الخميس 16 مايو 2024

المدنية والثقافة في مواجهة الفكر المتطرف


د. سامح فوزى

مقالات1-5-2024 | 12:51

د. ســـامــح فـــوزي

 منذ بضع سنوات تناولت الصحف نبأ قيام مسئولين في وزارة التعليم بجمع كتب تبث التطرف وجدت في مكتبة إحدى المدارس، وتخلصوا منها بحرقها في فناء المدرسة.

لست في مجال التعليق على الخبر الذي أثار جدلا واسعًا في حينه، ولكن ما لفت انتباهي هو الفلسفة الكامنة وراء العمل، حيث يعتبر البعض المعركة ضد التطرف تقف عند حدود التخلص من الفكر الذي يحض على الكراهية والعنف ورفض الآخر، دون أن تمتد إلى بناء ثقافة مدنية حقيقة تشكل ضمانا راسخا ضد التطرف.

وربما لهذا السبب يصعد التطرف ثم يخبو في المجتمع، يتوارى قبل أن يطل برأسه مجددًا، ويدرك جيدًا وكلاء التطرف تكتيكات المناورة بالكمون حين تشتد عليهم العاصفة، والظهور حين تسمح لهم الظروف، أو تنفتح أمامهم ثغرات يمكن الولوج منها. وبالتالي، فإن الإشكالية كما قال سقراط قديمًا، إن التغيير يعني أن تشحذ طاقتك لبناء الجديد، دون الاكتفاء بهدم القديم. الجديد- بالنسبة لي- هو الثقافة المدنية، التي ينبغي أن تترسخ في وجدان النشء والشباب، حتى تتشكل لديهم حصانة ووعي، تقودهم إلى رفض التطرف حين يُعرض عليهم. والبداية عادة تكون في التربية المدنية، أي تربية الجيل الصاعد على قيم التسامح، والحوار، وقبول الآخر، والتنوع، والمشاركة.

وهذه مسئولية التعليم، ومؤسسات أخرى في المجتمعات المتقدمة. المنهج الخفي في المدرسة يظن الناس أن التعليم في الكتب المدرسية، وقليل من الأنشطة الرياضية والفنية والثقافية، هذا ما نعرفه عما يُطلق عليه المنهج أو المقرر، وهي دروس يتعلمها الطالب في كافة مراحل التعليم، ويُمتحن فيها، وعلى أساس إجابته ينجح أو يرسب. هذا هو المنهج المعلن، المعروف والمتداول. ولكن إلى جواره هناك ما نطلق عليه "المنهج الخفي"، وهو جملة من الممارسات والأنشطة التي تؤثر في تكوين الدارس.

شتان بين نظرتين. الأولى تنظر إلى المؤسسات التعليمية بوصفها تقدم "التعلم"، والثانية تعتبر المدرسة ثم الجامعة مؤسسات تكوين للطلاب، من خلالها يتعلم الدارس مهارات الحياة، والأفكار التي تحكم نظرته للأمور، ودوره في المجتمع المحيط. ولذلك لا يقل المنهج الخفي أهمية عن المنهج الظاهر أو المعلن، بل قد يفوقه في أحيان كثيرة.

لأن المعارف التي يتحصل عليها الدارسون قد تستمر معهم بضع شهور أو سنين، لكن بعقلية "التلقين" و"التركيز المفرط على الامتحانات" ينساها الطلاب والطالبات بعد حين، طال أو قصر، أما التكوين فهو بمثابة عملية زرع اتجاهات وأفكار وسلوك، حالة أشبه بنحت الشخصية إن صح التعبير، يخرج بها الدارس إلى المجتمع باتجاهات إيجابية أو سلبية تجاه الحياة. من هنا فإن إعلان الحرب على التطرف، بالاقتصار على نزع الأفكار المتطرفة من المقررات الدراسية والمكتبات المدرسية هو محاولة مهمة لاجتثاث بذور التطرف من المجتمعات، لكنها قصيرة النفس، ويظل تأثيرها محدود طالما بقيت عناصر العملية التعليمية الأخرى على حالها من التعثر والضعف.

قد يكون مفهوما أن تتخلص المدارس من كتب تحض على العنف، وهذا واجب وضرورة، ولكن ما هي التصورات الموضوعة من أجل نشر ثقافة مدنية بديلة؟ من الخطورة بمكان ان تكون المدرسة في أي مجتمع مجرد "مؤسسة بيروقراطية" منعزلة، لا تتواصل مع المجتمع، مكان للتلقين وليس للتفكير النقدي الإبداعي. والذين ينشغلون بإزالة التطرف من الكتب المدرسية، وهو عمل مطلوب وأساسي في هذه المعركة الممتدة، لا يضعون في الاعتبار بصورة كافية أن التطرف موجود على الفضاء الإلكتروني والأرصفة وبعض الخطابات الدينية.،

ولا يمكن مواجهته سوى بتربية الجيل الجديد على التفكير الصحيح، والتحلي بالعقلية النقدية، والقدرة على اتخاذ قرار في الحياة، وتوقير الحياة السلمية، والسعي الدائم إلى المشاركة في المجتمع، والارتباط بالحركة التطوعية، والانفتاح على الثقافات الحديثة.

باختصار أن تكون المدرسة مؤسسة "تكوين" وليست كيانا بيروقراطيا للتلقين. أليست العقلية التي تعودت على التلقين سهلة طيعة أمام خطابات التطرف؟ أليس غالبية المتطرفين خريجى جامعات، وبعضهم من خريجي ما يٌطلق عليهم كليات القمة في العرف المصري؟ كيف غزا التطرف التعليم؟ الإجابة عن هذا السؤال تفتح آفاقا مهمة أمام جهود التربية المدنية في المدارس.

فقد أدركت الجماعات المتطرفة أن غزو التعليم يتم من خلال محاولة بث أفكار التطرف في المقررات الدراسية من ناحية، والسيطرة على المنهج الخفي في المدارس من ناحية أخرى.

فقد جاء وقت عجت فيه كتب التعليم بأفكار التطرف، ونتذكر معركتين مهمتين في هذا الصدد: الأولى قامت بها وزارة التربية والتعليم في عهد الراحل الدكتور حسين كامل بهاء الدين في تسعينيات القرن العشرين، والأخرى قادتها ببسالة الدولة المصرية في أعقاب إنهاء حكم الإخوان في 30 يونيو 2013، وفي كلتا المعركتين وجدنا كما هائلا من أفكار التطرف محشور في الكتب المدرسية، والتي كان يقوم بتدريسها بعض المدرسين المتطرفين الذين جري إيقافهم عن العمل، أو استبعادهم حسب الأحوال. وأخطر ما قامت به جماعات التطرف هو تشكيل عقول ووجدان الطلاب والطالبات في شتي مراحل التعليم من خلال فصل البنات عن الأولاد في سن مبكرة للغاية، وتحريم ممارسة الأنشطة الفنية، ومنع الفتيات من ارتداء ملابس رياضية، وإلغاء تحية العلم في بعض المدارس النائية، والاستعاضة عنها بأناشيد وأدعية دينية.

وفي تقديري أن الدولة المصرية في العقد الأخير حاربت بقوة التطرف، وحاولت اجتثاث بذوره في المدارس من خلال تعقب الأفكار المتطرفة في مناهج التعليم، ومنع أي إملاءات متطرفة على ممارسة الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية في المدارس، ولكن هذه معركة منقوصة – حسب سقراط- لأنها انطوت على هدم القديم دون بناء الجديد، وهو نشر التربية المدنية في المدارس، والركون عليها في تكوين وجدان النشء والشباب لمواجهة التطرف ودعاوي العزلة والكراهية ورفض الآخر. من التعليم إلى التكوين التعليم نقل معارف، أما التكوين فهو تشكيل اتجاهات من خلال مشاركة الطلاب في الأنشطة المدرسية.

أدى تراجع مستوى التعليم إلى المعاناة في الاثنين معا، حيث تواجه العملية التعليمية تحديات تتصل بجودة المحتوي التعليمي، وتطوره، والنهوض بحال المعلم، على نحو أدى إلى عدم قدرة الطالب المصري على منافسة أقرانه ليس في الدول الأجنبية فقط، ولكن في بعض الدول العربية أيضا رغم أن التعليم كان يٌعد من أبرز عناصر القوى الناعمة، ومن خلاله مصر صارت لها مكانة واسعة في الدول العربية والأفريقية، هذا عن الجانب التقني في العملية التعليمية، والذي أصابه التراجع مثلما صارت عملية التكوين شبه غائبة أو محدودة الأثر في السياق التعليمي. أظن أن ما يحتاج إليه الطالب المصري، خاصة إذا وضعنا التعليم في سياق عملية التنمية المستدامة، هو التكوين الذي يقوم على نقل الخبرات والمعارف ليس فقط من خلال التعلم، ولكن أيضا من خلال المشاركة سواء في الحياة المدرسية، أو الأنشطة الإنسانية والبيئية والثقافية خارج نطاق المدرسة. إذا تحقق ذلك، فإن المٌنتج البشري للعملية التعليمية سوف يحمل اتجاهات ايجابية تجاه المجتمع، وتتأصل لديه قيم المشاركة، والارتباط بجهود التنمية، وسوف لا نحتاج إلى حث الناس على المشاركة عندما يتقدم بهم السن، ولا تتشكل لديهم هذه الخبرة منذ نعومة أظافرهم.

هذا الحديث ليس جديدا بل كان مثارًا بقوة في العقد الأخير من القرن العشرين من القرن الماضي، ولم يخب إلى الآن، ولكن الخطوات التي اتخذت على هذا المضمار محدودة، ولا ترقى إلى مستوي التكوين الحقيقي للنشء والشباب في معركتهم من أجل تقدم مصر، ومواجهة التطرف.

انطلاقا من مما سبق، ينبغي أن تكون التربية المدنية أو ما يطلق عليه التربية على المواطنة، أو ما يتعلق بالتكوين المدرسي ضمن أولويات تطوير التعليم خاصة في المرحلة المقبلة التي تبحث فيها مصر عن تحقيق التنمية في مختلف المجالات، ولا تملك رفاهية الوقت حيالها، وهذه لن تتحقق بالموارد المالية وحدها، ولكن من خلال النهوض بالعنصر البشري أو ما يطلق عليه التنمية البشرية. يأتي التعليم والتدريب في مقدمة التنمية البشرية، وعلى هذا الدرب سارت الدول التي تقدمت، وحققت إنجازات في هذا المجال.

الاتجاه إلى التربية المدنية يتضح مما سبق أن آليات الحكومة في مواجهة التطرف في التعليم طيلة الثلاثين عامًا الماضية اتسمت بوضع "رد الفعل" المتمثل في مواجهة الأفكار، والآراء، والتأثيرات السلبية على المناهج والأنشطة المدرسية من ناحية، وإحالة المدرسين الذين يثبت ضلوعهم في نشر التطرف إلى وظائف إدارية أو استبعادهم نهائيا من ناحية أخرى، ولم تمتد إلى إرساء التربية المدنية في المدارس، التي تمثل البنية الأساسية لمواجهة التطرف في المؤسسات التعليمية. ومن ثم يمكن الإشارة إلى مجموعة من الأمور التي ينبغي اتخاذها والتي من شأنها تحويل التحرك من "رد الفعل" إلى "الفعل".

من ناحية أولى، من الأهمية تدريس حقوق الإنسان في المدارس، ولاسيما في ضوء إصدار الدولة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021-2026)، التي تبنتها الدولة المصرية، مما يسهم في رفع مستوى الوعي بحقوق الإنسان الأساسية.

وتشير الدراسات إلى أن تعليم حقوق الانسان في المدارس يُنشئ الأطفال في مرحلة مبكرة من حياتهم على عدد من القيم المهمة مثل التعددية الثقافية، التسامح، المساواة، مما يجعلها تستقر في وجدانهم، وضمائرهم، ويعبرون عنها كتابة وقولا. ويشكل ذلك ضمانًا أساسيًا ضد نشر ثقافة التطرف، والأحادية الفكرية، وكراهية الآخر المختلف. من ناحية ثانية، يمثل نشر ثقافة المواطنة ضرورة لتشكيل وعي الطفل- أي المواطن الصغير، وإعداده للمشاركة العامة في المستقبل.

يتعلم الطالب الحقوق والواجبات، ويدرك أهمية القانون والعدالة، والكرامة الإنسانية، وتحقيق المساواة بين المواطنين كافة بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق.

وتمثل المواطنة نقيضًا مباشرًا لخطاب التطرف الديني، إذ بينما تنصب المواطنة على المساواة بين المواطنين، وتحقيق العدالة، واحترام التنوع، تؤمن مشروعات التطرف الديني بالتمييز بين المواطنين حسب الدين والنوع، وتدشن أنماطًا من الاستعلاء بين البشر، فضلا عن معادة مفهوم الحرية بمعناه المطلق.

وأخيرا فإن الارتباط بين المدرسة والسياق المحلي مسألة ضرورية في تشكيل وجدان النشء على الخدمة العامة، والعمل التطوعي، والمشاركة، وإدراك أهمية مواجهة الأمراض المجتمعية مثل الفقر والتهميش، والانخراط في المبادرات التنموية، الأمر الذي يجعل الصورة الذهنية للأجيال الصاعدة تتشكل من خلال خبرة مواجهة المعاناة، والارتقاء بنوعية الحياة، واحترام الإنسانية بمعناه الواسع.

وتشكل هذه القضايا محاور أساسية في مواجهة التطرف في التعليم ليس فقط على صعيد التصدي الآني المباشر، أي تنقية المناهج وتعقب المدرسين المتطرفين، ولكن أيضًا من خلال إرساء بنية ثقافية ممتدة تشكل في ذاتها شبكة أمان اجتماعي، ثقافية وإنسانية، في مواجهة التطرف، وغيره من مظاهر التحلل السياسي والثقافي التي تهب رياحها على المجتمعات.

واقع الحال أنه إن لم تأخذ المؤسسة التعليمية بيد الطلاب على طريق الحداثة بالمعنى الثقافي، لن يفيد التخلص من أفكار مدسوسة في كتب مدرسية، لأن العبرة بما يمتلكه الطلاب من قدرة على الفرز بين الأشياء، وتكوين الرأي الصحيح، وممارسة النقد الذاتي، وعدم الاستماع طواعية إلى خطابات التطرف.

الثقافة والتربية المدنية تمثل التربية المدنية في مؤسسات التعليم البنية الأساسية لأي عمل ثقافي، هذا ما خلصت إليه العديد من المعالجات الثقافية لقضايا الحداثة ومواجهة التطرف في المجتمع المصري، حيث يتعلم النشء أسس التفكير الصحيح، والمشاركة المجتمعية، وقبول التنوع والاختلاف في المدرسة، وهو ما يفتح أمامهم آفاق الثقافة في مرحلة متقدمة من أعمارهم، ويمثل هذا هو المعني الحقيقي للثقافة، أي الثقافة المتاحة للجمهور العام، التي لا تقتصر على المتخصصين، ولا تكون بمثابة لغة فوقية لشريحة محدودة على قمة الهرم الاجتماعي، لكنها تكون عنوان العدالة الثقافية التي تمتد من الحضر إلى الريف، ومن المركز إلي الأطراف، ويدرك الجميع أن الثقافة جزء أصيل من التكوين الإنساني، ووعي الإنسان بمجتمعه، ومستقبل الحياة فيه.