الأربعاء 1 مايو 2024

«الحشاشين» فى زمن «الإسلاموفوبيا»

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 01:02

بقلـم: أشرف غريب
فى الثامنة من صباح الثامن عشر من أكتوبر 1981 وبعد اثنى عشر يوما فقط من اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات على يد جماعة الجهاد الإسلامى كانت المحاضرة الأولى لى بالفرقة الأولى بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وكان المحاضر فيها هو الكاتب الصحفى الكبير عاطف الغمرى مدير تحرير الأهرام آنذاك ومحررها السياسى البارز الذى انتدبته الكلية لتدريس مادة الترجمة الصحفية، بدأ الرجل الفاضل منهجه بلفت انتباهنا للمصطلحات غير الإنجليزية التى بات استخدامها فى الترجمات الصحفية كما لو كانت مفردات أصيلة فى صلب اللغة الإنجليزية، وبما أننا كنا فى ظلال عملية اغتيال كبرى، طالت رأس الدولة فى ذلك الوقت، قامت بها عناصر نصَّبت نفسها - باسم الدين - القاضى والجلاد فى آنٍ واحدٍ، ودفعت إلى الواجهة الحديث عن «أسلمة» السياسة أو تسييس الدين، فإن أول مفردة أتت على ذهن الأستاذ الغمرى كانت كلمة «Assassins» نسبة إلى فرقة أو طائفة الحشاشين التى روَّعت العالم القديم إرهابا وقتلا؛ حتى أصبح الاغتياليون أو المغتالون فى كل لغات العالم هم «Assassins» وعملية الاغتيال نفسها هى «Assassimation» من الفعل «Assassinaate» فى إشارة إلى سطوة ونفوذ تلك الجماعة التى امتد تأثيرها إلى خارج حدود منطقة الشرق الأوسط زمن ضعف الخلافة العباسية وكل الممالك والدول التى انشقت عنها؛ حتى وإن بقيت صوريا تحت لواء الخليفة العباسى فى بغداد. خرجت من هذه المحاضرة لأبحث – فى زمن لم يكن قد أظلنا فيه بعد عصر الشبكة العنكبوتية – عن أصل هذه الفرقة وعن زعيمها حسن الصباح، وعن المذهب الإسماعيلى وعن الإثنى عشرية، وما فعله الشطط الشيعى المتمركز فى إيران فى تاريخ الدولة الإسلامية، وكيف كرَّست هذه الفرقة المتمسحة فى الدين لما بات يعرف باسم «الإسلام السياسى» الممتد بجذوره منذ القرن الحادى عشر زمن الحشاشين وحتى امتداداته وظلاله الحالية مع اختلاف مسمياتها شيعية كانت أو سنية، داعشية هى أو إخوانية، المهم أنها تتخذ من العنف والإرهاب وسيلة لتحقيق أغراضها السياسية، وتعتبر الدين مطية للسيطرة على عقول الأتباع والمريدين الموعودين بالجنة ونعيمها. ومن هنا تأتى أهمية ما أقدمت عليه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية حين تصدت لإنتاج مسلسل «الحشاشين» المعروض حاليا على شاشة رمضان من بطولة كريم عبد العزيز ومجموعة كبيرة من ممثلى مصر والعالم العربى تحت قيادة المخرج المتميز بيتر ميمى عن نص للمبدع عبد الرحيم كمال، فنحن أمام عمل مبهر بكل المقاييس أخذ وقته الكافى فى الإعداد والتجهيز، ولم تبخل عليه الشركة المنتجة حتى صار – فى ظنى – أهم وأضخم عمل درامى تاريخى عرفته الشاشة المصرية مؤكدا قدرة مصر على المنافسة فى هذه النوعية من الأعمال التاريخية بعد أن كاد الآخرون فى المنطقة يفقدوننا ثقتنا فى قدراتنا الفنية واستطاعتنا تقدم السباق من جديد. الدافع الآخر وراء تقديم مسلسل «الحشاشين» هو أن جيلا كاملا لا يعرف كيف تجذرت ظاهرة الإسلام السياسى فى مجتمعاتنا؟ وكيف اختلط الحق بالضلال فيما يتعلق بالإرهاب الدينى حتى بات معظم من يتكلمون فى الدين كما لو كانوا يملكون مفاتيح الجنة وصك دخولها، لقد كان حسن الصباح وخلفاؤه من أنصار الدعوة النزارية الإسماعيلية يتحدثون فى الدين باعتبارهم الملهمين المبشرين بالمهدى المنتظر، ويستخدمون فى دعواهم من أجل زيادة أعداد المناصرين شتى أساليب التأثير بين الترغيب والترهيب، فهم وإن كانوا يحملون مفاتيح الجنة وقادرون على استحضارها على الأرض فوق قمة قلعة «ألموت» أو «عش النسر»، فهم أيضا ذوو بأس وقوة هزموا جيوشا نظامية، واغتالوا ملوكا وسلاطين وقادة بل ورجال دين أيضا، ما يعنى أنهم لن يترددوا فى اغتيال منْ يجاهر بالاختلاف معهم حتى لو كان رجلا بسيطا، فما بالنا وقد قتل حسن الصباح ولديه وأشاع الخبر بين العوام حتى يستقر الرعب فى قلوب الأعداء والمريدين على السواء ضامنا الولاء الكامل والطاعة العمياء على طريقة كل جماعات الإسلام السياسى فى أى زمان ومكان. لقد فتح مسلسل «الحشاشين» شهية الكثيرين للبحث فى تاريخنا الإسلامى وجذور العنف والتطرف الذى ربما يكون قد بدأ لحظة مقتل الخليفة الثانى عمر بن الخطاب على يد «أبولؤلؤة المجوسى»، وهذه قيمة الأعمال الفنية التى تُحرك المياه الراكدة وتدفع العقول إلى ما وراء ما يشاهدونه على الشاشة، وأنا شخصيا لم تقلقنى حملات الانتقاد التى طالت المسلسل، وأعتبرها ظاهرة صحية إلا من أولئك المغرضين الذين راعهم أن يكشف المسلسل جذور أفكارهم الخبيثة المتدثرة باسم الدين والعقيدة، أما منْ هم دون ذلك فمساحة النقد مقبولة، بل ومرغوبة أيضا.. فالذين مثلا استوقفتهم عبارة «أباطيل وأبطال من وحى التاريخ» الموجودة فى تتر الحلقات وراحوا يتحدثون عن حدود الدقة التاريخية فيما يحمله المسلسل من أحداث، أقول لهم إن الفترة التاريخية نفسها التى شهدت نشوء فرقة الحشاشين هى محل خلاف بين المؤرخين إذ ليس هناك من يحسم – على سبيل المثال – أمر معاصرة الشاعر والفيلسوف عمر الخيام لزمن حسن الصباح، وهناك من يشكك فى أن الظروف المناخية فوق جبال فارس المغطاة بالجليد لم تكن لتسمح بأنهار الخمر واللبن والأشجار المورقة التى تحدث عنها الرحالة مارك بولو فى كلامه عن قلعة شيخ الجبل حسن الصباح، والذين ذهبوا إلى أن مؤلف الحلقات عبد الرحيم كمال كان متأثرا إلى حد بعيد برواية «سمرقند» للمؤلف الفرنسى لبنانى الأصل أمين معلوف الصادرة بالفرنسية عام 1988 أقول لهم ربما يكون فى هذا شىء من الصحة، لكن الرجل قد قرأ حتما لكل من كتب عن «الحشاشين» ودعوتهم الباطنية عربا وغير عرب من أول الإمام أبو حامد الغزالى ومارك بولو وابن الأثير والشهرستانى وجون. ف. همر وصولا إلى عبد الرحمن بدوى وعباس العقاد ومحمد عثمان الخشت وغيرهم، ومع ذلك فقد عصم المؤلف نفسه بتلك العبارة الواردة فى مقدمة الحلقات من أن يصنفه أحد على أنه قدم لنا مسلسلا تاريخيا صرفا. فى يقينى أن عبدالرحيم كمال أراد تقديم عمل يأخذ من التاريخ وقائعه الفاصلة، ومن الخيال جنوحه نحو الأسطورة، ومن الدين تجلياته الصوفية التى يتستر خلفها فكر الحشاشين المتعطش للدماء والسلطة والنفوذ. أما منْ استهجنوا اعتماد المسلسل على العامية المصرية فدعهم وشأنهم، يكفى أن تلك اللهجة قد زادت من قاعدة مشاهدى الحلقات دون أن ينفر منها أولئك الذين يأخذون موقفا من الأعمال التاريخية، ومن ثم وصلت الرسالة ونجح العمل فى الدخول إلى تلك المنطقة الشائكة من تاريخنا الإسلامى بكل ما تحمله من إسقاطات راهنة فى زمن الإسلاموفوبيا، زمن نجح فيه أعداء الدين فى الخلط بين من هو باطنى مغرض، وبين من يعرف صحيح دينه وسماحة الإسلام.