الأحد 5 مايو 2024

شباب حول الرسول (3) عبدالله بن عباس.. حبر الأمة وترجمان القرآن

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 02:12

بقلـم: د. هدى محمود درويش
لقد كان لشباب دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، مكان ومكانة عظيمة، ولم لا وقد رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم أطفالًا، ومنهم من دعا له، ومنهم من تعلم منه، فأصبحوا رجالًا أشداء، وقادة عظماء، وعلماء أجلاء، ففتحوا الأمصار، وعلموا أهلها العلم، ومن بين هؤلاء صحابى كريم من شباب الدولة المحمدية، الذى أجلسه الرسول فى حجره وهو طفل ومسح على رأسه ودعا له بالعلم، والفقه وفهم تأويل القرآن قائلًا: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل»، ودعا له بعلم القرآن والحكمة أيضًا: «اللهم علمه الكتاب، اللهم علمه الحكمة، هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى رأى أمين الوحى سيدنا جبريل مرتين، وعلمه الرسول فى صغره أهم درس فى العقيدة، إنه سيدنا عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب، قال: كنت خلف النبى صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام، إنى أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». ولد حبر الأمة وفقيهها وإمام التفسير، ببنى هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وكان النبى صلى الله عليه وسلم دائم الدعاء له، وقد روى 1660 حديثا، فكان عبد الله بن عباس مقدما عند عثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، ثم جعله على بن أبى طالب، واليا على البصرة وكان عمره يوم وفاة النبى محمد 14 عامًا. ولعل فى حياة سيدنا عبدالله بن عباس الكثير من المواقف التى جعلت منه فقيهًا فذًا، ومفسرًا جليلًا كان يرى أن الجدال بالتى هى أحسن ومواجهة الحجة بالحجة والمنطق هو أعظم سبل الهداية، فقد ناظر رضى الله الخوارج، وغلبهم وأسقط حججهم، فرد على كل أسئلتهم بالأدلة الشرعية سواء من القرآن الكريم أو من فعل رسول الله، فغلبهم بحجته، وأقنعهم بمنطقه، فهدى الله على يديه جماعة كبيرة منهم عادوا إلى صفوف المسلمين ليجتمعوا على كلمة واحدة ونبذوا الفرقة، وبقى منهم من بقى على موقفه من يريد إلا الجدال وشق الوحدة فى الدولة الإسلامية فى عهد الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، فكان ابن عباس رضى الله عنه يمتلك إلى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة، فكانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة، وإليك عزيزى القارئ أضع بين يديك هذه المناظرة التى سجلتها السيرة وكتب التاريخ الإسلامى من أعظم المناظرات فى التاريخ الإسلامى، حيث بعث به الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليه ذات يوم إلى طائفة كبيرة من الخوارج فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب، من ذلك الحوار الطويل نكتفى بهذه الفقرة، سألهم ابن عباس: «ماذا تنقمون من عليّ..؟». قالوا: ننقم منه ثلاثا: أولاهنّ: أنه حكّم الرجال فى دين الله، والله يقول إن الحكم إلا لله. والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!. والثالثة: رضى عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين..». وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال: «أما قولكم: إنه حكّم الرجال فى دين الله، فأى بأس..؟ إن الله يقول: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)، فنبؤنى بالله: أتحكيم الرجال فى حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم فى أرنب ثمنها درهم؟ تلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم، واستأنف حبر الأمة حديثه: «وأما قولكم: إنه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم؟ وهنا كست وجوههم صفرة الخجل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم، وانتقل ابن عباس إلى الثالثة: «وأما قولكم: إنه رضى أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، إذ راح يملى الكتاب الذى يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال لهم الرسول: والله إنى لرسول الله وإن كذبتم، ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: أكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله»، واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز، وما كاد ينتهى النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الإمام عليّ. يُعد ابن عباس من أشهر مُفسرى القرآن من الصحابة، مع أنه كان أصغرهم سنًا، حتى لُقِب بـ ترجمان القرآن، يقول عبد الله بن مسعود: «نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس»، وقد اشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة، ذكرهم السيوطي، فقال: «اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبى بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير». وقد كان ابن عباس يُتقن تفسير القرآن كله، وقد كان مجاهد بن جبر يسأله عن تفسير القرآن ومعه الواحة، ويكتب ما يقوله حتى يسأله عن التفسير كله، فيقول مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأساله عنها».. وقد كان ابن عباس يقول: «كُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا ثَلَاثًا، الرَّقِيمَ وَغِسْلِينَ وَحَنَانًا». وكان لابن عباس مجلس كبير فى المدينة يأتيه الناس لطلب العلم، ومدح معاصروه طريقته فى الخطابة والأخذ بقلوب وعقول مستمعيه، فيقول صعصعة بن صوحان: «إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف، وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه»، وكان ابن عباس يجلس يومًا ما يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا ما يذكر فيه إلا التأويل، ويومًا ما يذكر فيه إلا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب. أصيب ابن عباس بالعمى فى أواخر حياته، ومات عام ثمان وستين من الهجرة، وكان عمره إحدى وسبعين عامًا، فى سنة 68 هـ بالطائف، وتولى دفنه على بن عبد الله ومحمد بن الحنفية، والعباس بن محمد بن عبد الله بن العباس وصفوان، وكريب، وقد روى الحاكم عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طير لم ير على خلقته ودخل فى نعشه، فنظرنا وتأملنا هل يخرج فلم يرَ أنه خرج من نعشه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، ولا يدرى من تلاها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِي وَادْخُلِى جَنَّتِي﴾. وقد شهد لابن عباس كثير من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة، حيث روى ابن سعد عن عائشة أنها نظرت إلى ابن عباس وحوله الناس ليالى الحج، وهو يسأل عن المناسك، فقالت: هو أعلم من بقى بالمناسك، وقال له عمر بن الخطاب: والله، إنك لأصبح فتياننا وجهًا، وأحسنهم عقلًا، وأفقههم فى كتاب الله عز وجل، وقال عنه أبى بن كعب وكان عنده ابن عباس، فقام، فقال: هذا يكون حَبْر هذه الأمة، أرى عقلًا وفهمًا، وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُفقِّهه فى الدين.. فرضى الله عن حبر الأمة سيدنا عبدالله بن عباس.