السبت 21 سبتمبر 2024

القيمة

26-2-2017 | 10:11

لويس ويسي - ترجمة: شرقاوي حافظ – مترجم مصرى

في اللحظة التى دخلت فيها آني حديقة منزلها الصغير كان فى انتظارها مديرة المنزل ناني وقالت لها "إننا نواجه مشكلة يا مدام بورو". فقالت لها آني وهى مرتبكة إذ كان عليها أن تجهز حقيبتها للسفر إلى لندن: "ماذا حدث يا آنسة باتش؟"

ـ "إنها سيسي مرة أخرى"

ـ "نعم، سن الخامسة ليس سهل يا آنسة باتش، ولكن ماذا جرى هذه المرة؟"

ـ "إنها تبكى من أجلك"

ـ "من أجلى؟"

ـ "إنها تريدك أن تحضنيها".

فهزت آني كتفيها: "إنها كبرت على هذا".

ـ "لقد قلت لها ذلك".

ـ "فماذا فعلت؟".

ـ "إنها فى نوبة غضب، لقد رمت دميتها فى الحمام، وتسببت فى تسرب المياه فى التواليت لسقف غرفة السفرة".

ـ "ورق الحائط الذى أحضرته من باريس؟".

ـ "نعم وأعتقد أنه تلف".

    فأخذت آني تتلفت نحو السماء": اتصلى بمكتب الصيانة، وسوف يرسلون أحد المختصين. واتصلى بعد ذلك بمكتبى. سأذهب إلى سيسي". فزمت الآنسة باتش شفتيها: "لا أرى ذلك".

ـ "لم لا؟"

ـ "يجب أن يعاقب الطفل. وأنت الشيء الذى تريده الآن، فيجب أن تحرميها منك".

    ظلت آنى صامتة للحظة، ثم أجابت بصوت حاد: "أهى تلك سياستك فى تربية الأطفال يا آنسة باتش؟".

    فرفعت الآنسة باتش رأسها، وكان ذقنها يرتعش على نحو خفيف، فلم تكن معتادة على أن تنتقدها أى مخدومة: "لقد قمت بتربية أطفال بعض العائلات الثرية قبل ذلك".

ـ "وبلا شك كانت النقود هى الشيء الوحيد الذى يسعد الطفل، أليس كذلك؟".

ـ "ليست كل شىء".

    نظرت آنى إلى الآنسة باتش وكأنها تقابلها للمرة الأولى. كانت الآنسة باتش من نوعية النساء التى خلقن للخدمة، من ذلك النوع الذى أوشك على أن يختفي. ما الذى كانت تفعله فى منزل آنى سوى أن تنفذ ما تطلبه منها، وهو بمثابة أن تقوم بدور الأم البديلة حتى تستطيع آني أن تقضى النهار فى المكتب والليل مع زوجها الثري؟ فجأة شعرت آني بالتوتر وبالحرج من نبرة صوتها والكلمات التى قالتها فقالت: "قسوت عليك يا آنسة باتش، وليس لى حق فى ذلك. إنك تتعاملين مع الأطفال كل يوم، ولكنى فعلا أريد أن أرى سيسي الآن، يجب أن نعمل معا كفريق واحد". نظرت الآنسة باتش إلى آنى فى صمت، فهذه أول مرة ترى السيدة بورو تدافع عن نفسها وهى نادمة. عبرت آنى بكتفيها المرتخيتين فى الغرفة التى تزين جدرانها لوحات زيتية أحضرها لها مستشارها الفنى، وصعدت على السلالم التى صممها مهندسها المعمارى وسارت داخل غرفة الطفل التى أثثها مهندس الديكور. كانت ابنتها تجلس القرفصاء فى أحد الأركان، وقد تلقت توا توبيخا من مربيتها ناني، همست آني: "سيسى، ماما هنا يا سيسى".

    رفعت سيسى وجهها الذى عليه آثار الدموع. شعرها الأصفر مصفف على شكل ذيل الحصان، وإن كانت هناك خصلات ملتصقة على جبينها المبتل. اقتربت منها آنى، ولكن سيسى كورت نفسها ككرة صغيرة، وكررت: "تعالى لماما، ماما هنا من أجلك". هزت سيسى رأسها وراحت تبكي، فسألتها آنى وهى خائفة من أن تقترب منها: "لماذا لا تأتين لماما؟"، فشهقت سيسى: "لا، لأن سنتى مخلخلة، والآنسة باتش تريدنى أن أنتزعها، لن أفعل. إنك رحلت. أردتك أن تنزعيها، ولكنك رحلت، أنا أكرهك". تراجعت آنى ونظرت إلى ابنتها المتكورة فى الركن، الطفلة غاضبة من أمها ومن مربيتها، غاضبة لأنها تواجه العالم بدون الشخصين اللذين تحتاجهما وتكرههما بشدة. للحظة رأت آنى نفسها وهى طفلة فى الطفلة التى تنظر إليها. ومع ذلك ففى كل مراحل طفولتها لم يمر عليها وقت احتاجت أمها ولم تجدها. ذهبت آنى لغرفتها فى صمت ورنت الجرس للخادمة، فمازالت تريد أن تجهز نفسها للسفر فقالت: "ضعى بعض الملابس من الدولاب الأسود فى شنطة صغيرة، سوف أسافر لمدة يومين". ذهبت الخادمة التى شهدت المعركة بين الطفلة والمربية سرا لكى تنفذ التعليمات. بعد أن رتبت الشنطة حسب تعليمات آني وهي أن تضع كل الملابس من درجات ذات اللون حتى تستطيع أن ترتدى معها نفس الإكسسوارات، رأت آنى تدخل الحمام. لكنها لم تر آنى وهى تفتح صندوقا أبيض أخرجته من دولاب المناشف. فتحت الصندوق بيد مرتعشة وأخرجت الملاءات البيضاء التى كان تحتها جاكيت بمبي من الصوف الناعم. إنها لم تفتح هذا الصندوق منذ عيد الميلاد منذ خمس وعشرين سنة، حينما أعطتها إياه أمها تعبيرا عن حبها. لكم كانت آنى تكرهه! لقد وضعته بعيدا عنها بمجرد أن أعطته أمها لها. لن تلبس شيئا مقززا. جاكيت بمبي صوفي، وما يزيد الطينة بلة أن أمها هى التى صنعت الجاكيت بيدها. فى الوقت الذى ترتدى فيه البنات الكشمير الأسود الفاخر الذى أحضرته أمهاتهن من سكوتلاند، لقد أعتقدت أمها أنها سترتدى الجاكيت الذى صنعته بيدها. أخذت آنى تنظر إلى الجاكت البمبى وتمرر أصابعها على الوبر الناعم. كم بذلت أمها من جهد فيه بينما هى لم تقدره ولم تفهم معنى الهدية تعبيرا عن الحب! لا، فكل تفكيرها عندما قدمته لها أمها هو "لماذا نحن فقراء؟ لماذا لا أرتدى الكشمير الأسود؟ لماذا تعمل أمى خادمة فى منازل الأغنياء؟ الجاكيت البمبي كان رمزا يعبر عن كل حياتها الأخرى، لقد سألتها أمها بلهجتها الإنجليزية المكسرة: "ما رأيك فيه؟ هل يعجبك؟". ابتلعت آنى ريقها بصعوبة وقالت: "نعم، بالتأكيد". ولكنها همست بصوت منخفض: "أنا أكرهك". هل سمعتها أمها؟ لم تعرف آنى الإجابة.

    فى تلك اللحظة التى كرهت فيها آنى أمها، كانت تكره الفقر والزيف والتظاهر بحياة بارك أفينيو، وهى لم تكن حياة بارك أفينيو لأن أمها كانت خادمة. وأكثر من ذلك كانت تكره نفسها لأنها كرهت كل شيء. ها هو الآن الموقف يعيد نفسه، أليس كذلك؟ فابنتها استدارت لها وقالت لها: "أكرهك". دفنت آنى رأسها فى الصوف البمبي وراحت تبكى، لقد فات الأوان، فات الأوان لكى تقول آني: "ماما، أحبك يا ماما". ولكن لم يفت الأوان بالنسبة لسيسي.

    عندما أقلعت الطائرة رأت آني جسور نيويورك المتلألئة، ولمحت فى الجانب الآخر تمثال الحرية، وكانت تدور حوله حياة أمها، ألم يكن ذلك؟. تحركت فى مقعدها بينما كانت إشارة ربط الحزام مازالت مضيئة، ولكن كان لا بد من أن تفعل ذلك. مشت على أطراف أصابعها نحو غرفة نومها فى مؤخرة طائرتها الخاصة وهمست للطفلة النائمة: "ماما تريد أن تريك شيئا جميلا". ولكن الآنسة باتش حذرتها: "دعيها نائمة". ولكن آنى هزت رأسها: "إنها لن تتذكر النوم، بينما ستتذكر دائما أول رحلاتها إلى لندن عندما أيقظتها أمها لكى تريها تمثال الحرية"، فحذرتها الآنسة باتش: "إنك ستفسدين الطفلة يا مدام بورو، لن تلتزم الطفلة بالجدول".

ـ "ربما هذا ما تحتاجه الطفلة، ربما هذا ما نحتاجه جميعنا، ربما هذا هو الجدول الذى يقتلنا كلنا".

    رفعت آني طفلتها الصغيرة، ووضعت خديها الناعمين على خديها فهمست سيسي، وهى تتقلب فى نومها: "هل أنت الجنية توفي؟". فضحكت آني: "نعم يا عزيزتى أنا الجنية توفي، وسآخذك لرحلة ساحرة للأرض الجديدة، وسنعود معا إلى بيتنا".

    فرددت سيسي: "معا"، ودست رأسها فى جاكيت أمها البمبي الذى من الصوف الناعم.

* لويس ويسي: كاتبة وصحفية ومصممة إعلانات أمريكية. توفيت عام 2007 وتركت 60 عملا في فن الإعلان، وروايات ومجموعات شعرية ومجموعات قصص. والقصة من مجموعة «إنك لا تشبه جدتي».