د. رمضان رمضان متولي - كاتب مصري
في رواية "بياض ساخن" تشغل الافتتاحية ـ كعنصر تكويني يترتب عليه مسار القص وتطور النص ـ أهمية إستراتيجية من أجل فهم النص وانفتاحه، وذلك لكونها حلقة تواصل بين المؤلف والراوي من جهة والمتلقي من جهة ثانية، ويتم عبرها تحديد العديد من المنطلقات الأولية التي تهم الجنس الأدبي وإفضاءاته.
ويلاحظ في السرد قيام المؤلفة سهير المصادفة بشحن بداية روايتها بجمل معادلة تلخص العمل، فتؤسس له وتتأسس منه، وتؤشر بالتلميح المكثف لما يحتويه النص، وتمتد داخل النص كترددات تنتشر في المعنى والفكرة واللغة. كان تقديم لاستهلال موفقا، لاحتوائه على أكثر من مادة، وربطه بين موضوعات وأفكار منحت النص أبعادا معرفية ودلالية: "لا أستطيع التفوه بحرف واحد، بل أظل أشهق بدون توقف، وأنا أسترجع اللحظة التي رأيتها فيها فور دخولي ميدان التحرير". فقد اختارت الكاتبة ميدان التحرير وما حل به من خراب وأصبح جراء عبث المفسدين في الأرض من الإخوان صحراء يبابا "مكفهرا ومقفرا وقبيحا"، تتناثر في أرجائه آثار حفر زرع منصات التحدث باسم حزب الحرية والعدالة في صباح مختنق بروائح عطنة، وفارغ من نسماته البكر، وملوثة إطلالته بالدماء المتخثرة، وصار الميدان له سحنة شريرة، لا زهر فيه ولا نماء، وما حدث من إخوان الشياطين وتهديداتهم بأنهم سيشعلون النار في مصر وأهلها إذا لم يفز محمد مرسي، كما فرت الطير حزينة غاضبة من سماء الميدان، ثم أخطروه بفوزه برئاسة مصر حتى قبل أن تفتح الصناديق.
تلك كانت عتبة النص التي أبدعت رسمها ريشة سهير المصادفة بوعي وصدق وإحساس صادق جميل ومؤثر. والطامة الكبرى التي أعقبت الصدمة الأولى للراوية "لولا" وهي في بحثها القلق الحزين عن أختها "عبلة" الجميلة الحنون الغائبة عن بيتها وأهلها: رؤيتها لعبلة على طرف الميدان واقفة كتمثال زرِع فجأة على الرصيف، وجهها شطر النيل، معطية ظهرها للمتحف والتمثال، وهي تخلع ملابسها وتلقيها تباعا في مياه النيل، وهي في حالة رثة، وصارت كيوم ولدتها أمها. عبلة الملواني حفيدة الحسب والنسب، الابنة الحبيبة الغالية رمز الحب والحنان والجمال ملوث وجهها، لا تجد "لولا" ما تسترها به، شاعرة بالعار الذي حل بأحفاد الملواني.
ومن قلب العتبة النصية التي أوجزت أحداث القصة تولد عنوان الرواية ومضمونه ودلالاته فقد انتقت سهير عنوانها الروائى من قلب المشهد القصصي فالتقطت جوهر الشيء وليس الشيء ذاته لتكشف لقارئها المعنى محملا بدلالات وإيحاءات تسمه بالاختصار والوضوح أحيانا وتحيطه بالإيهام أحيانا أخرى، لتجعل هذا المعنى المكثف عبر إنتاج الدلالة تشبيها بجبل الثلج العائم باعتبار أن العنوان هو المحور الذى يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه فى تمثلات وسياقات نصية تؤكد طبيعة المتعلقات التى تربط العنوان بنصه والنص بعنوانه.. وعلى هذا النحو جاء العنوان تجريديا يبتعد عن المباشرة فى التعبير عن مضمون النص بل يلجأ إلى الانحراف الدلالي الذى يكسر أفق التوقعات.
تذهب الكاتبة إلى القول بأن البياض الساخن ارتبط بزمن الرواية أثناء فترة حكم الإخوان، بعبارة شديدة الإيجاز غزيرة الإيحاء: "إن البياض الساخن يتكاثر ويواصل زحفه ليمحو الرجل من على الستارة وما تكدس من قمامة على جانبي شارع ضيق في كرداسة". فقد أصبح هذا البياض علامة واضحة ودليلا على الشيب أو الموت، وظل دائما مرتبطا أو متبوعا بمشاهد "لعاهرات يرتبن في الصباح الباكر أعضاءهن، إضافة إلى شخصيات عفنة، منهم القوادون ذوو الوجوه المكفهرة الغاضبة، يبدون كمسوخ تشبه مطفأة وحيدة ممتلئة بأعقاب السجائر".
وتصل الحرفية والمهارة السردية والإبداع قمتها حينما تجعل من البياض سبيلا إلى موت ماحق مخيف ومريع، حينما ترسم مشهد موت الخالة "رجاء" إذ جعلت عقربا تتسلل إلى طرحة زفافها "البيضاء" وهي في قمة السعادة وتلدغها لدغة قاتلة. ولا يخفى على القارئ أن لون طرحة الزفاف "أبيض"، وضوء مصباح النيون في الغرفة "أبيض" ودماغ ومخ رجاء "أبيض"، وذلك كله محسوب بدقة كمفهوم للبياض عند سهير المصادفة، وصياغتها للسرد الدرامي لمشاهدها. ولذكائها وحرفيتها العالية، نراها تصف على لسان عبلة الرجل الجالس إلى جوارها وهي في طريقها إلى الإسكندرية في سيارة السوبرجيت فتقول عنه عبلة: "رجل كل ملامحه بيضاء ومدورة". هكذا يكون البياض معادل القبح والدمامة والموت، وانهيار الوجدان وضياعه وفقدانه لما يحيط به من معان، وكأن كل الأشياء المحيطة بأبطالها اكتست باللون الأبيض الذى ينتهى بموت الإنسان.
وقد قسمت الرواية إلى فصول ووزعت الفصول وما تحتويه من أحداث توزيعا عادلا، تحمل كل من عبلة ولولا نصيبا فى تسلسل الأحداث وتصاعدها نحو ذروة درامية محكمة ومتقنة تتحقق من خلالها مضمون الرواية، وقد ألقى على كاهلي "لولا" و"عبلة" الحكى الذى يصور الصعود التتابعى للأحداث عبر مجمل فصول الرواية من بدايتها حتى نهايتها فى الفصل التاسع عشر. ولما وصلنا معهما إلى الفصل العشرين، فوجئنا بقيام "لولا" بترك "عبلة" فوق سور النادى الأهلى، كانت "لولا" تعيش حالة فصام يجعل منها تلعب دور "عبلة" و"لولا" معا.
أما عن البناء الفنى فقد عمدت المؤلفة إلى تقسيم روايتها إلى فصول يقوم بسرد أحداثها راويتان، فى إطار زمنى لا يزيد على عام واحد، وتضمن الحكي تواريخ تزيد بمراحل طويلة على العام، من خلال استحضار الماضى العائلى، مع تقديم تفسير لكل ما تقدمه من أحداث عن الأسرة وبضع شخصيات حقيقية تلعب دورا مهما وأساسيا فى حياة الأسرة ذات التاريخ العائلى الذى يبرر ما تقوم به من مواقف وأفعال، فجاءت الرواية ذات أبعاد ثلاثية.. سياسية واجتماعية ونفسية، تنبئ بثقافة وخبرة هائلة، في لغة بليغة متقنة الصنعة سواء فى مراعاة قواعد البلاغة أو قواعد النحو.
وتثبت سهير المصادفة من خلال المضمون القيمي الراقي للرواية ثقافتها الواسعة وتضامنها مع قضايا العدل والحرية، وفي المقام الأول منها قضية الإنسان المصري المطحون. وقد ذهبنا إلى ذلك القول لما رأيناه من أن مفهوم العنصر السياسي للرواية يشير إلى قضية وطن بأكمله هو مصر المحروسة، وما حدث لها – في ظل حكم الإخوان – من ترد للأوضاع السياسية والاجتماعية الناتج عن حرصهم على التدين المظهري، وحصر الدين في شعارات جوفاء، وحكم رجعي قمعي تجلى في حرصهم على الانفراد بالسلطة، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وجاءت المؤلفة بالمرض النفسي الذي حل ببطلاتها كانعكاس للخلل الاجتماعي والنفسي الذي أصاب عددا كبيرا من أفراد الشعب الطيب المسالم في ظل حكم الإخوان.. فالبياض الساخن الذي حل بعبلة ولولا كان له أثره المدمر عليهما، فتقول البطلة: "يتكاثف البياض عندما أبدأ في انتقاد كل شيء حولي، ثمة علاقة بين زحف البياض وارتفاع درجة سخونته بداخل مخي وبين حدة انتباهي للتفاصيل وعدم مسامحتها أو السماح لها أن تمر بسلام".
كما نجحت في الغوص في أعماق النفس البشرية وتحليلها وتشريحها وذلك بإلقاء الضوء على نزواتها وأوهامها وأحلامها من خلال تقديم نموذج فريد لشخصية لا تحتمل ظلم الواقع وقسوته مع عدم رضوخها في نفس الوقت لقسوتها، فتقرر بمحض إرادتها الهرب إلى عالم الجنون الرحب، لتخلق بذلك لنفسها عالما بديلا من الخيال المتراكب.