الأربعاء 1 مايو 2024

حكايات «كليلة ودمنة».. قصة «الغراب والبوم» (27-30)

كليلة ودمنه

ثقافة6-4-2024 | 13:58

أروى أحمد

 «كليلة ودمنة» من أشهر الكتب بالعالم التي تقدم عالما كبيرا من  الحكايات والكتاب يضم  مجموعة من القصص المتنوعة، التي ترجمها عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى اللغة العربية في العصر العباسي وتحديدا في القرن الثاني الهجري، وكتبه بأسلوبه الأدبي، وقد أجمع عدد كبير من الباحثين على أن الكتاب يعود للتراث الهندي، وتمت ترجمته في البداية إلى اللغة الفارسية ثم إلى اللغة العربية، وسبب نشأته جاءت من رغبة ملك هندي يدعى دبشليم بتعلم خلاصة الحكم بأسلوب مسلي فطلب من حكيمه بيدبا أن يؤلف له هذا الكتاب.     

وكان للنسخة العربية من «كليلة ودمنة»  دورًا رئيسيًا ومهما في انتشاره ونقله إلى لغات العالم، ويصنفه النقاد العرب القدامى في الطبقة الأولى من کتب العرب، ويرون أنه أحد الكتب الأربعة المميزة إلى جانب كتب أخرى، وهو يحتوي على خمسة فصول تضم خمسة عشر بابًا رئيسيًا يتناول قصص تراثية للإنسان على لسان الحيوانات.        

وتقدم  بوابة «دار الهلال» لقرائها طوال شهر رمضان المبارك 1445 هجريا، من كتاب «كليلة ودمنة» كل يوم قصة،  وسنستكمل سلسلة الحكايات بقصة اليوم والتي بعنوان  «الغراب والبوم».   

وجاء فالقصة: زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن والٍ من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن والٍ منهن.

 فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراُ، وكانت الغارة ليلاً، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له : قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منّا إلا أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضراً علينا جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا، لعلمهنّ بمكاننا  فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك.

 وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهنّ في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال، وكان الملك كثيراً ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل.

 فقال الملك للأول من الخمسة : ما رأيك في هذا الأمر؟

 قال : رأي قد سبقتنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنق إلا الهرب منه.

قال الملك للثاني: ما رأيك في هذا الأمر؟

 قال: رأي ما رأى هذا من الهرب.

قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ولا ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونّا: بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنّا.

 ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت ؟

 قال : ما أرى ما قالا رأياً.

 ولكن نبث العيون ونبعث الجواسيس ونرسل الطلائع بيننا وبين عدونا فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية؟

 فإن رأينا أمره أمر طامع في مال، لم نكره الصلح على خراجٍ نؤديه إليه كل سنة، ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا فإن من آراء الملوك إذا أشتدت شوكة عدوهم، فخافوه على أنفسهم وبلادهم، أن يجعلوا الأموال جنة البلاد والملك والرعية.

 قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح ؟ قال لا أراه رأياً بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منّا إلا بالشَّطط.

 ويقال في الأمثال : قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذلَّ نفسك، ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلاً زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظلُّ، وليس عدونا راضياً منّا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة.

 قال الملك للخامس : ما تقول أنت ؟ وماذا ترى  القتال أم الصلح أم الجلاء عن الوطن ؟

 قال : أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه وقد يقال إنه من لا يعرف نفسه وعدوه وقاتل من لا يقوى عليه، حمل نفسه على حتفها، مع أن العاقل لا يستصغر عدواً فإن من استصغر عدوه اغتر به ومن اغتر بعدوه لم يسلم منه.

 وأنا للبوم شديد الهيبة وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهابها قبل ذلك، فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيداً لم يأمن سطوته، وإن كان مكثباً لم يأمن من وثبته، وإن كان وحيداً لم يأمن من مكره.

 وأحزم الأقوام وأكسيهم من كره القتال لجل النفقة فيه فإن ما دون القتال النفقة فيه من الأموال والقول والعمل، والقتال النفقة فيه من الأنفس والأبدان، فلا يكونن القتال للبوم من رأيك، أيها الملك: فإن من قاتل من لا يقوى عليه فقد غرر بنفسه.

 فإذا كان الملك محصناً للأسرار، متخيراً للوزراء، مهيباً في أعين الناس، بعيداً من أن يقدر عليه، كان خليقاً ألا يسلب صحيح ما أوتي من الخير

Dr.Randa
Dr.Radwa