الثلاثاء 30 ابريل 2024

فلسفة الحماية الاجتماعية فى الجمهورية الجديدة

صورة أرشيفية

6-4-2024 | 22:53

بقلـم: د. صلاح هاشم
أظهرت الأزمات الاقتصادية العالمية الراهنة العديد من الأزمات المعيشية والاجتماعية والسياسية لكثير من دول العالم، ولا سيما الدول النامية، وكان لمصر نصيب كبير منها، خاصة فيما يتعلق بارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار بشكل غير مسبوق، الأمر الذى جعل لبرامج الحماية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعى الجيدة، أهمية خاصة فى الحد من الفقر، وعلاج مواطن الضعف والخلل فى السياسات الاقتصادية والمالية، فى كافة دول العالم تقريبًا. فالبلدان التى لديها برامج فعالة للحماية الاجتماعية تستخدمها فى التصدى للأزمات والكوارث، وفى المقابل فإن البلدان التى ليس لديها مثل هذه البرامج تضطر فى العادة إلى الاعتماد على تدابير خاصة أقل فاعلية من التى تتبناها الدول الأخرى، غير أن بناء أرضيات للحماية الاجتماعية يستغرق وقتًا أكبر ويتطلب إرادة سياسية أقوى، خاصة أن أوقات الأزمات أو أوضاع ما بعد الكوارث هى الأوقات الأسوأ فى بناء شبكات جيدة للأمان الاجتماعي، ومن ثم فمن الضرورى أن تتحلى سياسات الحماية الاجتماعية بمعايير عادلة وعالية للإدارة الرشيدة وتحقيق النتائج، لضمان تقديم مساعدات أكثر فاعلية لشرائح والأسر الأولى بالرعاية. ويُعد بناء أرضيات مستدامة وميسورة التكلفة للحماية الاجتماعية أحد أهم مكونات استراتيجية الدولة للحماية الاجتماعية خاصة ونحن على أعتاب الجمهورية الجديدة، التى تستهدف بالأساس الارتقاء بخصائص الإنسان المصري، وجعله أكثر انتماءً وإحساسًا بالحياة الكريمة؛ لما يتمتع به من مستوى معيشى لائق وخدمات صحية وتعليمية عالية الجودة، وبتكلفة أقل، وانحياز واضح لمبادئ العدالة الاجتماعية. ومن ثم فإن سياسات الحماية الاجتماعية التى تستهدفها الدولة الفترة القادمة تركز بشكل عميق على الانتقال بالسياسات الاجتماعية بعيدا عن البرامج المفتتة إلى أنظمة ميسورة التكلفة للحماية الاجتماعية من شأنها تمكين المواطنين من إدارة المخاطر وتحسين قدرتهم على الصمود فى وجهها، من خلال الاستثمار فى رأس المال البشرى، وتحسين قدرة الشباب فى الحصول على الوظائف. ولا يمكننا بحالٍ أن نتحدث عن الحماية الاجتماعية بعيدًا عن الحديث عن الفقر، باعتبار أن القضاء عليه والتخفيف من تداعياته هو الهدف الأول والأسمى لسياسات الحماية الاجتماعية، خلال السنوات الماضية منذ تولى الرئيس السيسى، وإذا كان الحديث عن الفقراء وأوضاعهم المعيشية هو الشغل الشاغل للقيادة السياسية فى هذه المرحلة الحرجة من عمر الوطن، فمن الأهمية بمكان ألا نغض الطرف عن المهددين بالفقر، والذين لا يجب أن تتجاهلهم السياسات والبرامج الجديدة، التى تتبناها الدولة للحد من الفقر والانطلاق نحو التنمية بمفهومها الشامل والمستدام. وإذا كنا نتحدث عن سياسات جديدة تتناسب مع النقلة النوعية المتوقعة، والتى تهل نسائمها على أعتاب الجمهورية الجديدة فلا بد من الحديث عن ثلاثة مفاهيم أسياسية، هى الفقر والمهددون بالفقر والفقراء الجدد، ومن ثم فإنه من الصعب الحديث عن رؤية واضحة للحماية الاجتماعية دون أن تكون محاورها الرئيسية تدور حول هذه المفاهيم الثلاثة مجتمعة، وكما أن الهدف الأول للحماية الاجتماعية هو الحد من الفقر المادى وتداعياته الاجتماعية والمعيشية والثقافية، فإن الهدف الآخر والذى لا يقل أهمية فى تصورى عن الهدف الأول يتمثل فى الحد من الإحساس بالفقر. وإذا كان الفقراء الجدد هم أبناء الطبقة الوسطى الذين سقطوا بفعل الظروف الاقتصادية القهرية فى دائرة الفقر فأصحبوا فقراء بخصائص وثقافة مغايرة، فإن الحديث عن المهددين بالفقر يتضمن الحديث عن أشخاص يعملون ويكسبون دخلًا لا بأس به يتجاوز حد الفقر، ولكن ظروف عملهم ومعيشتهم من الهشاشة وعدم الاستقرار ما يجعلهم مهددين باستمرار بالوقوع فى دائرة الفقر مع أى تغيير سلبى غير متوقع، سواء كان ذلك لأسباب شخصية (مثل الإصابة بالمرض أو الفصل من العمل)، أو لأسباب قطاعية (مثلما هو حال مَن يتعرضون لتقلبات التشغيل فى قطاعى البناء والسياحة)، أو لأسباب محلية (حينما يصيب الاقتصاد ركود عام)، أو لأسباب دولية أو إقليمية (كما حدث وقت عودة العمال المصريين من ليبيا)، أو أو ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار بصورة تفوق الدخل المادى للمواطنين، أو بسبب عدم وفرة الإنتاج والصعوبات التى تواجه المواطنين فى الحصول على السلع والخدمات. ولما كانت العدالة الاجتماعية شعارًا براقًا فى كل الثورات التى شهدتها الدولة المصرية وكانت، ولا تزال، مطلبًا أساسيًا وحيويًا لاستقامة كافة السياسات التى تتبناها الدولة، فلا يمكن رسم سياسات للحماية الاجتماعية دون الاحتكام إلى مبدأ العدالة الاجتماعية، الذى يقوم على تكافؤ الفرص بين المواطنين والمساواة فى الحقوق والواجبات وتعزيز وترسيخ قيم المسئولية الاجتماعية بين المواطنين والتى تعنى من ناحية مسئولية الأفراد وضرورة أدائهم لواجباتهم تجاه المجتمع، وذلك فى مقابل ما يتمتعون به من حقوق، وما يقدم إليهم من خدمات، وتعنى من ناحية أخرى مسئولية الحكومة عن إشباع احتياجات المواطنين، وذلك فى مقابل مشاركة المواطنين فى كافة مجالات التنمية والرعاية الاجتماعية، من خلال المبادرات الشعبية والجمعيات الأهلية. وعمومًا فقد تعددت وتنوعت الوسائل والأساليب التى تستخدمها دول العالم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن فى معدلات التنمية، سواء بين أقاليم البلد الواحد، أو بين الريف والحضر، أو بين أحياء المدينة ذاتها، ومن الطبيعى أن تختلف هذه الوسائل من دولة لأخرى، لأن تحقيق العدالة الاجتماعية يعتمد على مصفوفة ضخمة من المتغيرات التى يجب وضعها فى الاعتبار عند صياغة الاستراتيجية العامة للتنمية والحماية الاجتماعية، ومن بين هذه المتغيرات طبيعة التناقض بين الريف والحضر، ومستوى التطور الاقتصادى والإنتاجي، وأحجام الأحياء والقرى الصغيرة، بالنظر إلى الأحياء والقرى الكبيرة، ومراكز التركز السكاني، ومناطق الجذب السكانى فى المدن، فضلًا عن متغيرات أخرى كثيرة مثل حجم الاستثمارات المخصصة لكل محافظة، وتنمية القرى والمدن فى إطار خطة تنموية قومية، وتعتبر هذه المتغيرات بمثابة مؤشرات عامة لتحقيق العدالة الاجتماعية بوجه عام. كما أن تحقيق العدالة فى سياسات وبرامج الحماية الاجتماعية يتطلب الأخذ فى الحسبان التفرقة بين الإجراءات والنتائج، فليس من الضرورى أن تؤدى الإجراءات العادلة إلى نتائج عادلة، فقد تؤدى إجراءات تبدو عادلة إلى توزيعات ليست عادلة للسلع والخدمات، وعمومًا فإن تحقيق العدالة الاجتماعية، يتطلب أن يحصل الناس على خدمات تتناسب مع ما يستحقونه كمواطنين وما يحتاجون إليه ليعيشوا حياة كريمة وآمنة، بالإضافة إلى السماح بالتمييز الإيجابى لصالح الفئات الضعيفة، مع تجنب الانحياز دون تمييز بين مَن يحتاجون إلى حماية اجتماعية شاملة، مع التركيز على ضرورة تغطية مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية للفرد والعمل على تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية بين الناس. وفى النهاية فإنه إذا أُريد أن يكون لسياسات الحماية الاجتماعية مردود إيجابى على الأرض، فيما يتعلق بالحد من الفقر والتخفيف من تداعياته مع الحفاظ على حجم وخصائص الطبقة الوسطى، وخاصة فى تلك الظروف التى تحمل العديد من المتناقضات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الأخلاقية، فإنه يجب أن تتضمن برامج الحماية الاجتماعية السياسات التالية والتى عملت عليها الدولة خلال السنوات العشر الماضية. تبنى سياسات لحفز النمو المنحاز للفقراء ويتطلب ذلك - إيجاد فرص عمل كافية لاستيعاب الراغبين فى العمل فى أعمال منتجة ومدرة لدخول تفى على الأقل باحتياجاتهم الأساسية، مع العمل على إنتاج سلع وخدمات تضم نسبة كبيرة مما يحتاج إليه الفقراء فى إشباع احتياجاتهم الأساسية، بالإضافة إلى التحيز فى توزيع مشروعات التنمية فى المناطق الفقيرة، وإعادة توطين بعض المشروعات فى هذه المناطق وهناك مبادرات عدة فى هذا الاتجاه. تمكين محدودى الدخل من الحصول على أصول إنتاجية وقد شهدت الدولة خلال الثلاثين سنة الماضية تغييرات اجتماعية واقتصادية مهمة تحت اسم الخصخصة التى تستهدف فى ظاهرها توسيع قاعدة الملكية، والواقع أنها تنقل ملكية الأصول من مجموع الشعب إلى حفنة ضئيلة منه، وعندما يحدث ذلك؛ فإنها تعمل على تضييق قاعدة الملكية وتزيد بالتالى الهوة بين مَن يملكون ومَن لا يملكون، ومن ثم فإن تمكين الفقراء ومحدودى الدخل من ملكية مشروعات بعينها يساعدهم على تطوير وتنمية هذه المشروعات، بما يساعد على تنمية وتحسين مستوى معيشتهم. تنمية القدرات البشرية لمحدودى الدخل وتمكينهم من زيادة مشاركتهم فى الإنتاج وتتضمن هذه السياسة تمكين الفقراء من الحصول على الخدمات الأساسية، وبخاصة التعليم والتغذية والخدمات الصحية والإسكان، كما تتضمن تمكين الفقراء من الارتقاء بقدراتهم ومهاراتهم الإنتاجية، خلال برامج جادة لإعادة التدريب والإرشاد الإنتاجى. تطبيق سياسات لرعاية محدودى الدخل وتحقيق الحماية الاجتماعية: ويندرج تحت هذه السياسات، سياسات الدعم مثل تكافل وكرامة الذى يستفيد منه نحو 5 ملايين أسرة والضمان الاجتماعى والتأمينات والسياسات والبرامج الخاصة بتشغيل الفقراء والنهوض بمناطق تركزها، وتحسين مستوى تغذيتهم، ومدّ يد العون لهم ولغيرهم فى حالة التعرض للأزمات والكوارث، مع ضرورة مشاركتهم فى تخطيط وتحسين هذه البرامج والسياسات، وتدبير التمويل الكافى لها، من أجل أن يكون لها تأثير محسوس على مستوى حياة الفقراء. ومن المهم فى هذا السياق بذل جهود كبيرة من أجل تعريف الفقراء ومحدودى الدخل بالبرامج والمشروعات الموجهة خصيصًا للنهوض بأحوالهم المعيشية وحمايتهم وتبصيرهم بكيفية الاستفادة منها، مع العمل على ضمان وصول المساعدات والدعم لهم؛ إذ يفضل تقديم الخدمات الاجتماعية لمحدودى الدخل حيث يوجدون، بدلًا من انتظار تقدمهم إلى الجهات المعنية طلبًا للمساعدة، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق دون تنشيط وتفعيل لدور الجمعيات الأهلية فى مساعدة الفقراء وتقديم الخدمات الضرورية لهم، ولهذا فإنه يمكن القول إن الجمعيات الأهلية أصبحت أداة فعالة فى دعم برامج الحماية الاجتماعية، وأعتقد أن دورها الواضح والملموس فى مبادرة «حياة كريمة» كشريك أساسى للحكومة عزز من وجودها على الأرض، وسوف يدفع الدولة إلى منحها مزيداً من الحرية والدعم فى السنوات القادمة وهو ما تجسد فى التحالف الوطنى للعمل الأهلى الذى يقوم بجهد منظم غير مسبوق لتعزيز الحماية الاجتماعية. تعزيز دور التحويلات وشبكات الأمان: هناك فئتان واسعتان تحتاجان إلى اهتمام خاص هما مَن يعجزون عن المشاركة فى عملية التنمية، ومَن يتعرضون للخطر مؤقتًا – المهددون بالفقر - عندما تتخذ الأحداث اتجاهًا غير مواتٍ، وتحتاج الفئة الأولى إلى نظام للتحويلات يكفل لها مستوى معيشيا مناسبا، وتحتاج الفئة الثانية إلى أنواع مختلفة من شبكات الأمان، وفى جميع هذه الحالات يكون العمل على وصول الدعم إلى مستحقيه أمرًا لا غنى عنه لتحقيق التوازن بين التكاليف والمنافع، وإذا كانت نسبة الموازين أكثر ارتباطًا بالمناطق الجغرافية الفقيرة سواء فى الريف أو الحضر، فإنه ينبغى إيجاد أنظمة للضمان الاجتماعى والعمل على توسيع تغطيتها، بالتكامل بين قطاعات الدولة الثلاثة الحكومية والأهلية والخاصة. إتاحة الفرصة للفقراء للحصول على الخدمات: يتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية التزامًا واضحًا بإتاحة الفرص للفقراء للحصول على الخدمات الاجتماعية، وينبغى أن ينعكس ذلك فى البنية التحتية، وفى تنظيم القطاعات الاجتماعية، وفى طريقة تمويلها. الإيفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين: حتى تستطيع الحكومات تحقيق الاستقرار فى أى مجتمع، يجب عليها أن تهتم بتوفير الاحتياجات الأساسية للسكان من ملبس ومأكل ومسكن ومياه نقية، وكذلك توفير الخدمات الصحية، والتعليم إلى حد كبير، وإذا كان على الحكومة أن تلتزم بتوفير الرعاية الصحية والتعليم، فمن المتوقع أن تتعرض الدولة هنا لقضية العدالة والكفاية؛ ولذلك لجأت الدولة إلى الشراكة مع المؤسسات الأهلية لمساعدتها فى الإيفاء بهذه الاحتياجات، حتى تضمن وصول برامج الحماية الاجتماعية للجميع سواسية من خلال التحالف الوطنى للعمل الأهلى. وعمومًا فإن الدولة تعمل الآن وفق منظومة واضحة تقوم على فكرة أن نجاح سياسات الحماية الاجتماعية فى تحقيق أهدافها فى الحد من الفقر وتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين مرهون بقدرها على تبنى برامج للحماية الاجتماعية تكون قادرة على تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين فى التعليم والصحة والعمل والسياسة، وفى كافة الحقوق الأساسية، وكذلك قدرتها على الحد من الإحساس بالفقر والحفاظ على الطبقة الوسطى وتذويب الفوارق بين الطبقات: وذلك بتبنى سياسات للإصلاح الاجتماعى لا تقل أهمية عن سياسات الإصلاح الاقتصادى والتى تبنتها الدولة فى 2016، مع تقليل الاعتماد على القروض فى تمويل برامج الحماية الاجتماعية وتوحيد السياسات الائتمانية، ليصبح للمشروعات الصغيرة فى مصر أب شرعى واحد، فالمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر هى الأمل فى تجاوز الأزمات الاقتصادية والخروج من النفق الاقتصادى الضيق إلى النفق الأوسع على أعتاب الجمهورية الجديدة.