلد الشهم الذي لا يستغل طيبتها لنيل مآربه، بل يتحمل مسئوليتها ويحقق لها أحلامها البسيطة مثل وجبة من كنتاكي أو زجاجة برفان من عند ليلى، ولا يسخر من أوهامها التي تعتبرها حقائق مثل أنها تعرف مصر أخرى يأكل فيها الناس يوميا كميات هائلة من الطعام ويدفنون بقاياه.
نهايات سعيدة:
ينتهي الفيلم وقد اجتمع الأحبة وتحددت المصائر. أول ثنائي يختم بهما الفيلم سرده هما بهجت وليلى يجلسان على شط النيل يمسك يدها ويبثها حبه، وهي تقول إنها تعرف أنه هو الذي يرسل لها الرسائل على الموبايل. لكن ذكريات الموت والغربة تخيم على هذه الجلسة الرومانسية. يخبرها أنه سافر للخارج وعاد لأنه يريد أن يموت في مصر. وتخبره أنها ما زالت على قيد الحياة لأنها سبقت زوجها وابنها في العودة لمصر بينما سافرا في العبارة.
الشخصية الثانية التي يتحدد مصيرها هي شخصية المتطرف الذي يهين عزة ويجرها من بيتها إلى الحارة ويضربها ويشكك في سلوكها ويتدخل الناس لإنقاذها فيسب الجميع وينعتهم بالأنجاس، فيطردونه خارج حارتهم غير مأسوف عليه. وهي نهاية سعيدة لأهل الحارة حتى لو كانت عكس ذلك بالنسبة للمتطرف.
ويقدم الفيلم مصير عزة وشامية في تتابع واحد بالقطع المتوازي بين عزة وإبراهيم وقد سادهما الانسجام ووافقت على ركوب الموتوسيكل معه بل قامت بحركات بهلوانية على الموتوسيكل منها حركة تقف فيها على الموتوسيكل وتفرد ذراعيها مثلما فعلت بطلة فيلم تيتانيك، مع القطع المتوازي أكثر من مرة بينهما وبين شامية وأحمد الذي يصارحها بحبه ويتبادلان القبلات ثم يمارسان الجنس. ولم أجد هنا وظيفة لهذا النمط من القطع في معالجة هاتين الشخصيتين ولا أعرف لماذا لم يقدمهما الفيلم متتابعين كما حدث مع من سبقهما أو لماذا لم يتبع أسلوب القطع المتوازي مع جميع الشخصيات، فلكل أداة من أدوات المونتاج دلالتها لكنها هنا استخدمت عشوائيا.
وللحمام أيضا نصيبه من النهايات السعيدة، فقد عاد للعمل بعد تعطل طال ونزلته النساء رغم أن الحارة مازالت موحلة ومجاريها طافحة، لكن ماذا يهم؟ فكله تمام وقد تحققت جميع الأحلام.