الإثنين 29 ابريل 2024

ابن عطاء الله السكندرى.. العارف بالله شيخ الطريقين وإمام الفريقين علمنى من علمك المخزون وصنّى بسر اسمك المصون

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 02:46

تقرير: رانيا سالم - سناء الطاهر
«الجامع لأنواع العلوم من تفسير وحديث وفقه وتصوف ونحو وأصول، قطب العارفين، وترجمان الواصلين ومرشد السالكين، واسطة عقد بين قطبين كبيرين، وأحد كبار مؤسسى التجربة الصوفية المصرية، ناظَر ابن تيمية، فكان بليغ البيان، قوى الحجة، برع فى صياغة الحكمة وصناعتها، وكانت مناجاته لله سبحانه وتعالى فيوضات روحية، تلهج بها قلوب الذاكرين، تحمل من القيم والمعانى والتجلّيات ما يضمن لها أن تبقى على ألسنة المريدين قرونًا طويلة».. هو تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبدالرحمن بن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن الحسين بن عطاء الله الجدامى نسبًا، كنيته أبو الفضل، ولقب بتاج الدين، واشتهر بـ«ابن عطاء السكندرى». ابن عطاء الله السكندرى، الذى ينتسب إلى قبيلة جدام التى قدمت إلى مصر عقب الفتح الإسلامى وقطنت الإسكندرية. ولد سنة 658 هجرى/ 1260 ميلادى، وتلقى منذ نعومة أظافره العلوم الشرعية واللغوية، كان مشروع فقيه كبير ينكر على المتصوفة الكثير من أفكارهم وممارساتهم، لكن حياته تغيرت وسارت فى الطريق المغاير بعدما التقى شيخه وأستاذه أبو العباس المرسي، الذى ترك فى قلبه وعقله علامة لا تمحى، عندما صار من طليعة مريديه. «أبًا عن جد» هكذا ورث «السكندرى» التفقه، فكان جده لوالده فقيها كبيرًا، أخذ عنه حفيده الكثير، ثم راح يتدرّج فى العلم، لا سيما بعد انتقاله من العداء للصوفية إلى الانغماس فيها، وكان نابهًا تقيًا فتنبأ له «المرسي» بأن يكون له باع طويل فى مسيرة التصوف، فقال له يوما: «الزم، فوالله لئن لزمت لتكونن مفتيا فى الْمذهبين»، قاصدًا بذلك مذهب «أتباع الشريعة» و«أصحاب العلم اللدني» من الصوفية، ثم قال: «والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعيًا إلى الله وموصلًا إلى الله، والله ليكونن لك شأن عظيم»، فكان كما أخبر، بل تحقق ذلك فعلا إذ صار «ابن عطاء» أحد أركان الطريقة الشاذلية الصوفية التى أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلى عام 1248 وخليفته أبوالعباس المرسى عام 1287. «الإنكار والعداء للصوفية» كان منهج «السكندرى» فى بدايته فكان يقول: «من قال إن هنالك علمًا غير الذى بأيدينا فقد افترى على الله عز وجل»، لكنه عاد من هذا الإنكار قائلا: «كنت أضحك على نفسى فى هذا الكلام»، حتى أنه دون فى كتابه «لطائف المنن»: (جرت بينى وبين أحد أصحاب سيدى أبو العباس المرسى رضى الله عنه قبل صحبتى له وقلت له: «ليس إلا أهل العلم الظاهر وهؤلاء القوم يدّعون أمورًا عظيمة وظاهر الشرع يأباها»، بعدها قلت لنفسى دعنى أذهب أنظر إلى هذا الرجل، فصاحب الحق له أمارات، فقال فأتيته فوجدته يتكلم فى الأنفاس التى أمر الشارع بها فأذهب الله ما كان عندي). «الحكم العطائية» أبرز مؤلفات «ابن عطاء»، وتناول الكتاب عدة أقسام منها التوحيد والتصوف والأخلاق، وترك «ابن عطاء» خلفه تراثا كبيرا من المؤلفات منها «لطائف المنن فى مناقب الشيخ أبى العباس والشيخ أبى الحسن، القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد، الطريق الجادة فى نيل السعادة، المرقى إلى القدير الأبقى، مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح فى ذكر الكريم الفتاح، مختصر تهذيب المدونة للبرادعى فى الفقه». أراء عدة سردها علماء فى حق «السكندرى»، فقال عنه الشيخ أحمد زروق: «كان جامعًا لأنواع العلوم من تفسير وحديث وفقه ونحو وأصول وغير ذلك، كان رحمه الله متكلمًا على طريق أهل التصوف واعظا انتفع به خلق كثير وسلكوا طريقه». وفى «الدرر الكامنة» قال عنه ابن حجر العسقلاني: «صحب الشيخ أبا العباس المرسي، صاحب الشاذلي، وصنف مناقبه ومناقب شيخه، وكان المتكلم على لسان الصوفية فى زمانه. وكان من كبار القائمين على الشيخ تقى الدين ابن تيمية»، أما «الذهبى» فقال: «كانت له جلالة عظيمة، ووقع فى النفوس، ومشاركة فى الفضائل، وكان يتكلم - بالجامع الأزهر فوق كرسى - بكلام يروّح النفوس». وتحدث «ابن الأهدل» عن إنكار «السكندري» للصوفية وعودته ليصبح أحد أهم رموزها: «الشيخ العارف بالله، شيخ الطريقين وإمام الفريقين، كان فقيهًا عالمًا ينكر على الصوفية، ثم جذبته العناية فصحب شيخ الشيوخ المرسي، وفُتح على يديه وله عدة تصانيف، منها الحكم. وكله مشتملة على أسرار ومعارف، وحكم ولطائف، نثرًا ونظمًا. فمن طالع كتبه عرف فضله». يشار هنا، أنه من المواقف التى لطالما تذكر عندما تأتى سيرة «السكندري»، المناظرة التى انعقدت بينه وبين ابن تيمية، والتى نقلها ابن كثير وابن الأثير، حيث يقال إن «ابن تيمية كان منفيًا بالإسكندرية، ثم عفا عنه السلطان فجاء إلى القاهرة، وذهب ليصلى المغرب بالأزهر خلف السكندري، الذى فوجئ به، فهنأه بسلامة الوصول وبدأت بينهما مناظرة طويلة أنهاها «السكندري» بقوله لـ«ابن تيمية»: «أرأيت ما فعله الفاسقان بيبرس وسلار بالرعية منذ خلع الناصر نفسه فانفردا بالحكم، وإن عاد السلطان الناصر وهو يؤثرك على كل الفقهاء ويستمع لك فأسرع إليه وانصح له». توفى ابن عطاء فى 709 هـجرى، ودفن بزاويته التى كان يتعبد فيها بمقبرة المقطم، ولا يزال قبره إلى الآن تحت جبل المقطم من الجهة الشرقية لضريح الإمام الليث بن سعد، ليتم إقامة مسجد وضريح على قبره قام بافتتاحه وقتها الرئيس محمد أنور السادات فى 23 يوليو1973. يقول الشيخ محمد عبد العزيز الشريف، من علماء وزارة الأوقاف: أصبح «السكندري» أستاذا يؤخذ عنه ويتتلمذ المريدون عليه، ومنهم أعلام مثل ابن المبلق السكندرى وتقى الدين السبكى شيخ الشافعية، شهاب الدين أبى العباس، وترك ابن عطاء الله السكندرى الكثير من الكتب والمصنفات، بعضه طمره النسيان وضاع، وبعضه بقى شاهدًا على فلسفة صاحبه وتقواه، ومن بين هذه الكتب «لطائف المنن»، الذى أفرده فى سرد مناقب الشيخين أبى العباس المرسى وأبى الحسن الشاذلى وشرحها، وغيرهم مثل «القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد»، «عنوان التوفيق»، «تاج العروس الحاوى لتهذيب النفوس»، «مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح»، لكن أهمها وأخلدها «الحكم العطائية»، الذى انتشر وذاع وترجم إلى اللغات الأجنبية وكتبت الشروح له. «عبدالعزيز»، أضاف: مصنفات وكتب الشيخ «السكندري» انكب عليها العلماء قديمًا وحديثًا وجعلوها منطلقًا لدروسهم التى تشد إليها الناس بنورانيتها وإشراقاتها، وما زال بعضها يدرس فى كليات جامعة الأزهر إلى اليوم، لكن للأسف القليل منها مطبوع فيما تاه أغلبها على رفوف المكتبات العامة والخاصة، وينتظر من يحققه ويقدمه إلى الناس المتعطشين إلى ما يغذى الروح، ويجعل النفس تهيم عشقًا بالله تعالى. ودلل «عبد العزيز» على رقة وعذوبة مقولات «السكندرى» بعدد منها، وهى الأكثر تداولًا: «أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك، تشَوُّفُك إلى ما بَطُنَ فيك من العيوب خيرٌ مِن تشوُّفِك إلى ما حُجِبَ عنك من العيوب، من علامات موت القلب عدمُ الحزنِ على ما فاتك من الموافقات، وترك الندم على ما فعلتَهُ من وجود الزلاَّت». «مناجاة إلهية عبر دعوات ومناشدات صافية راقية»، هكذا يصف «عبد العزيز»مناجاة «السكندرى» لله عزوجل، والتى تُعدّ قطعًا من الأدب الصوفى الرفيع، ومنها المناجاة التى قال فيها: «إلـهي.. كلما أخرسنى لؤمى أنطقنى كرمك؟ كلما آيستنى أوصافى أطمعتنى مننك، إلـهي: هذا ذلى ظاهر بين يديك، وهذا حالى لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدلّ عليك, اهدنى بنورك إليك، وأقمنى بصدق العبودية بين يديك، إلـهي: علّمنى من علمك المخزون, وصنّى بسر اسمك المصون, بك أنتصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلني، وإياك أسأل فلا تخيّبني، وفى فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني». ولفت «عبد العزيز»، إلى أن «السكندرى» أعلى ورفع من شأن قلوب الأولياء ووصفها بأنها تعلو على أنوار الكواكب أو كما قال: «إن لله عبادًا كلما اشتدت ظلمة الوقت قويت أنوار قلوبهم، فهم كالكواكب، كلما قويت ظلمة الليل قوى إشراقها، وأين نور الكواكب من أنوار قلوب أوليائه، أنوار الكواكب تتكدر وأنوار قلوب أوليائه لا انكدار لها، وأنوار الكواكب تهدى فى الدنيا إلى الدنيا وأنوار قلوب أوليائه تهدى إلى الله تعالى». وحول فلسفة «السكندري» فى علاقة العبد بربه، قال «عبد العزيز»: شملت ثلاثة محاور علامات القرب، وعلامات الوصول إلى الله، وعلامات الاختصاص بالله، فقرب العبد من ربه يتطلب ترك الحظ، والقيام بالحق، والتواضع لله فى الخلق، أما الوصول إلى الله فيحتاج مرتبة الفهم عن الله تعالى، والاستماع من الله، والأخذ عن الله، والاختصاص بالله يتطلب ترك الاختيار، وسلب التدبير، وسلب الإدارة، و«السكندرى» لم يقف عند هذا الحد فى وصف مراتب العلاقة بين العبد وربه، بل وضع ثلاث علامات أخرى لبيان صحة محبة العبد لربه ولخصها فى «عدم الاختيار، واستحلاء كل واقع من الأقدار»، و«رؤية كمال المحبوب فى كل شئ»، وإسلاما له فى كل شيء».