الثلاثاء 30 ابريل 2024

بعض من أسرار عملية استعادة الإعلام المصرى

الكاتب الصحفي محمد الباز

6-4-2024 | 01:57

بقلـم: د. محمد الباز
فى اجتماعه الأول مع رجال وقيادات الإعلام بعد أن تولى منصبه كرئيس لمصر فى يونيو 2014 قال لهم: أريد أن أقتسم المسئولية معكم... لدينا تحديات فى الداخل والخارج، أنا كفيل بالخارج سأحسم معركته، أما الداخل فعليكم... لابد أن يعرف الناس ما يحيط بمصر، لابد أن يكون لديهم وعي كامل بكل ما يراد بنا. لم يكن ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسى خروجا على منهجه الذى جاء ليحكم مصر من خلاله. إذا حاولنا أن نضع عنوانا لهذا المنهج سيكون «مشاركة لا مفارقة». ظهر لى هذا واضحا فى شعاره الذى رفعه طوال حملته الانتخابية الرئاسية الأولى «كل ما أملكه هو العمل... وكل ما أريده منكم هو العمل». وظهر لى أكثر عندما كان يجلس مع بعض رجال المال والأعمال قبل الانتخابات الرئاسية الأولى، عرض عليهم خريطة أحلامه وطموحاته التى يتصدى بها لجبال التحديات التى لا تعرقل الطريق فقط بل تقطعه على كل من يريد أن يمضى إلى الأمام. قال له أحدهم: أعانك الله يا فندم، فرد عليه على الفور: بل أعاننا الله جميعا... فأنا لن أعمل وحدى. قرر أن يعمل مع الجميع وبالجميع. وهو ما جعله يتحدث مع الإعلام بصراحة مطلقة عن المهمة التى يجب أن يقوم بها، وهى المهمة التى أعتقد أنها استغرقت وقتا حتى تكتمل، وتكلفت كثيرا حتى تتم، والمفارقة أن دفعها إلى القيام بها على الوجه الأكمل لم يتم من داخلها، بل كان لابد من التدخل فى لحظة فارقة للتنظيم والتوجيه وضبط البوصلة، فمما نأسف له أن حالة من التيه ألمت بالإعلام المصرى بعد 30 يونيو 2013، وحتى يستفيق من توهانه كان لابد من مواجهة. أضاع العاملون فى الإعلام المصرى سنوات طويلة فى محاولة حسم موقفهم، وأعتقد أن هذه السنوات ضاعت لأن كثيرين أرادوا أن يعملوا بأدوات تقليدية فى ظروف استثنائية. كانت الظروف استثنائية بالفعل. وطن يواجه إرهابًا متعدد الجنسيات والهويات والأغراض والمصالح. تقريبا كانت مصر تحارب منتخب العالم فى الإرهاب. دوائر دولية عديدة ومؤثرة قررت أن تحاصرنا استبعادا وتجميدا وقطع علاقات، ودوائر لها وزنها قررت أن تشاهد من بعيد فى انتظار ما تسفر عنه الأحداث حتى تحدد موقفها، وظلت إلى جوارنا دوائر قليلة رزقنا الله ببصيرتها وإدراكها أن مصالحها فى أن تستعيد مصر استقرارها. لم يكن الإرهاب هو التحدى الوحيد. كانت جموع الشعب المصرى فى انتظار حصاد مشاركتها فى ثورتين، سقف الطموح طال السماء، ورغبات الناس أصبحت مجنونة ولن أقول مسعورة، الكل يريد، ولا أحد يفكر فى أن يمد يده ليعمل، وكان على الإدارة الجديدة بعد 30 يونيو أن تسير فى طريقين. طريق مواجهة الإرهاب. وطريق البناء والتنمية لتلبية احتياجات الجموع التى تعيش على أعصابها وتفكر ببطونها. كان يمكن للرئيس السيسى أن يحسم موقفه، كان يمكن أن يقول إن لدينا معركة وجود مع الإرهاب، كان يمكن أن يقول لا تحدثونى فى بناء أو تعمير أو تنمية، دعونى أنتهى من معركة الإرهاب ثم بعد ذلك يكون لكل حدث حديث. ساعتها ما كان لأحد أن يلومه أو يراجعه، لكنه لم يفعل ذلك، لم يختر الطريق السهل، لم يركن إلى الراحة، قرر أن يواصل الليل بالنهار ليحقق حلمه بوطن أفضل للجميع وبالجميع. ينظر الرئيس السيسى للإعلام نظرة خاصة، ويحمل له تقديرا يعرف وحده حدوده وقيمته، وربما لهذا يلح على أن يقوم بدوره الذى ينتظره منه، وربما لهذا أيضا يلوم عليه ويعاتبه كثيرا، لأنه طوال الوقت لا يتعامل معه على أنه مجرد أداة بل شريك حقيقى فى المسئولية. فى شهور العمل الأولى قال الرئيس كلمته الشهيرة: يا بخت عبد الناصر بإعلامه. كان الرئيس يقصد تمامًا ما يقوله، لكن ولأن هناك من يتربص طوال الوقت بما يقوله وينحرف به عن مقاصده، فقد ذهبوا إلى أن الرئيس لا يريد من الإعلام إلا أن يكون تابعا ذليلا يقول ما يراد منه، ولا تكون له مساحة من الحرية ليعبر ويبدع ويرسم صورة حقيقية لما يتم إنجازه على الأرض. لم يكن الرئيس يتحدث عن الجانب المظلم من إعلام عبد الناصر، طبيعة الأشياء تقول إن هناك دائما جانبا مظلما للأشياء، لكنه كان يقصد جانبه المضيء تماما، عندما كان عونا وسندا للدولة فى توجهاتها، يضع يده فى يدها وينهض معها لا يتخلف عنها ولو خطوة واحدة. استسلم كثيرون من الإعلاميين - ولن أقول أكثرهم - لهذه الدعاية السوداء، فقد بدا لى تقدير الرئيس للإعلام من خلال حديثه عنه فى لقاءاته العامة، ولقاءاتنا الخاصة به. كانت الدعوة من القوات المسلحة لعدد من الصحفيين والكتاب، لم يتم الإعلان عن وجهتنا ولا عن الهدف من الدعوة، فقط نزلنا من الطائرة لنجد أنفسنا فى قاعدة شرق القناة، وقتها كانت العملية الشاملة التى تستهدف مواجهة نهائية مع الإرهاب قائمة على قدم وساق. نزل الرئيس من سيارته ببدلته العسكرية، وقادنا معه إلى مركز عمليات الحرب، وقبل أن يبدأ فى متابعة العمليات على الأرض مع قادة الجيوش. وجدناه يوجه كلامه لنا: ما ستسمعونه هنا ليس للنشر، ولكن أردت أن تكونوا موجودين لتعرفوا ما الذى تواجهه مصر، وما الذى نقوم به لتطهير سيناء ومصر كلها من الإرهاب، وعندما تتحدثون مع الناس وإليهم تكون لديكم الخلفية كاملة لما يحدث. وبعد افتتاح بعض المشروعات فى توشكى، جلس الرئيس مع الإعلاميين فى جلسة خاصة، وبعد أن أنهى حديثه ودارت بيننا وبينه الأسئلة والإجابات، سأله أحد الزملاء عما يريده من الإعلام، عن التوجهات التى يريد أن يلتزم بها الإعلاميون. رأيت الرئيس متعجبا من طرح السؤال، مندهشا من منطقه ومنطق صاحبه، قال: لا أريد منكم أن تقولوا شيئا بعينه، ولن أملى عليكم توجهات لا تحيدون عنها، أنتم معنا على الأرض ترون ما نفعل، كل ما أريده أن تنقلوا للناس ما يحدث، لا تخفوا شيئا ولا تدعوا شيئا. لقد تعرض الإعلام المصرى مثله مثل غيره من مؤسسات الدولة لأكبر عملية تشويه فى تاريخه، وكان الهجوم عليه دليلا بالنسبة لى على أنه يسير فى الطريق الصحيح مهما قالوا عنه ومهما روجوا حوله. أليسوا يهاجمون الدولة المصرية؟ أليسوا يهاجمون رئيسها؟ أليسوا يهاجمون حكوماتها ومسئوليها؟ فما الذى يمنعهم من الهجوم على الإعلام الذى هو يد الدولة ولسانها وأداتها فى كشف ما تتعرض له وفى إخراس خصومها بالحجة والبرهان، ولم يتردد الإعلام المصرى عن رد الهجوم بهجوم، فهو ليس ضعيفا ولا ساكنا ولا خاملا ولا مترددا ولا مترديا. لم يستوعب كثيرون ممن اختاروا إمساك العصا من المنتصف والراقصون على السلالم طوال الوقت، كيف تم إعادة هيكلة الإعلام المصرى وبعث الروح فى جسده الهامد والدفع بالدماء فى شرايينه المتيبسة. عندما اقترب الرئيس من الإعلام وجد أنه يعانى، وضعه كان يمثل تحديا ضمن التحديات الكثيرة التى تواجهها الدولة المصرية، كان يمكن الإبقاء على المنظومة كما هى، لكن كيف لذلك أن يحدث والأوضاع تنذر بالخطر، فقد دخل الإعلام فى مساحات الفوضى والتخبط والعشوائية والسيطرة من دوائر خارجية وداخلية وجميعها لم تلق بالا لما تريده الدولة. لدى شهادة كاملة عما جرى - أعتقد أن الوقت لم يحن بعد لتسجيلها كاملة - لكنى أشهد الآن أن الدولة المصرية تدخلت فى الوقت المناسب حتى لا يصبح الإعلام مفقودا يسير فى طريق يخاصم كل ما تقوم به الدولة فى حربها ضد الإرهاب وفى معركتها المتشعبة للنهوض والتنمية. كان الإعلام بعد 30 يونيو مثل الثور الهائج، أخذ هو الآخر حقنة هواء ضخمة جعلته يعتقد أنه من يصنع الأحداث ويوجهها، وأنه يمكن أن يحكم ويتحكم. تضخمت ظواهر إعلامية تعامل أصحابها على أنهم أصحاب الحل والعقد، ما يقولونه الصواب الكامل وما يرفضونه الخطأ المطلق. لقد جرى بعد 30 يونيو مباشرة ما جعل الدولة تتنبه إلى أن الإعلام الذى تعتمد عليه فى حربها ضد خصومها، يمكن أن يكون هو نفسه مقتلها ومكمن القضاء عليها. بعد أن عاد المصريون إلى بيوتهم تاركين وراءهم ميادين 30 يونيو، ظل الإخوان فى ميدان رابعة العدوية يخططون للانقضاض علينا، وهرب عدد كبير من قيادات الجماعة الإرهابية وحلفائها إلى الخارج، وخلال أيام بدأت القنوات المعادية فى البث، وتحولت مصر كل مساء إلى وجبة دسمة وسهلة الهضم فى أفواه الكلاب الضالة. دخل رمضان وبدأت القنوات التليفزيونية الخاصة فى ممارسة طقوسها الرمضانية، مسلسلات بلا انقطاع وبرامج بلا توقف، اختفت برامج التوك شو، وتقلصت مساحات الأخبار، وزادت الإعلانات التى تبتز المواطنين للتبرع للجمعيات الخيرية، ولم ينس أصحاب هذه المحطات برامج النميمة والمواجهات الساخنة لزوم التسخين وجلب الإعلانات. وجدت الدولة نفسها بدون غطاء إعلامى، بل إن بعض البرامج التى تم الإبقاء عليها، وكانت قليلة جدا وقصيرة جدا تحولت إلى خنجر فى جنب الدولة، إذ تبنت كثيرا مما كانت تقوله وتردده المنصات الإخوانية. لم تجد الدولة من الإعلاميين إحساسا بالمسئولية، فبدأ المسئولون فى التواصل، وبعد إلحاح رضخت القنوات ونزل الإعلاميون وهم متضررين ليؤدوا عملا كان يجب أن يقوموا به دون أن يطلبه منهم أحد، فعادت برامج التوك شو على استحياء وزادت الفترات الإخبارية وبدأ الاشتباك. ربما كانت هذه إشارة التقطتها الدولة مبكرا، أدركت أن الإعلام يعمل لما يراه فى مصلحته الخاصة الضيقة بعيدا عن أى اعتبارات حتى لو كانت تتعلق بضرورات الأمن القومى. كانت الفكرة التى ترسخت لدى المسئولين الكبار فى الدولة أن الإعلام هو الآخر يحتاج إلى إعادة بناء، البنية التحتية الإعلامية كانت فى حاجة إلى ترميم وتطوير، وبدأت هذه العملية بالفعل من اللحظة الأولى التى تولى فيها الرئيس السيسى منصبه كرئيس لمصر. لقد كان الإعلام مثل الدولة تمامًا، مر بمراحل محددة، فبعد أن تم استرداده بدأ العمل على تثبيته، ثم بدأت مرحلة البناء، وأعتقد أن ما زرعته الدولة المصرية فى الإعلام حصدت ثماره، وهو ما يمكن أن نضرب أمثلة عديدة عليه. لكن المثل الأوضح والأقوى كان فيما فعله الإعلام فى حرب غزة التى تفجرت فى أعقاب عملية طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر 2023. كانت الخطة مبنية فى الأساس فى الإعلام الدولى والإقليمى على أن إسرائيل هى الضحية، وأنها من تم الاعتداء عليه، وأن ما جرى يمكن أن يكون فرصة لتنفيذ المخطط القديم بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وهو ما ظهر فى المعالجات الإعلامية فى أيام الحرب الأولى، لكن الإعلام المصرى بأذرعه المختلفة استطاع قلب الطاولة على الجميع، لتصبح إسرائيل هى المدانة بشكل كامل، وليردد العالم خطاب الدولة المصرية، التى رفضت تصفية القضية الفلسطينية وقطعت الطريق على المساس بأمنها القومى. لم يكن لشيء من هذا أن يحدث لو لم تكن لدى الإعلام المصرى منظومة متكاملة، وهو ما يجعلنى أقول إن الدولة المصرية حافظت على إعلامها ومنحته الفرصة كاملة ليؤدى دوره فى ظروف استثنائية صعبة. ملفات الدولة المصرية فى عهد الرئيس السيسى كثيرة ومتشعبة ومعقدة جدا، التفاصيل فيها فوق الحصر، وأعتقد أن ملف الإعلام من الملفات التى سيكون لنا كلام كثير فيها، وقد يكون دخولنا مع الرئيس السيسى ولاية جديدة (2024_ 2030) فرصة لإعادة التذكير ليس بما قدم الإعلام للدولة المصرية، ولكن أيضا بما قدمته الدولة للإعلام. لقد استقرت الدولة المصرية، استطاعت أن تتغلب على كل الصعاب والمعوقات التى كانت تقف أمامها، كانت عصية على التركيع، استمرارها يؤكد حيويتها وعافيتها، لكن هذا الاستمرار سيكون له ثمن ويحتاج إلى جهد، وأعتقد أن جهدا كبيرا لابد أن يقوم به الإعلام الذى هو سلاح الدولة الأكبر فى معركة الوعى.. الوعى الذى لن يستقر بدونه مكان ولن يستقيم من غيره زمان.