الإثنين 29 ابريل 2024

وثيقة المدينة (3) الحقوق والواجبات.. والمساواة وعدم التمييز

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 01:54

بقلـم: د. محمد أحمد سرحان
نصت وثيقة المدينة على أن جميع المواطنين أمة واحدة من دون الناس، بقطع النظر عن تنوعهم وانتماءاتهم الدينية أو القبلية أو غيرها، فكانت المساواة التى تتطلع إليها، أو تنشدها المجتمعات المتحضرة فى عصرنا الحاضر، تقول الوثيقة: (هذا كتاب من محمد النبى (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس)، وهذه الوحدة قامت أول ما قامت على المساواة التى لا تعرف التمييز بين أى من أطراف الموقعين على هذه الوثيقة، ويمكن أن نجمل هذه الحقوق والواجبات فيما يلى: الحقوق: حق المواطنة: وهى للمسلمين بمقتضى إسلامهم، ولغير المسلمين بمقتضى الإقامة فى المدينة والالتزام بأحكام الوثيقة، وقد ورد فى الوثيقة (يهود بنى عوف أمة من المؤمنين). حرية الاعتقاد والتدين: أى حق ممارسة الشعائر من غير أن يضيق عليه، فالمسلمون لهم عقيدتهم وشعائرهم، وغيرهم لهم عقيدتهم وشعائرهم (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى دِينِ) الكافرون: آية (6)، وقد ورد فى الوثيقة (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم). حق الأمن: وهو العيش بلا خوف على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وكذلك الأمان فى الإقامة والسفر، وقد جاء فى الوثيقة (وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وإثم). حق المساواة: فأفراد المجتمع جميعهم أمام القانون سواء، فى المعاملة وعصمة الدماء، لأن النفس البشرية لها الحرمة نفسها أمام الشرع، وفى نص الوثيقة (وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم). حق التملك: أى أن كل إنسان له أن يتملك ما يشاء، ويبيع ما يشاء، ويشترى ما يشاء، وهذا للمسلمين وغير المسلمين فلهم ذمتهم المالية المستقلة، وفى نص الوثيقة (وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم). الواجبات: احترام ما نصت عليه الوثيقة: أى احترام النظام والقانون الذى نصت عليه الوثيقة وقد جاء فيها (وإنه ما كان بين أهل هذه الوثيقة من حدث أو اشتجار فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله), التكافل الاجتماعي: فى فداء الأسرى، ودفع دية القتل الخطأ وغير ذلك، ونص الوثيقة (المهاجرون من قريش على ربعتهم «عاداتهم» يتعاقلون بينهم) التناصح: ويكون بإرادة الخير لكل أفراد المجتمع، وتحقيق الثقة المتبادلة بينهم، نص الوثيقة (وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم). التعاون على منع الظلم: ونص الوثيقة (وأن المؤمنين أيديهم على كل من بغى عليهم ولو كان ولد أحدهم). مشاركة الجميع فى الدفاع عن المدينة: فإن حدث اعتداء من أى أحد كائن من كان يتعاون الجميع فى الدفاع عن المدينة، كما يجب عليهم الإنفاق عند احتياج الدولة، ونص الوثيقة (وأن بينهم النصر على من حارب أهل الوثيقة). منع تقديم أى مساعدة لمن يهدد مجتمع المدينة: والنص الذى يدل على ذلك (وإنه لا يجير مشرك ما لا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن). ومن هنا فقد حولت هذه الوثيقة المجتمع من قبائل مبعثرة إلى أمة واحدة، وإلى مجتمع يسوده القانون والقيم والأمن والأخلاق الفاضلة، لا يعرف التمييز الطبقى أو العرقى أو غيره، لا فرق فيه بين بلال الحبشي، وصهيب الرومى، وسلمان الفارسى، ولا فرق بينهم وبين إقحاح العرب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إن اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: آية (13) والنبى (صلى الله عليه وسلم) نفسه، وهو السيد وهو النبى مثل أعلى فى ذلك، كما هو المثل الأعلى فى كل شيء، يقول (إنما أنا عبد آكل وأجلس، كما يأكل العبد ويجلس) فهذه كلمات السيد بنسبه، السيد بإمامته، السيد بالتفاف القلوب حوله. موقف المنافقين وحكمته صلى الله عليه وسلم لم يرق للمنافقين أن يروا هذه المساواة وهذه الوحدة، فعملوا فى كل مناسبة على ضربها، والعودة إلى العصبية الجاهلية، من ذلك ما كان من عبدالله بن أبى ابن سلول رأس المنافقين فى غزوة المصطلق لما أراد إشعال الفتنة بين المهاجرين والأنصار وأشار سيدنا عمر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقتله، لكنه رفض (صلى الله عليه وسلم) وترفق به قائلا: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). فقد روى.. أنه بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن بنى المصطلق يجمعون له، فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم الله بنى المصطلق، وقد أصيب رجل من بنى كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ، فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه، فازدحم جهجاه وسنان الجهنى حليف بنى عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنى: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبدالله بن أبى ابن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن، فقال: قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، والله ما عدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: «سمن كلبك يأكلك» أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على مَن حضر من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وذلك عند فراغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من غزوه، فأخبر الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل» وذلك فى ساعة لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرتحل فيها، فارتحل الناس، وقد مشى عبدالله بن أبى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين بلغه أن زيدا بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وكان عبد الله بن أبى فى قومه شريفا عظيما، فقال من حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أصحابه من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، فلما مضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أوما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: فأى صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبى»، قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل» قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله أرفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا، ثم مشى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبى. ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له نقعاء، فنزلت السورة التى ذكر الله فيها المنافقين فى عبد الله بن أبى ابن سلول، ومن كان معه على مثل أمره، فقال: (إذا جاءك المنافقون) فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأذن زيد فقال: «هذا الذى أوفى الله بأذنه» وبلغ عبدالله بن عبدالله بن أبى الذى كان من أبيه وكان شابا مؤمنا. أثر حكمة الرسول وموقفه من عبدالله بن أبى بن سلول: كانت النتيجة أن عبدالله بن عبدالله بن أبى أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إنه بلغنى أنك تريد قتل عبدالله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله، فلا تدعنى نفسى أن أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبى يمشى فى الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: «كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم أمرتنى بقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» قال: فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعظم بركة من أمرى.