الثلاثاء 18 يونيو 2024

كتاب فريد لطه حسين عن حافظ وشوقي

مقالات1-5-2024 | 12:42

● كان طه حسين عبقرية فذة تجاوزت الزمان والمكان، وأجاد لغات أجنبية علاوة على اللغة العربية. وكتب بها وتغرَّب ثم عاد، ثم تغرَّب ثم عاد غير عابئ بعدم قدرته على الرؤية
● ما أحرانا أن نجعل من إحياء صلتنا بمشروع طه حسين الثقافى وسيلة لتعميق رؤيتنا له لاكتشاف ما يستحق البقاء، ونُبيِّن ما يتطلب المُراجعة فى ضوء واقعنا الراهن
● لعل ما ينطوى عليه مشروع طه حسين الثقافى من رؤى عميقة قد جعل منه مصدراً خِصباً ومتجدداً من مصادر النهضة الدائمة والتطوير الخلاق لثقافتنا وواقعنا

قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب، العام الماضي بطباعة المؤلفات الكاملة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

وتحمَّس الدكتور أحمد بهى الدين رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب للمشروع. ودعمته الدكتورة نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة.

ورغم أنى قرأت طه حسين كاملاً فى مراحل متقدمة من العُمر إلا أن كتابه عن حافظ وشوقى كان كتاباً فيه ندرة وأهمية، بل وشكَّل مفاجأة بالنسبة لي.


الدكتور سامى سُليمان أحمد أستاذ الأدب العربي بآداب جامعة القاهرة والباحث النشط والدارس الهُمام، كتب تصديراً لكتاب طه حسين عنوانه: طه حسين ومشروعه الثقافى المُتجدِد.

وكتب فيه:

 


- اكتسب طه حسين "1889 – 1973" مكانته الفريدة فى نفوس قُرَّائه، وفى نشرات الثقافة العربية الحديثة من عشرينيات القرن الماضي إلى اللحظة الحاضرة بسبب مجموعة من العوامل منها ما يتصل بسيرته، ومنها ما يتصل بإسهاماته فى الثقافة العربية، ومنها ما يتصل بدوره فى المُجتمع العربي.

وتآلفت تلك العوامل معاً لتجعل معه أيقونة مُخصَّبة بدِلالات إيجابية كثيرة. كما جعلت منه ومن سيرته وأعماله ومواقفه عناصر حيَّة وخِصبة فى أفئدة الملايين والعرب المُحدثين. ولذا صار علماً فذاً في دوائر التاريخ الحي بالثقافة العربية الحديثة والمُعاصرة.


وكتب أيضاً:
- إن ما ينطوى عليه مشروع طه حسين الثقافي من رؤى عميقة يجعل منه مصدراً خِصباً ومُتجدداً من مصادر النهضة الدائمة، والتطوير المتجدد لثقافتنا وواقعنا. وما أحرانا أن نُجدِّد النظر إليه لعلنا نستلهم منه ما يجعلنا أفضل على الصمود فى عالمٍ مُتغيِّر تكاد أن تعصف به عوامل التغيير.
وما أحرانا أيضاً أن نجعل من إحياء صلتنا بمشروع طه حسين الثقافى وسيلة لتعميق رؤيتنا له وسبيلاً لاكتشاف ما يستحق البقاء لنصونه ونُحافظ عليه. ونُبيِّن ما يتطلب المُراجعة لنُعيد النظر إليه فى ضوء واقعنا الراهن محققين جوهر المشروع الثقافي لـ طه حسين بوصفه خطاباً متكاملاً للتعبير عن الانتماء والوفاء لهذه الأرض التى صنعت الإنسان. فكان أن صنع الحضارة للإنسانية جمعاء.


وقبل أن أتطرق لما كتبه طه حسين، عن حافظ "24 فبراير 1872 – 21 يونيو 1922".

وشوقى "16 أكتوبر 1868 – 14 أكتوبر 1922" باعتبارهما أهم شاعرين مصريين أو عربيين فى القرن العشرين أكتُب أننى كان من حُسن حظى أن قابلت طه حسين فى سنة رحيله.

فقد تواصلت تليفونياً معه وطلبت تحديد موعد لإجراء حديثٍ حول دورة مجمع اللغة العربية التى ستُعقد بعد أيام. وكان طه حسين رئيساً للمجمع.

فحدد لى موعداً وذهبت إليه وأجريت الحديث ونُشِر وقتها فى مجلة المصور. وإن كان قد رحل عن عالمنا بعدها بأشهر، وحضرت جنازته التى بدأت من جامعة القاهرة وعبرت النيل وتم الصلاة عليه فى جامع صلاح الدين بالمنيل.
وهناك قدمت العزاء لمن كانوا يتلقون العزاء: الدكتور محمد حسن الزيات زوج ابنته أمينة، والدكتورة سهير القلماوى الكاتبة والباحثة المُهمة وتلميذة طه حسين والتى قالت لى أنها عندما دخلت الجامعة وكانت البنت الوحيدة عيَّن طه حسين لها من يُرافقها ويحرسها فى الذهاب إلى الجامعة والعودة منها.

وكان هذا سلوكاً يعكس عبقريته وقدرته على اكتشاف البشر وتقديم المعونة لهم مهما كانت الظروف والصعاب.


يكتب طه حسين فى كتابه المهم هذا، والذى صدر فى صمت ولم يتم الاحتفال بصدوره كما كان يستحق.

ما كتبه طه حسين كان:


- فى أقل من ثلاثة أشهر فقدت مصر لسانيها الناطقين، وفقد الشرق العربى الشاعرين العظيمين: حافظ وشوقى.

وكأنما أراد القضاء أن يُمهل أمير الشُعراء حوالى شهرين ليُرثى حافظ وينصفه بعد موته كما مدحه حافظ وأثنى عليه. وأعلن إمارته للشعر فى حياته.
فلما قُضى شوقى من ذلك حق الوفاء والإنصاف والعدل ألحقه الله بصاحبه حيث لا تنافس ولا تفاخر.

وفى حيث لا غل ولا حقد ولا موجدة. وقد كان شوقى يرجو – كما قال – أن يرثيه حافظ، ولو قد تأخر حافظ عن شوقى لقال أنه كان يرجو أن يرثيه شوقى وأمرُ الله نافذ. وكلمة الله هى العُليا.

فقد أراد أن يموت حافظ وأن يتبعه شوقى بعد شهرين، وأن يفقد الأدب العربى الحديث علميه ولسانيه وشاعريه.

وأن تُرزأ فى ابنيها العزيزين دون أن تجد فى أحدهما خلفاً من فقد صاحبه.


يكتب طه حسين:
- وأنا أشد الناس رثاء للكتاب والشعراء والأدباء وأصحاب الفن الجميل عامة.

فحظوظهم سيئة فى حياتهم من غير شك.

وقلما يُنصفهم التاريخ بعد الموت.

هم يشيرون فى نفوس الأحياء دروباً من الحقد وألواناً من الضغينة.

هذا ينفس عليهم لأنهم لم يوفق إلى حظهم من الإجادة ولم يظفر بمثل ما ظفر بهم من إعجاب الناس.

وكان خليقاً – أو كان يرى نفسه خليقاً بالإجادة والإعجاب – وهذا يتنكر لهم.

لأن الحسد قد رُكِّبَ فى طبعه.

ولأن غريزته قد فُطِرت على الشر وحب الأذى.
وهذا ينتقصهم لأنه لم يفهمهم أو لم يتذوقهم.

ولأن فنهم لم يقع من قلبه موقع الرضا.

ولم ينزل من نفسه منزلة الموافقة.

وهم يحتملون ذلك ويتعرضون له ويُعللون أنفسهم بأن المرء لم يحصل على حقه من الإنصاف والعدل ما عاش.


ولكن التاريخ يكتب عن طه حسين:


- قائمٌ ينصف المظلوم ويقضى فى أمره بالعدل والقسط.

يعللون أنفسهم بهذا ويعتذون به عما يلقونه فى حياتهم من الغم والأذى.

وما يحتملون فيها من الألم.

وهذا خير لأنه يعصمهم من اليأس ويحميهم من القنوط ويزود عنهم عوادى الضعف والفشل.

ولكن التاريخ ليس أشد إنصافاً ولا أدنى إلى العدل من آراء الأحياء المعاصرين.

لأن الناس دائماً طوع شهواتهم وعبيد أهوائهم وهم متأثرون بهذه المؤثرات المختلفة التى تضطرهم إلى ظُلم الأحياء ولا تُعفيهم من ظُلم الموتى.


وقد تقارب مولد الشاعرين، ولد أحدهما "شوقى سنة 1868، وولد الآخر حافظ سنة 1871" تقارب مولدهما فى الزمان، ولكن نشأتهما اختلفت أشد الاختلاف.

ولد أحدهما بباب إسماعيل حيث البأس والعزة وحيث الغنى والثروة وحيث الترف والنعيم وحيث هذه العناصر الكثيرة المُتبيِّنة التى تبعث الحياة فى ناحية من أنحاء النفس، وتبعث الموت منها فى ناحية أخرى.

وحيث هذا الاعتزاز بالنفس والازدراء للشعب، وحيث هذه الأثرة التى تُخيِّل إلى صاحبها أن كل شئ مُسخَّر له.

وأنه هو لم يُسخَّر إلا ليستأثر بنعيم العيش.
وولد الآخر فى ناحية مُظلمة متواضعة من نواحى مصر.

فى أسرة مصرية لا حظ لها من غنى ولا ثروة.

لا نصيب لها من بأسٍ ولا سُلطان.

أسرة من هذه الأسر التى تمتلى بها مُدن مصر وقُراها.

والتى تعودت منذ أيام المماليك أو قبل أيام المماليك أن تشقى ليسعد غيرها. وأن تعمل ليُكَسِّل غيرها.

وأن تتألم فى صمت وتحتمل المكروه فى صبرٍ وإذعان.

ولكن أمر هذه الأسر كان قد أخذ يتغير فى هذا الوقت.

فأتيح لهذه الظُلمة التى كانت تغمُرها وتُحيط بها أن تنقشع عنها بعض الشئ.

وأتيح لهذا الشعور الذى كان سائداً أن يجد شيئاً من الحِدَّة. وأتيح لهذا العقل الذى كان مغلولاً أن ينطلق من عُقاله بعض الشئ.


نشأ شاعرنا الأول فى بيئته تلك، فذهب إلى الكُتَّاب، ثم إلى المدرسة، ونشأ شاعرنا الآخر فى بيئته هذه فذهب إلى الكُتَّاب ثم إلى المدرسة.

كانا يلقيان الفقيه فى الكُتاب والمُعلم فى المدرسة.

ولكن كلاً منهما كان يعود إلى بيئته الخاصة، فأما شوقى فقد كان يجد من بيئته الأرستقراطية ما يَضعف فى نفسه أثر الكُتّاب والمدرسة، وأما حافظ فقد كان يجد من الفقيه والمعلم صدى لحياة أسرته الخاصة، ومن هنا كانت نفس شوقى الأرستقراطية رغم ديمقراطية الكُتَّاب والمدرسة.

وكانت نفس حافظ ديمقراطية خالصة.
ويُكمل طه حسين استعراض حياة حافظ الذى كان من عامة الناس، وشوقى الذى كان أميراً من أمراء ذلك الزمان.

ومع هذا كانا شاعرين كبيرين، أحدهما لُقِّب بأمير الشعراء وهو أحمد شوقى، ولكن حافظ رغم شاعريته وثقافته وتأثيره فقد حُرِمَ من هذا اللقب.
وصل شوقى فى شيخوخته إلى ما وصل إليه حافظ فى شبابه.

لأن شوقى سكت حين كان حافظ ينطق. ونطق حين اضطر حافظ إلى الصمت. فيا لا سوء الحظ. ليت حافظاً لم يوظَّف قط. وليت شوقى لم يكن شاعر الأمير قط.

ولكن الحظوظ تُقابِلُها المقادير؟ لقد أُسقِط حافظ ثُلث عُمره، وسُجِن شوقى ربع قرن، وخسرت مصر والأدب هذين الشاعرين العظيمين وتقدم السن بشوقى وتكثُر الحوادث من حوله وتشتد شاعريتهم نشاطا.
* * *
هل رأيت قُدرة طه حسين على التحليل والدراسة والتعمُّق؟ وهو ما لا نجده عند من يرون بأعينهم. فهذا الكفيف قد رأى ما لم يتمكن المبصرون من رؤيته. كان عبقرية فذة تجاوزت الزمان والمكان، وأجاد لغات أجنبية علاوة على اللغة العربية. وكتب بها وتغرَّب ثم عاد، ثم تغرَّب ثم عاد غير عابئ بعدم قدرته على الرؤية.
يكتب الدكتور سامى سليمان أحمد:
- إن طه حسين أبرز رمز من رموز صُنَّاع الثقافة العربية الحديثة فى القرن العشرين والقرن الحالى. وهو صاحب مشروع ثقافى فذ يبتغى به إحداث النهضة والتنوير فى عقول أبناء المجتمع العربى وفى واقعه.

وقد غطت عناصر ذلك المشروع مجالات متعددة فى الأدب والعلم والعلوم الإنسانية والاجتماعية، كمن ابسطت أبعاده لتشمل التراث والثقافة الحديثة والمعاصرة والعلاقة بالآخر والهموم الإنسانية المشتركة.
فكاد أن صار مشروع طه حسين مشروعاً حضارياً يصوغه من عناصر واقعنا وواقع بديل، ظل طه حسين يحلُم بأن يصير الغد – قريباً كان أم بعيداً – تحقيقاً لمطامح ذلك المشروع.
ولعل ما ينطوى عليه مشروع طه حسين الثقافى من رؤى عميقة قد جعل منه مصدراً خِصباً ومتجدداً من مصادر النهضة الدائمة والتطوير الخلاق لثقافتنا وواقعنا. وما أحرانا أن نجدد النظر إليه عندما نستلهم منه ما يجعلنا أقدر على الصمود فى عالمٍ مليئ بكل عوامل التغيير.