الأحد 6 اكتوبر 2024

ديفيد جرونفيلدت: لا بد للفن والفنان أن يقوما بدور حاسم في تعميق تقديرنا الجمالي للمياه

غلاف الكتاب

ثقافة16-4-2024 | 19:27

محمد الحمامصي

يروي كتاب "أخلاقيات المياه: مقاربة القيم لحل أزمة المياه" للكاتب ديفيد جرونفيلدت استجلاء الوظيفية المحورية التي تؤديها الأخلاق في إدارة المياه في هذه اللحظة العصبية التي يشهدها العالم احتباسا حراريا غير مسبوق.

ومن معالم هذه القيم الأخلاقية عموما، قدرتها على فض أي نزاع قد ينشب حول هذه المادة الحيوية التي بدأت تنفد وعلى ترسيخ نظام عادل لإدارة المياه، وهذا لن يتأتى من دون فهم عميق لمضمون القيم الأخلاقية في المقام الأول، المسخرة في سياسات المياه.

 

يقول جرونفيلدت في كتابه الصادر أخيرًا عن دار خطوط وظلال الأردنية والذي ترجمه كل من د.عبد النور خراقي ود.عبد الرحيم فاطمي، في تصديره أنه إذا كانت رسالة الإصدار الأول من هذا الكتاب هي "نحتاج إلى معالجة الأخلاقيات التي تقود إلى قرارتنا المتعلقة بالمياه" فإن رسالة هذا الإصدار الثاني هي "نحتاج إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الأخلاقيات في جميع قراراتنا المتعلقة بالمياه وسلوكياتنا المتعلقة بالمياه"، لا يكفي وجود قوانين وسياسات وأنظمة حول المياه؛ بل نحتاج إلى الأخلاق باعتبارها مجموعة متكملية من التوجيه السلوكي.

وهنا أسعى إلى المساهمة في نمو أخلاقيات المياه وتطويرها باعتبارها مجلا للدراسة والممارسة، ومثلما أصبحت الأخلاقيات الطبية مكونا معياريا للممارسة الطبية، يجب أن تكون أخلاقيات المياه مكونا معياريا في التعامل مع المياه، ولأسباب مماثلة، بحيث إن كلا من الطب والمياه أساسيين لصحة الفرد ورفاهية المجتمع نفسه، يجب أن تأخذ القرارات المتعلقة بكل من الخدمات الطبية وخدمات المياه في الاعتبار مجموعة واسعة من المخاوف؛ فهي ليست مسائل تجاربه بسيطة ومن ثم، فعندما لا يتم الاعتراف بالمسؤولية الأخلاقية، يمكن أن تكون النتائج مأساوية، وما التسمم بالرصاص في فلينت بولاية ميتشجان إلا تذكير محزن بأهمية أخلاقيات المياه.


ويؤكد أنه لا يكفي التلويح بأخلاقيات المياه من خلال رسالة إخبارية أو ورقة بحثية تلقى في مؤتمر أو عبر هذا الكتاب نفسه، لكي يكون للأخلاق تأثير حقيقي في صنع القرار بشأن المياه، يحتاج مجال أخلاقيات المياه إلى امتلاك هيئة مؤسسية أو هيئات مؤسسية متعددة، بل أكثر من مجرد هيئة، يجب أن تصبح أخلاقيات المياه عضوا ديناميا في نظام إيكولوجي أكبر لمدارس الفكر ذات الصلة مثل العدالة البيئية والمرونة والإشراف الجيد على المياه، وإنهاء الاستعمار، يبدو لي أن المساهمة الخاصة لأخلاقيات المياه، تكمن في إبراز مبادئ القيم ضمن هذه الأطر المعيارية الأخرى، وإيجاد القواسم المشتركة وكشف الاختلافات. إن ساحة القيم وأخلاقيات المياه ليست لضعاف القلوب. وثمة قليل من حالة الاستقرار والثقة؛ فالقيم يجب استخلاصها من التصريحات والسلوكيات،  أما الأخلاق فهي أكثر ضبابية ولكن حتى لو كانت هذه القيم غامضة وسيئة التكوين‘ فإنها تحفز سلوكا حقيقيا ينتج تأثيرات حقيقية في الطبيعة والناس. ولأنه موضوع لم يحظ إلا بقدر محدود نسبيا من الدراسة، فهناك فرصة للمساعدة في تأطير هذا المجال. قد يفاجأ أرسطو لما يدرك أن الأخلاق ـ على الأقل المتعلقة بالمياه ـ تظل تشكل حدودا جديدة للمعرفة حتى بعد مرور 2300 سنة.  

يرى  جرونفيلدت أن التجربة المعمقة للمياه والأنظمة البيئية تساعد على تهيئة الظروف لتقدير الماء وتثمينه، وتطوير حس أخلاقي حوله؛ ويعمل فنانوا البيئة بشكل احترافي، في هذا الإطار على خلق رابط بين الناس وتصورات الطبيعة، علما أنه باستطاعة الناس أيضا التفاعل مع الطبيعة بشكل مباشر. 


إن نهج بناء الوعي القياسي لخلق اتصال بين الناس والنظم البيئية، يتم من خلال الأنشطة الترفيهية (مثلا ركوب القوارب في الأنهار، والسباحة، والإبحار)، صيد الأسماك والمشي لمسافات طويلة أو عمليات تنظيف التي يشارك فيها أعضاء المجتمع على طول ضفاف الأنهار وبينما تحظى مثل هذه الأنشطة بتقدير كبير من قبل المشاركين، فمن غير المرجح أن تؤدي هذه التجارب المحدودة في خلق رابط بالأنهار إلى موازنة التلقين المعارض النابع عن المجتمع، الذي يفيد بأن يفيد بأن النهر يمثل شريط مياه جامح، يحتاج إلى السيطرة بعناية، إذا، كيف يمكن للناس اختيار أهمية الماء والتفاعل معه بشكل أكثر اتساقا في حياتهم؟ نحن في الواقع نفعل ذلك بالفعل، فكل منا يستشعر الماء عدة مرات كل يوم في حياتنا اليومية (استخدامات المياه المنزلية) وفي حياتنا المدنية والمهنية عند مرورنا بجانب المناظر الطبيعية المحلية/ ومناظر المدينة، ونرى الأنهار أو القنوات الصرف الصحي، أو النوافير، أو البرك، أو أحواض الماء الراكدة التي لا اسم لها. إن التفاعلات الدقيقة مع الماء هي بمثابة فرض لزيادة الوعي إن كنا على استعداد للملاحظة.

 


ويشير إلى أنه عادة ما يتم تجاهل الفرص الأخلاقية المائية اليومية، على الرغم من أن برامج الحفاظ على المياه في المناطق الحضرية رائجة للغاية، وبالفعل فالتركيز على الحلول التكنولوجية للحفاظ على المياه مثل استخدام الحنفيات ذات التدفق المنخفض ورؤوس الدش واستبدال المراحيض والغسالات بأخرى أكثر كفاءة، قد يساهم في تسليع مفهوم المياه، بإن إحدى المنافع غير الملموسة والمهمة لتجميع مياه الأمطار وممارسات الزراعة المستدامة والمساهمة في غرس الوعي الأخلاقي، تتمثل في أن هذه الممارسات تساعدنا على خلق رابط بيننا وبين الطبيعة من خلال الاهتمام بهطول الأمطار وأنماط الصرف الصحي حول منازلنا، فعندما ندرك حركية المياه من حولنا، قد نكتسب أيضا وعيا أعمق بالأمور البسيطة مثل غسل أيدينا أو سكب كوب من الماء. 


ويتمثل الجانب الآخر لإدراك أهمية الماء في النظر إليه؛ بحيث كلما كانت الموارد المائية ظاهرة ومرئية، كلما كان من السهل إبصارها، وهذه هي النقطة التي تحدث فيها تصاميم المجال الحضري فرقا، فعندما نسير في طريقنا إلى العمل ونمر فوق جدول ماء، هل يمكننا رؤية قناة النهر أم أنها مدفونة تحت الرصيف في مجرى خرساني (كما هو الحال في العديد من الجداول الحضرية)؟ إن عملية إزالة العوائق مث الخرسانة أو الرصيف، التي تغطي الأنهار في المجالات الحضرية، وفي بعض الأحيان أنهارا كاملة (مثل ما هو في لوس أنجلوس) لا تجلب منافع للنظم البيئية الحضرية فحسب، إنما أيضا للحياة الوجدانية للمواطنين المحليين؛ إن التصميم الحضري الذكي، يمكن أن يدمج كلا من الميزات المائية الطبيعية والمحدثة، لخلق تجارب بصرية وحسية وسمعية، بل وحتى لحاسة شم المياه، التي تعزز اتمتاعنا وتذكرنا بقيم المياه المتنوعة.

 


ويؤكد جرونفيلدت أن الفن والفنان يقومان بدور حاسم في تعميق تقديرنا الجمالي والوجداني للمياه، فضلا عن نقل المعلومات الواقعية التي قد لا نستوعبها بدون تغليف جذاب، ويسهم الفنانون الإيكولوجيون في بناء حس أخلاقي من خلال نقد الطرق التي نؤطر بها الطبيعة. 

 


وبينما ليس بمقدور الفن تقديم إجابات حول ما ينبغي القيام به، إلا أنه يبرع في طرح الأسئلة، مثلا هل هذا جيد؟ هل ثمة طريقة أخرى للقيام بذلك؟، يمكن للفنان والفنانين المساهمة بطريقتين أساسيتين في تطوير أخلاقيات المياه، أولهما من خلال تمثيل المياه أو المسطحات المائية (مثلا بحير) أو البنية التحتية المائية مثل الأنابيب والسدود وما إلى ذلك، وإبرازها لنا بطريقة قد تتلاعب بافتراضاتنا حول كيفية رؤيتنا للمياه، وثانيا من خلال فن الأرض، حيث يتدخل الفنان مباشر في المناظر الطبيعية أو المناظر المائية.