الثلاثاء 30 ابريل 2024

نظرة بعمق على الماضى.. وأمل كبير فى المستقبل

صورة أرشيفية

6-4-2024 | 22:38

بقلـم: د. أحمد فاروق
تدخل مصر هذا الأسبوع فترة رئاسية جديدة مع الرئيس عبد الفتاح السيسى، وهو نوع من المناسبات يقتضى إلقاء نظرة فاحصة عمّا مضى، ونظرة أخرى تستشرف ما هو آت.. نظرة إلى الماضى تسترشد بدروسه، وتبنى على ما تم فيه من عمل ومن إنجاز.. ونظرة إلى المستقبل تحاول فهم دروبه وتوقع مسالكه، وملاقاة الغد عند موعد شروقه.. وسوف أحصر كلامى على مجال الاقتصاد.. أو النواحى الاقتصادية لما تم بمصر فى الأمس، ولما متوقع أن يتم فى الغد.. ونبدأ بنظرة سريعة على الماضى.. تفهم ماذا حدث فيه، وأين كانت تحدياته وكيف تم التعامل معها.. عشر سنوات كاملة مرت على تولى الرئيس السيسى حكم مصر، وهى مدة كافية لفهم وتحليل مبدئى لما تم فى تلك السنوات الخطيرة، وماذا أضافه الرئيس السيسى فى الحياة الاقتصادية المصرية، وأى تحديات وعقبات واجهها، وكيف تصرف معها؟.. وجد الرئيس السيسى أمامه اقتصادا مدمرا، وصل إلى مرحلة الضعف الشديد أواخر عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك تدل عليه الأرقام الهزيلة للاستثمارات فى مصر - وخاصة الاستثمارات الصناعية - وغلبة الاقتصاد غير الرسمى على أجزاء كبيرة فى بنية الاقتصاد المصرى، ووجود أغلب القوى العاملة المصرية فى أنشطة ضعيفة المهارة، أو لا تحتاج إلى مهارات بالمرة (الزراعة - العمل فى الإدارات الحكومية أو الجهاز الإدارى للدولة – السياحة). زاد الأمر سوءًا التطورات السياسية العاصفة بعد 2011، والتى أتت بمجموعة من المتغيرات: اضطرابات سياسية شديدة فى مصر (حوادث 2011 - صعود تيارات الإسلام السياسى المتمثل فى الجماعة الإرهابية - المظاهرات التى لم تكن تكاد تتوقف - أحداث 2013 - ثم بدء موجة جديدة من العمليات الإرهابية. ولم يكن فى ظل هذا المناخ ما يمكن عمله لإعادة بعث وتقوية أو حتى تنشيط الاقتصاد المصري.. وكانت المتغيرات أمام الرئيس السيسى شديدة التعقيد: الاستثمارات المحلية متوقفة تنتظر ماذا سوف يسفر عنه مجرى الحوادث فى مصر، والاستثمار الأجنبى من المستحيل أن يأتى لدولة تعانى هذه الدرجة من الاضطرابات السياسية (وحتى قبل مجيء الاضطرابات السياسية لم يكن الاستثمار الأجنبى يأتى إلى مصر إلا فى قطاع الطاقة.. أى البترول والغاز، ثم بعض الأنشطة المحدودة القطاع السياحي) بالإضافة إلى أن الاستثمارات العامة غير متوفرة فى دولة ليس لديها موارد طبيعية يعتد بها، ولا فوائض أموال يمكن أن تسعف وتغنى وقت الحاجة.. لذا لجأ الرئيس السيسى فى حركته إلى الآتى: الاعتماد على القوات المسلحة فى بعض المشروعات التى تحتاج إلى سرعة الإنجاز وجودة التنفيذ، وكذلك الاعتماد عليها فى ضبط بعض الأمور فى الأسواق الداخلية.. والقوات المسلحة فى أى بلد جهاز يعلى من قيم الانضباط وسرعة الإنجاز.. وإعادة بناء وتوسيع البنية التحتية المصرية كمقدمة لتدفق الاستثمارات الأجنبية للعمل فى مصر، وهى رؤوس أموال لن تأتى إلى مصر وبها طرق ومطارات وموانئ ووسائل مواصلات متهالكة، أو بنية تكنولوجية عتيقة.. وهو نفس الطريق الذى سارت فيه الصين على سبيل المثال: توفير بنية تحتية عصرية، كمقدمة لعمل ونشاط الاستثمارات المحلية وتدفق الاستثمارات الأجنبية.. وكان الهدف الثانى من وراء إعادة بناء البنية الأساسية فى مصر هو رفع مستويات الإنفاق العام، كوسيلة وحيدة لتنشيط الاقتصاد وتشغيل العمالة، قبل أن تلحق بها باقى أدوات السياستين المالية والنقدية.. وتوسيع وإعادة تخطيط المعمور المصرى، بفتح وبناء مجموعة كبيرة من المدن الجديدة، يخف بها الضغط والتكدس الهائل على الوادى والدلتا القديمة، وهما أساس تواجد وعيشة المصريين من آلاف السنين.. وقد وصل تكدس المصريين فى الوادى والدلتا -مع الزيادة السكانية الهائلة- إلى حدود مزعجة، كان أبرز مشاكلها القضاء على جزء لا يستهان به من الرقعة الزراعية المصرية، وفى بلد بالكاد ينتج ثلث غذائه!! وكانت الأمور تسير بصورة معقولة حتى عام 2020، وفى تلك السنة وما بعدها حدثت مجموعة من المتغيرات الخطيرة فى البيئة العالمية.. السياسية والاقتصادية: أزمة فيروس كورونا، الذى فرض على مصر والعالم التجمد لمدة سنة ونصف السنة تقريبا، كان الناس فيها فى بيوتهم بلا عمل أو نشاط أو إنتاج، ومع ذلك كانت أجور جميع العاملين متوفرة فى مواعيدها، بل وعوضت الدولة العاملين فى القطاع الخاص بجزء من أجورهم حتى تنتهى الأيام الصعبة.. والتوترات فى البيئة السياسية العالمية بقيام الحرب الروسية الأوكرانية، وما فعلته من بدء موجة من التضخم وارتفاع أسعار أغلب السلع عالميا.. حيث ارتفعت أسعار البترول والغذاء ومستلزمات الإنتاج.. أيضاً التوترات فى البيئة الاقتصادية العالمية، بدءا من أزمة سلاسل الإمداد ثم سحب الدولار من أغلب أسواق العالم بعد المشاكل الاقتصادية فى أمريكا.. وترتب على ذلك خروج عشرات المليارات من الدولارات من الأسواق الناشئة - ومن ضمنها مصر - للاستثمار فى الأسواق الأمريكية.. وزاد الأمر سوءا فى السنة الأخيرة اضطراب الأوضاع فى الشرق الأوسط مع حرب غزة وما أنتجته من اضطرابات فى عموم الإقليم.. وكان نتيجة كل ذلك أن تباطأ نمو الاقتصاد المصرى فى السنتين الأخيرتين، وظهرت مشكلات جديدة مثل مشكلة الدولار.. وقد قدمت إدارة الرئيس السيسى أداء اقتصادياً جيداً فى الأزمات الاقتصادية والسياسية السابقة، واستطاعت أن تنجو بمصر من مشكلات أكبر وأخطر.. ومع انقشاع سنوات الخطر السابقة فإن نظرة منصفة على الاقتصاد المصرى تعطى يقينا باقتصاد ثابت الأركان، قطاعاته الإنتاجية الأساسية سليمة، ربما يواجه ببعض المشاكل فى الاقتصاد المالى، لكن الاقتصاد الحقيقى مازال قويا وواعدا ويتقدم.. نأتى الآن لتصور.. ماذا عن الغد؟ ما الذى تحتاجه مصر ومن المتوقع أن تعمل إدارة الرئيس السيسى على تحقيقه؟ يمكن توقع أن المجالات الآتية هى ما ستجرى عليه وحوله مجالات الحركة والاهتمام فى السنوات القادمة، ومع الفترة الجديدة للرئيس السيسى. أولا.. قضية التصنيع الصناعة والتصنيع هى الفارق بين الأمم المتقدمة والأمم المتأخرة، والتصنيع ليس فقط هو الفيصل بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة، بل هو الفيصل بين البلدان المتقدمة والبلدان الغنية، وهناك فارق كبير بين الدول المتقدمة والدول الغنية، فليس كل البلدان الثرية بلادا متقدمة، فقد يكون سبب الغنى والثراء هو حيازتها لمورد طبيعى كالبترول أو الغاز مثلا.. فى حين أن كل البلاد المتقدمة بلاد غنية.. فإذا أرادت مصر أن تصبح دولة متقدمة ودولة غنية فى نفس الوقت فليس أمامها سوى الصناعة والتصنيع، فليس فى مصر موارد أولية أو مواد خام نادرة، تجعل مصر والمصريين أثرياء بدون جهد، وبالتالى ليس أمامهم إلا العمل والتعب.. ومن حسن الحظ أن مصر فى قضية الصناعة والتصنيع لا تبدأ من الصفر، ففى مصر قطاع صناعى لا بأس به، ويحتاج فقط إلى مزيد من الاهتمام، وضخ الاستثمارات فيه وفتح الأسواق الخارجية أمامه.. وقد عادت مصر تهتم بصناعة من أقدم صناعة واحدة قادرة على توفير عشرات المليارات من الدولارات لمصر من التصدير، وفى العام الماضى صدرت مصر من صناعة الملابس والمنسوجات بنحو 2.5 مليار دولار، فى حين صدرت تركيا منها بنحو 52 مليار دولار، ومع الاهتمام بهذه الصناعة يمكن أن يرتفع معدلات الصادرات برقم كبير. ثانياً: توطين التكنولوجيا القضية الثانية التى أتوقع - بحكم طبيعة اهتمامات الرئيس السيسى - الاهتمام الجدى بها هى قضية نقل وتوطين التكنولوجيا المتقدمة فى مصر.. وهى قضية لا تقل عن قضية الصناعة فى الأهمية، بل هما قضيتان متلازمتان.. تحتاج مصر ليس فقط إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة بل إلى تلك الاستثمارات التى تأتى ومعها تكنولوجياتها الحديثة إلى مصر.. وللصين فى ذلك تجربة مهمة يمكن الاستفادة منها، وخلاصتها أن الصين اشترطت على الشركات الدولية التى ترغب فى الاستثمار فى الصين مشاركة الحكومة الصينية أو القطاع الخاص الصينى فى استثماراتها، كما اشترطت نقل تقنياتها ومعرفتها التكنولوجية إلى الاقتصاد الصيني.. وهو ما جعل التقدم الصينى ممكنا.. ومن ملاحظة حركة واهتمامات الرئيس السيسى فى السنوات الأخيرة لا نجد صعوبة فى معرفة أن تلك القضية تشغل حيزا مهما من تفكيره.. وأن سنوات الفترة الرئاسية الجديدة ستجد هذه القضية حظا أحسن مما وجدته فى العقود الأخيرة. ثالثاً.. قضية رفع الصادرات فقضية التصدير ورفع القدرة التنافسية للمنتجات والسلع المصرية فى الأسواق العالمية قضية الساعة فى مصر، كما فى غيرها من البلدان.. ويجب الاعتراف أن جهدا مميزا حصل فى هذه القضية فى فترة حكم الرئيس السيسى، فالصادرات المصرية وصلت العام الماضى إلى 52 مليار دولار.. وهو أكبر رقم حققته الصادرات المصرية فى تاريخها.. نحو 35 مليار دولار منها سلع ومنتجات، وليس مجرد مواد خام أو أولية.. وإذا سارت مصر بنفس تلك الجدية وتحقق ما تطمح إليه الدولة المصرية من وصول رقم الصادرات إلى مائة مليار دولار خلال السنوات القليلة القادمة، فإن تقدما يستحق الثناء والاعجاب يكون قد تحقق.. وهو ما يبدو أن مصر قادرة عليه فى الفترة الرئاسية الجديدة للرئيس السيسى. رابعاً.. توسعة المعمور والمسكون المصرى ليس هناك قضية أكثر إلحاحا - فى ظل تزايد عدد السكان بصورة هائلة فى مصر - من توسيع رقعة المعمور فى الخريطة السكانية المصرية، ويمكن القول إن الرئيس السيسى أكثر رئيس مصرى اهتماما بهذه القضية الحيوية.. لقد تكدس المصريون - بشرا وعقارا وطاقة إنتاجية - فى الوادى القديم بصورة جعلت من مدن مصر مثالا للزحام والتكدس فى أغلب الأحيان، والعشوائية فى أجزاء كبيرة من المدن المصرية فى أحيان أخرى كثيرة.. ومن هنا كانت الخطة الجريئة للرئيس السيسى بنقل جزء من كثافة الكتلة السكانية فى مصر إلى خارج الوادى الضيق.. ومن يلاحظ عدد المدن الجديدة فى كل أنحاء مصر - من شمالها إلى جنوبها - التى أنشئت فى عصر الرئيس السيسى أو جار العمل فيها سيعرف أى جهد كبير قد بذل فى هذه الناحية.. وأعتقد أن استكمال ذلك التوجه السليم جدا بند مهم على جدول أعمال الدولة المصرية فى الفترة الجديدة للرئيس السيسى.. خامساً.. الزراعة المصرية وهى قضية لا مزيد من الكلام على أهميتها فى حياة المصريين أمس واليوم وغدا.. وهى أيضا قضية ستوضع فى مكانة متقدمة فى جدول أعمال الرئيس السيسى فى فترته الجديدة... لقد بذل جهدا متميزا ويستحق الإعجاب فى قضية الزراعة فى السنوات العشر الأخيرة.. منها زراعة مليون ونصف المليون فدان أغلبها فى صحراء مصر الشرقية، ومنها التوسع فى استخدام الأساليب الحديثة فى الزراعة، وهو ما وجد تطبيقه فى أسلوب الصوب الزراعية، ومنها استخدام العلم وتطبيقاته فى الوصول بغلة الفدان إلى حدها الأقصى فى كثير من المزروعات.. جهد لولا وجوده لواجهت مصر وشعبها مشاكل وصعوبات عاتية.. هذه بعض القضايا الاقتصادية التى أتوقع أن تجد اهتماما متقدما فى جدول أعمال الرئيس فى فترة رئاسته الجديدة، وهى مجرد عينة من القضايا التى توليها الدولة المصرية اهتمامها وجهدها، فالبناء يجرى فى كل المجالات وفى جميع الأنحاء، وبكل جدية وهمة.. هو فكر خلاق، يستشرف المستقبل قبل أن يصبح واقعا معايشاً، يفرض كلمته وضروراته، بل يذهب إلى المستقبل هناك، وحيث يولد ويبدأ حركته.. لقد أقال الرئيس السيسى -بما يشبه المعجزة- الدولة المصرية من أصعب عثراتها بعد فترة اضطرابات كبرى فى العقد الثانى من هذا القرن.. وكانت فترته الرئاسية الأولى بمثابة جهاد متواصل لبقاء الدولة المصرية، وعدم سقوطها فيما سقطت فيه دول مهمة وعريقة حولنا.. وكانت فترته الرئاسية الثانية فترة البناء، بناء الدولة على أسس جديدة وحديثة.. بينما تمثل فترة رئاسته الثالثة -التى نطرق هذه الأيام بابها- سنوات الانطلاق.. وسنوات حصاد الجهد الكبير..