الإثنين 29 ابريل 2024

تأسيس الدولة «4» منهج علمى رصين

صورة أرشيفية

8-4-2024 | 17:33

بقلـم: د. أحمد على ربيع
بعد أن أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم دولة الإسلام فى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعقد عهدا بين المسلمين واليهود على أساس المواطنة بأن يكون الدفاع مشتركا عن المدينة ضد أى غاز أو معتد وأن يحسنوا جوار بعضهم، لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليهم من الواجبات، ولكل منهم حقه فى العبادة حسب ما تقتضيه شرائعه، وإن كانت طبيعة اليهود لا تحتفظ بعهد ولا تحفظ الميثاق ولا تؤمن على عقود ولا جوار، وهذا ما حدث منهم بعد ذلك فقد نقضوا العهد وخالفوا الوعد وخانوا الأمانة وقد استحقوا ما قضاه الله عليهم «يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الأبصار». لكن ما فعله الرسول فى المدينة وما رسمه من منهج علمى رصين يدرس فى مختلف المعاهد العلمية والجامعات، ففى مدة زمنية بسيطة لا تتجاوز عشر سنوات أسس مدارس علمية كبيرة نشرت العلم فى شتى بقاع الأرض وأسست لحضارة إسلامية انتفعت بها حضارات عديدة فى أوربا وغيرها من بلاد العالم، كان نواتها الأولى تلك الشرارة التى أطلقها صلى الله عليه وسلم وتلقفها صحابته بالحب والإيمان فنشروها فى كل بلاد العالم بعد أن انتفعوا بها وأسسوا بها حضارتهم الإسلامية والعربية. والعجيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمىّ بعث إلى أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب وصدق الله العظيم «وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم» ففى تلك الفترة القصيرة فى عمر الزمن ورغم انشغالهم بالغزوات والحروب إلا أنه يبنى مدرسة علمية رائعة قوامها عدد كبير من صحابته رضوان الله عليهم حيث لازموه فى رواحه وغدوه، وقد اتقدت أذهانهم وأصغت آذانهم وتفتحت قلوبهم لما يستمعونه منه فى حلقات العلم، والملاحظ أن قوام تلك المدرسة كانت من شباب الصحابة من المهاجرين والأنصار، كما أن تلك المدرسة كانت متنوعة فى التوجه والتلقى فقد وهب الله بعضهم حظا وحرصا على تلقى القرآن فتخصص بعضهم فى كتابته والمحافظة عليه فى حين تلقاه بعضهم بالحفظ والرواية والقراءة والتلقين، وقام بعضهم بالاهتمام بقراءة من القراءات وبعضهم الآخر بقراءة أخرى والثالث بقراءة ثالثة وهلم جرا حتى يكون كل منهم إماما فى قراءة يتقنها أولا ثم يقوم بعد ذلك بتعليمها لمن هم قادرون على حملها وتعليمها لغيرهم، فقد نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحروف عديدة أى بقراءات عديدة وذلك للتيسير على الأمة التى تختلف لهجاتها يسر الله لهم قراءته ليقرأ كل منهم بالقراءة التى تتوافق مع لهجته تيسيرا عليه عملا بقول الله سبحانه وتعالى فى قرآنه الكريم “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل مدكر «فكان القرشى يقرأ بالقراءة التى توافق لهجته ويقرأ التميمى بالقراءة التى توافق لهجته وكذلك كل قبيلة كانت تجد ضالتها فى قراءة توافق لهجتها حتى يسهل عليها حفظ القرآن الكريم يقول صلى الله عليه وسلم «كنت عند أضاة بنى غفار وهى بئر لقبيلة تسمى بنى غفار ومنها الصحابى الجليل أبو ذر الغفارى رضى الله عنه فجاءنى جبريل فقال لى إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقلت أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتى لا تطيق ذلك فصعد ثم نزل فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين فقلت أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتى لا تطيق ذلك فصعد ثم نزل فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقلت أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتى لا تطيق ذلك فصعد ثم نزل فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فكان تعدد القراءات من أجل التيسير على الأمة التى تختلف لهجاتها فهذا يحقق الهمز وهذا يسهله وهذا يدغم وهذا لا يدغم وهذا ينطق بالإمالة وهذا لا ينطق بها وهكذا جاءت القراءات تيسيرا على المتكلمين من جميع قبائل العرب وكان كل واحد من الصحابة يتعلم قراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقوم بالقراءة بها ثم يعلمها لمن يأتى من بعده من الصحابة والتابعين فابن مسعود يقرأ بقراءة وأبى بن كعب يقرأ بقراءة وأبو موسى الأشعرى يقرأ بقراءة ثالثة وهكذا انتشرت مدرسة القراءات فى شتى بلاد المسلمين، وكان رائدها الأول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا أراد تمكين القراءة فى نفس القارئ يسمع منه مرة القرآن ويقرأ على آخر القرآن ويمدح فى قراءة من يستمع إليه ويسعد من يقرأ عليه هو، ففى مرة يأتى بابن مسعود ويقول له اقرأ فيقول له ابن مسعود أأقرأ وعليك أنزل فيقول له اقرأ فإنى أحب أن أسمعه من غيرى فيقرأ من أول سورة النساء حتى يصل إلى قول الله عز وجل «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا» فاغرورقت عيناه صلى الله عليه وسلم بالدموع وأشار إليه بأن كف وفى مرة أخرى يأتى بسيدنا أبى بن كعب ويقول له إن الله أمرنى أن أقرأ عليك سورة البينة فيقول له أبى الله سمانى لك يا رسول الله فيقول نعم فيقرأ صلى الله عليه وسلم على أبى وأبى يبكى شكرا لله أن ذكر اسمه من فوق سبع سماوات وتراه مرة ثالثة يثنى على صوت يقرأ القرآن بصوت حسن فيمر على رجل يقرأ وصوته جميل فيقول لصحابته من هذا؟ فيقولون له إنه أبو موسى الأشعرى فيقول مادحا له إنه أعطى مزمارا من مزامير آل داود فيقول له أبو موسى والله لو علمت أنك تسمعنى لحبرته لك تحبيرا ويثنى على أداء ابن مسعود فى قراءته فيقول بعد أن استمع إليه وهو يقرأ فى المسجد، من أحب أن يسمع القرآن غضا طريا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد، وهكذا ترى أنه أنشأ مدرسة قرآنية صدرت علم القراءة والقراءات إلى كل أنحاء الدنيا، والعجيب أن كل علم يؤخذ بالتدوين إلا القرآن الكريم فهو يؤخذ بالتلقين من لدن جبريل إلى يومنا هذا وهذا وجه إعجازه وسر بقائه، والعجيب أن الأعجمى الذى لا ينطق حرفا واحدا بالعربية ويحفظ القرآن الكريم ويتهجد به ويلقنه لغيره، وهذا أيضا سر من أسرار إعجازه وقد كان ابن عباس رضى الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم له اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل، فكان ابن عباس مدرسة فى تفسير القرآن الكريم. وكان الصحابة بعده يشتغلون بالقرآن ويعظمون قدره ويفخمون أهل القرآن وحملته فهذا زيد ابن ثابت وهو ممن تلقوا القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب ناقته فيسحبها له ابن عباس رضى الله عنه فيقول له زيد ماذا تفعل يا ابن عباس قال له هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا من أهل القرآن، فنزل زيد من على ناقته وقبل يد ابن عباس فقال له ماذا تفعل يا زيد قال هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تكن كل كلمات القرآن واضحة للصحابة فكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما غمض عليهم من ألفاظه فيجيبهم عن ذلك فحينما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله سبحانه وتعالى «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» انزعج الصحابة انزعاجا شديدا وقالوا يارسول الله أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال لهم ليس الظلم كما تعلمون بل الظلم هو الشرك، اقرأوا إن شئتم قول الله سبحانه وتعالى «يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم» وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم حاروا فى معانى كلمات فى القرآن الكريم فهذا أبو بكر يقرأ قول الله تعالى «وفاكهة وأبا» فيقول هذه الفاكهة عرفناها فما الأبّ؟ ثم يقول رضى الله عنه “أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب الله بما لا أعلم، وقرأها عمر رضى الله عنه فتوقف عند كلمة الأب فى الآية ثم قال هذا هو الكلف بعينه يا عمر أى لماذا نتوقف عند أشياء لا نعلمها، ويقرأ ابن عباس قوله تعالى «فاطر السموات والأرض» فتوقف عند كلمة فاطر حتى جاء له أعرابيان يختصمان فى بئر فقال أحدهما أنا فطرتها فعلم ابن عباس أن معنى فاطر هو ابتداء الشىء على غير مثال أى منشئها على غير مثال. وهكذا كان أول عهد المسلمين بالقرآن تربوا عليه وحفظوه فى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأوا بعد ذلك مدارس فى تحفيظه وتفسيره واستخراج أحكامه وكشف مكنونه وبيان أوجه إعجازه والكشف عن أوجه إعرابه فنشأت مدارس عديدة فى القراءات القرآنية فأنشأ ابن مسعود مدرسة فى الكوفة تخرج منها عدد كبير من القراء منهم عاصم وحمزة والكسائى وكلهم من القراء السبعة وفى البصرة أبو عمرو بن العلاء وهو من السبعة أيضاً ويعقوب وهو من القراء العشرة وابن كثير فى مكة ونافع فى المدينة وابن عامر فى الشام وجمع المصحف العثمانى بين هذه القراءات جميعا وظل القرآن بقراءاته ينتقل رواية ومشافهة من فم الرسول إلى أفواه الصحابة إلى أفواه التابعين ومازالت رواياته على أيدى القراء فى شتى بقاع الأرض إلى الآن وصدق الله العظيم “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” أما المدرسة الثانية التى أنشأها صلى الله عليه وسلم فهى مدرسة الحديث النبوى فقد قال صلى الله عليه وسلم «أوتيت القرآن ومثله معه» وقال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم «وما ينطق عن الهوى» وقال تعالى «وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة» وقال تعالى «هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة» فالحكمة هى تلك الأحاديث النبوية التى كان يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابته، وكانت تأتى تبعا للأحداث التى يمر بها المجتمع المسلم فكان صلى الله عليه وسلم يتعهد صحابته رضوان الله عليهم بالموعظة وكانت الأحاديث النبوية تأتى مفسرة وموضحة ومؤكدة لمعانى القرآن الكريم وشارحة لغامضه ومفسرة لمعانيه ومفصلة لمجمله، فكان الصحابة يجمعون أحاديثه ويحفظونها ويروونها عنه ويعلمون غيرهم بها، وكان أكثر الصحابة لزوما له ومجالسة أبو هريرة رضى الله عنه، فقد لزمه كظله يسجل كل ما نطق به وقد أعطاه الله ذاكرة حافظة فكان أكثر الصحابة رواية لأحاديثه صلى الله عليه وسلم وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة الحفظ ولأمه بالإسلام فأسلمت ببركة دعائه وحسن إسلامها كما كان لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها النصيب الأكبر بعد أبى هريرة فى الرواية وذلك لكثرة جلوسه عندها ومحادثته لها وجاء بعدها ابن عمر رضى الله عنه ثم تفاوتت بعدهم الصحابة فى كثرة الجمع والتحصيل وهكذا ظل المجال متاحا لجامعى الأحاديث كالبخارى ومسلم وابن ماجة والترمذى وابن حبان وأبى داود والنسائى وغيرهم من رجالات الحديث والذين حفظوا تراث النبى صلى الله عليه وسلم، ومن خلال تلك المدرستين مدرسة القرآن ومدرسة السنة النبوية نشأت علوم كثيرة كالفقه والتفسير والبلاغة والنحو والمعاجم وغيرها من تراث هذه الأمة.