الأربعاء 27 نوفمبر 2024

أسيل

  • 26-2-2017 | 10:15

طباعة

سمير الفيل - كاتب مصري

جارتنا نوارة جادة، وحادة في معاملاتها للبشر، وممتعضة طول الوقت. شخصيتها قوية للغاية، وقد تزوجت من الإتربي حزين محمود، وهو نجار باب وشباك في زقاق العتباني، قرب شارع النقراشي.

    كان الإتربي يقضي مصالحها، ويسمع كلامها، ويعتبر طلباتها أوامر، وهي اعتبرت ذلك أمرا مفروغا منه. حين تفتح الشباك صباح كل جمعة تتباهى بإلقاء ماء الحموم أمام عتبة البيت لكيد العوازل، وهن بعدد شعر رأسها.

    الإتربي شخشيخة في يدها، وهو راض عن وضعه طالما معه ثمن حُق الدخان، فمزاجه لا يعدل إلا بعد لحسة الحشيش التي تضرب اليافوخ في المساء مع شلته الصاخبة.

   للإتربي فتاة رقيقة من زيجة سابقة، زيجة لم تكلل بالنجاح فخديجة سليلة الغواني والرقص بالصاجات، طردته من بيتها الملك، ورمت له بألفي جنيه كي يمنحها الطلاق، وهو لم يتأخر عن إرسال الورقة التي حررها المأذون، وأخذت رقما في السجلات الرسمية.

   عاملت نوارة أسيل، ابنة الزوج، بشيء من الحياد، صحيح أنها لم تقطع قلبها في شغل البيت، لكنها في الوقت نفسه تركت مسافة ما، بينها وبين البنت الخجول التي كانت صموت، قليلة الطلبات، لا يسمع صوتها إلا همسا.

هل أحدثكم عن أدبها، وجمالها المدهش؟

   لن يصدقني أحد إذا ما أخبرته أن لها نظرة ساحرة من عينيها البنيتين، تفتك بالذكور مهما كانوا متحصنين بالزوجة الطيبة، المطيعة أو الزوجة العندية، النكدية. نظرة عيني أسيل شيء فوق الوصف، وقد جربت هذا شخصيا عندما كنت هناك أصعد فوق السطح لأضبط هوائي التلفزيون. سألتها من على حافة السطح: جاء الإرسال؟

ـ لم يأت.

ـ عندك سلم؟

ردت بأدب: عندنا. انزل، وخذه فهو ثقيل عليّ.

    نزلت فوجدتها تستند بمرفقيها على الباب الموارب، وقعت عيني في عينيها، فانطبقت السماء على الأرض أو كادت. عاد الاتزان لنفسي، ولما تأملت العينين كدت أفقد تماسكي ثانية، فاسترجعت دهشة ماجلان وهو يكتشف قارة أمريكا. كان اكتشافي متأخرا، فهي أصغر مني بكثير، وأنا شاب خاطب، وفي طريقي للزواج مع فتاة متفاهم معها في كل شيء.

    سأقول لك يا صديقي إن الزواج شيء والحب شيء آخر، وأكتفي بهذا القدر من الكلام، وأسكت سكوتا مريبا.

   إن نوارة لها طفلة سمراء من زوج مات في حادثة قطار حيث زلت قدمه فسقط على الشريط الحديدي ومات من فوره. ظلت متمسكة بالأسود ولم تخلعه إلا بعد مرور أشهر العدة، بعدها كلبشت الزوج الجديد بقيد حديدي يتمثل في قائمة عفش وكمبيالة بمائة ألف جنيه، واجبة السداد في حينه.

   ابنة نوارة اسمها صفاء، وهي فتاة ثرثارة، تلعب "الأونى"(*) رغم أن ثدييها تكورا خلف القماش التيل.

   بمرور الزمن، تضعف إرادة الإتربي أكثر من ذي قبل، ويقوى نفوذ زوجته، وتبدأ الفتاة المسكينة في تحمل شغل البيت دون أن تفقد تفوقها بالمدرسة.

   كنت أقف عاملا في محل بقالة، وأسيل تأتي لشراء لوازم البيت، وقد عرفت من خلال ترددها أنني أهتم بمادة الجغرافيا، فكانت تتوسل إلى أن أساعدها في رسم الخرائط، وكانت مكافأتها لي تتمثل في بصة بريئة في العينين البنيتين فأشهق في سري وأصيح: ما شاء الله.

   أتزوج من لطيفة، وأفتح بيتا، وكنت من مكاني أشاهد نوارة، ومن خلفها بخطوة أسيل وهي تحمل فوق رأسها أحمالا فوق طاقتها، بينما صفاء تسير كأميرة متوجة، تطوح ذراعيها في الهواء، وتمضغ اللبان.

   أما الإتربي فقد كنت أراه قليلا، خاصة في الساعات الأولى من الصباح حيث يعود مسطولا، ورأسه ثقيل وهو يغني: "أسمر ملك روحي.. يا حبيبي تعالى بالعجل".

   أتعجب لغنائه الخشن وصوته الأجش، ووضع يديه في بنطلونه، والقلم الرصاص الذي كان يضعه مع ممحاة في جيب السترة العلوي.

    بدأت أسمع سباب نوارة للفتاة البريئة، وصوت لطماتها لها بعد أن تضمن عدم وجود الزوج الدُهل في البيت. ثم أسمع طرق الباب بقوة ؛ فأعرف أنها طردتها فتقف في الشارع وحيدة، عندها كنت أشير لها بيدي فتأتي وهي مطأطئة الرأس تقف في ظلال عمود نور مطفأ، لم تصلحه البلدية بعد.

   كنت أراها فتاة مظلومة، وكانت تخفي عني الكدمات التي أصابتها، تكتفي بأن تجلس بعد إلحاح على مقعد خارج المحل فأرسل إليها قطعة شيكولاته، وهي تهز رأسها ممتنة. لم أكن أعطف عليها فقط، كنت أحرسها من نزوات نوارة الطائشة، وأخطف نظرة سريعة لعينيها خاصة إذا ما انعكس البريق على البؤبؤ الفتان. أقول في نفسي: هي صديقتي الصغيرة، وأختي التي لم تلدها أمي. فأنا ضعيف تجاه الجمال. وكان جمالها صامتا، مختفيا، لا يلفت النظر.

   فجأة علمت بأن زوجة الأب أخرجت أسيل من تعليمها الإعدادي بدعوى تقليل النفقات، وقد صدمني أن الأب قد قبل قرارها، ولم يناقشها في حرف منه. بل إنها هددته بطرده هو الآخر لو أنه تنفس نفسا زائدا أو فاتحها في الموضوع.

    استقبلت الخبر بانزعاج، واتفقت مع أسيل أن تواصل دراستها من منازلهن، وقد مضينا في تنفيذ تعهداتنا السرية، فقد كنا ندبر سويا نقود المصروفات وهي بسيطة.

   أجبرت أسيل على الزواج من سائق، من شط جريبة اسمه المتولي طبل. كان يكبرها بحوالي عشرة أعوام، وحدث أن استوقفت الإتربي، وعاتبته على قبوله ذلك الارتباط؛ فالفتاة صغيرة، لا تقدر على تحمل تبعات الزواج. استمع الأب إلى كلامي، ونظر ناحية الشباك المفتوح، فرأى السهاري مضيئا إضاءة خفيفة، فأطرق في الأرض وقال بصوت هامس كأنه يحدث نفسه: لا تحدثني. كلم زوجتي. حاول أن تقنعها.

    لم أفتح فمي بكلمة واحدة، فأنا أدرك كم هي شريرة، وشرها يمسك بالأبدان، ومن الممكن أن ترمي بلاءها علي.

   شاهدت أسيل وهي تمضي حزينة، تركب سيارة ربع نقل وخلفها العفش وصوت محمد رشدي يلعلع في الميكروفون: "والله فرحنا لك يا وله.. والسعد جالك يا وله".

   رأيت دموعها تنحدر على وجنتيها، والمتولي طبل، ينظر ناحيتي بتحد. أما هي فرغم كل ما يحيط بها من مظاهر فرح كانت في غاية التعاسة. لم تضع اعتبارا لأحد حين أشارت لي بطرف عينيها حتى اختفى رتل السيارات من المكان.

   غابت عني أخبار أسيل، وصارت صفاء، تأتي المحل الذي كبر وتوسعت تجارته فتشتري مني، بدون أن يجري حوار بيننا. كانت تنظر نحوي نظرات عدائية، وتستعجلني إذا ما تأخرت في إحضار طلباتها.

   كبرت صفاء، وجاءها الخطاب، وأكملت تعليمها، وسرعان ما وافقت نوارة على خطبتها لشاب يعمل بصناعة الموبيليا، شاب متعجرف يضع في بنصره خاتم فضة بفص زمرد مغشوش، وقد وافقت الأم ومن خلفها الأب الشخشيخة على زواج البنت في شقة علوية كانت في الدور الثاني.

    لم تسر العربات حاملة الموبيليات في سيرها الاستعراضي المألوف، ولا زغردت النسوة مع مقدم بقية العفش، وفي ليلة الزفاف لمحت أسيل. كانت تحمل طفلا في الرابعة من عمره، وقد اختارت له بدلة  أنيقة باللون الأبيض. جاءت نحو الدكان وطلبت مني شيكولاته، ومدت يدها بالمبلغ:

ـ كيف أحوالك يا أسيل.

ـ الحمد لله.

ـ الشيكولاته هدية مني لك.

ـ خيرك علي.

ـ أبدا. عملت إيه في التعليم؟

كنت أترقب الإجابة وأنا قلبي يدق بقوة. ضحكت:

ـ أنا في ثانية حقوق.

ـ مش معقول.

ـ البركة فيك.

ـ أحسن خبر سمعته.

أخرجت من بين صديريتها ورقة قديمة. نظرت نحوي بامتنان:

ـ فاكر؟

ـ خريطة ماجلان؟

ـ نعم.

ـ اسم ابنك؟

ـ محروس. كنت أريد أن أسميه باسمك وخشيت غضب زوجي.

ـ خيرا فعلت.

ـ وددت أن أشكرك يوم رحلت لبيت الزوجية.

ـ أنت شكرتني بنظرة عينيك.

ـ أفهمت إشارتي؟

ـ كانت الرموش تتحدث.

ـ يا سلام؟ أتعاكسني.

ـ أبدا والله.

ـ أنا متأكدة من ذلك.

مدت يدها لتصافحني قبل الانصراف.

   لمحت البريق في العينين البنيتين من جديد، كأنها لم تتركني عدة أعوام. كانت النظرة تحمل ابتهاجا مخفيا، وفرحا غامضا.  سألتها أن تبقى قليلا. صعدت إلى الصندرة، مددت يدي، وسحبت دفترا صغيرا كان باللون الوردي: هدية نجاحك.

   هزت رأسها وقالت لي بخجل: محروس يريد تقبيلك.

   انحنيت فقبلته، وقد مال بجذعه فأمسك شعر رأسي وشدني فضحكت من قلبها. قالت بكل براءة ممكنة: يومك سعيد.

ـ يومك سعيد يا ست هانم.

التفتت نحوي مستنكرة عبارتي:

ـ مفروض تقول: ليلتك سعيدة يا أسيل.

   وقد نطقت عبارتها المحتجة، المعاتبة، الرشيقة، وانسحبت من المكان تاركة بهجة لا يمكن نسيانها:

ـ مع السلامة يا أسيل.

•       ("الأونى" أو"الأولى": لعبة شعبية مصرية قاصرة على البنات. تحجل البنت باستخدام حُق ورنيش مليء بالرمل أو قطعة حجر، وتنقله بمشط قدمها من حارة إلى حارة (الحارة: مربع وبعده آخر).

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة