الأربعاء 15 مايو 2024

مصر القديمة نموذجًا


أ.د. خالد غريب

مقالات1-5-2024 | 12:58

أ.د. خالد غريب

كانت الثقافة أحد المترادفات المهمة للتعليم في مصر القديمة، فلم يكن المصري يسعى إلى حشو عقول تلاميذه بالمعلومات كوسيلة للحفظ بل سعى من خلال التعليم إلى تثقيفه وتعليمه بشكل يؤهله للقيادة بعد ذلك، ولم يكن الملوك يعملون على جعل الثقافة حكرًا على أبنائهم بل كانوا كذلك يقدمونها لأبناء الشعب ولدينا من الأمثلة الكثير الذي تقدمه الحضارة المصرية فيكفي أن نعرف أن أقدم تماثيل الكتبة كانت لأبناء الملوك، كما كانت النصيحة الدائمة للأبناء أن يثقفوا أنفسهم ليكونوا علي علم بخفايا الكون، وأسرار الحياة التي لم يكن يدركها إلا الأرباب.

ونعلم من نصوص الدولة الوسطى أن المعلم إيحا كان معلم أبناء الملك، والمشرف على دار الحياة (اسم المدرسة في مصر القديمة) والمشرف على تعليم الآداب والسلوك والبروتوكول، أما الملك تحتمس الأول من عصر الأسرة الثامنة عشرة فقد عهد إلى بعض الخاصة من رجاله أن يثقفوا أبناؤه ليس فقط من خلال الدروس في القصر ولكن أن يتنقلوا معهم إلى دور الثقافة في المدن المهمة مثل أبيدوس ومنف، كما أن حفيد تحتمس الأول وهو الملك الأشهر تحتمس الثالث قد قضى بعضًا من سنوات صباه وهو ينهل من ثقافة الأجداد في مدرسة العلم الكبرى لمصر وهي معبد الكرنك وهو الأمر الذي كان له أكبر التأثير على عقليه وبراعته في كل الأمور العسكرية والإدارية.

ينبغي العلم أن المصري القديم كان يدرك أيضًا أن تعليم وتثقيف الفتاة لم يكن أقل أهمية من الولد ولذا نجد حتشبسوت تعهد بتثقيف ابنتيها إلى أحد أقرب الموظفين منها وهو سنموت الذي كان يتفاخر في كتاباه أنه ثقف وعلم ابنة الملكة وكان بمثابة الأب لها.

ويمثل عهد الملك أمنحتب الثاني نموذجًا للحاكم المثقف الذي جمع كل عناصر التعليم والثقافة فكان بارعًا في معرفة المعلومات الجغرافية عن جميع البلدان، كما كان ماهرًا في قوته الرياضية التي منحته ميزة قوية على أنصاره فلم تكن الثقافة فقط في تربية العقول، ولكن كذلك في تربية الأبدان.

ونقف قليلًا أمام نموذجا آخر من المثقفين المصريين وهو الملك أمنحتب الرابع (أخناتون) الذي استطاع أن يخرج بفكرة عقائدية تعتمد على البعد الفلسفي ويقوم من بعدها بتثقيف التابعين لها، وهو أمر لم يكن من السهل حدوثه لو لم يكن يملك عقلية تمرست على الأمور الثقافية وكيفية سرد الوقائع بشكل منظم وعلمي.

كان المصري يعتبر أن الثقافة والعلم والكتابة ترتبط بالحكمة، ولهذا فقد اختار لهذه المكانة المعبود جحوتي وجعله الأكثر مكانة والمعلم والمثقف الذي ينظم حركة الكون بعلمه، وكانت تعاونه ربة الكتابة والحكمة المعبودة سشات وفي شعائر تأسيس المعبد في العصرين اليوناني والروماني كان شعائر تأسيس المعبد تمثل تجديد لقوى الخلق حيث يتعهد الملك للآلهة بإكمال الناقص وكان عليه أن يرجع قبل وضع حجر الأساس إلى كتاب تأسيس المعابد الذي ألفه ايمحوتب وأخذته الآلهة إلى السماء وكانت البداية تقول (كتاب تخطيط الأماكن المقدسة من التاسوع الأول) أي أن شعائر تأسيس المعبد كانت شعائر دينية، وكان الملك يقضي أول ليلة في حساب سير النجوم ولو لم يكن الملك يملك الثقافة الفلكية لما أمكن له القيام بهذا العمل.

انعكست الثقافة والإتمام بها على المجتمع فظهر ما يمكن تسميته بالاختراعات المصرية في فكرة بناء الأهرامات وطرق رفع الأحجار، وكذا طرق الثقافة الحسابية أو ما يمكن تسميته بالرياضة البحتة وكان من بين أهم الاختراعات ظهور ما يعرف بالساعة المائية إلى دون المصري فيها من عهد أمنحتب الأول طريقة التعامل معها، ولدينا أقدم نموذجا منها يرجع لعهد الملك أمنحتب الثالث.

هكذا خلقت الحضارة المصرية حالة من العلم والثقافة لم تجعلها أمة ثابتة عقيمة الفكر بل أمة متحررة متحضرة تعجب منها العالم ولا شك أن ما قدمه الفلاسفة اليونانيون من تعليقات على ما تعلموه وانبهروا به من حضارة المصريين يؤكد أن الثقافة والعلم كانا أهم أسباب استمرارية الحضارة المصرية، ومن هذا فإن ما تقوم به مصر الآن من تأسيس للجمهورية الجديدة ينبغي أن يرتبط برفع شأن الثقافة لتلعب دورها في الحفاظ على تراث الأجداد، وتأسيس الثقافة العلمية الجديدة لتستمر حلقات الحضارة المصرية التي جاءت ثم جاء من بعدها التاريخ.

حفظ الله مصر وتراثها وثقافتها