الإثنين 17 يونيو 2024

اعترافات نص الليل

19-1-2017 | 10:42

فى «نص الليل».. تتهيأ القلوب للشكوى والبوح بما فيها، وترسل أوجاعها إلى السماء، بعد أن يئست من رحمة أهل الأرض.. «المصور» تحاول أن تشارك قراءها هذه الآلام وتلك الاعترافات وتقدم لها الحلول

والد ى العزيز .. أكتب إليك فى محاولة رد يئة منى لإصلاح ما أفسده الزمن فى علاقتى بك.

لا أعرف من أ ين أبدأ، أو كيف أبدأ .. ولكن مر بخاطرى شر يط طويل من الذكريات سأسرد قليلًا منه فى السطور القادمة، رغم علمى أن مفرداتى المثيرة للشفقة لن تسعفنى فى التعبيرعما بداخلى من إحساس،

بعد ثلاثة أشهر من الآن سوف أتم عامى الثانى والعشرين .. اثنان وعشرون عامًا منذ أن جئت إلى هذه الدنيا. وكنت أنت أول من فرح بى ، وأول من حملنى، وأول من منحنى قبلة .. كنت الأول فى كل شى ء.

منذ ميلاد ى وأنت الإنسان الأخف حضورًا على قلبى، فى حكايات الناس أننى منذ كنت رضيعة كنت دائمة البكاء والصراخ، ولم أكن أصمت واهدأ سو ى بين يديك .. وهبتنى طفولة أسعد من جميع الفتيات، وصنعت معى ذكريات أعلم فى صميمى أنك لم تنسها.

فى سنواتى الأولى كنت أذهب لأستكشف العالم حولى وأنا مطمئنة بداخلى ليقينى أن عينيك تجريان وراء تلك الطفلة كعقارب ساعة رولكس مصنوعة باليد ولا تتوقف عن التكتكة.

هل تتذكر أول يوم لى فى المدرسة حينما أوصلتنى إلى باب الحضانة، ثم تركتنى أذهب بمفرد ى إلى الفصل عكس ما فعله كل الآباء الآخرين؟

كنت دومًا تُعلمنى الاعتماد على النفس ومواجهة المشاكل.

وهل تتذكر نظرة الفخر فى عينيك كلما كنت أعود إلى المنزل ومعى شهادات تقدير من المدرسة، وكيف أنك لم تتفه من اإجازاتى التافهة نسبيا إليك .. إن كل شى ء معك أتذكره كما لو كان بالأمس يا أبى .

أتذكر مدى سعادتك عندما تعلمت ربط حذائى بمفرد ي، وعندما تعلمت الاستحمام وحدى ، وعندما تمكنت من الالتحاق بفر يق السباحة تحت عشر سنوات وذهبت إلى البطولة الأولى لى .. كيف كانت تُسعدك إنجازاتى الطفولية بهذه الدرجة ؟!

تعلمت بفضلك استعمال الكمبيوتر واستخدام برامجه قبل كل صديقاتي، حتى صارت حصة الحاسب الآلى بالنسبة لى شى ء بدائى .. والآن فقط أدركت كيف بدأ حبى للبرمجة والهندسة، وكيف كانت كل الأشياء التى تعلمتها على يديك بمثابة الشعلة الأولى فى بريق اهتماماتى السخيفة.

لا يمكننى أن أنسب الفضل فى هذا لأى مخلوق آخر سواك يا والدى ومثلى الأعلي.

قبيل بلوغى سن العاشرة حدثتُك عن تغيراتى الفيسيولوجية، وجلست معى تسرد لى قصة الكتكوت القبيح الذى يتحول بعد بضعة أسابيع إلى ديك جميل .. كيف كنت تفعل هذا يا والدى ؟ .. كيف غرست بداخلى الثقة بالنفس، وأحببتنى فى ذاتى حتى عندما شعرت أننى أقبح من دريد لحام ؟!

فى المدرسة الابتدائية رفضت أستاذة اللغة العربية موضوع التعبير الخاص بى ، وقامت بالشطب عليه وتوبيخى فى محاولة رتيبة منها على قتل إبداعى ، لمجرد أننى كتبت بأسلوب يختلف عن إرشاداتها، لا يهم. المهم أننى أتذكر جيدًا رد فعلك حينما جئت للمدرسة مرتديا بدلة أنيقة ونضارة رايبان كلواء فى الداخلية، ودافعت عنى وعن حقى فى التعبير عن نفسى .. ومن وقتها أدركت معنى أن أكون مستقلة فكريا عن قطيع الأغنام البشرى الذى ينتجه التعليم المصرى .

وكنت كر يما جدًا حينما أصغيت لرغبتى فى الانتقال للتعليم البريطانى .. وأنا بالطبع أعلم الآن كم كان هذا صعبا عليك فى ظل استقرارنا للتو فى الخليج، وكيف كرست كل طاقتك وادخرت المال لكى أذهب إلى مدرسة كامبريدج، ومن بعدها إلى مصر لاستكمال تعليمى الثانوي، ثم إلى كندا لدراسة الهندسة الطبية .. كم أنت جميل أيها الرجل العظيم!

إن ما لا أذكره فعلا هو بداية الاختلاف بينى وبينك، وكيف أصبحت حياتنا أشبه بحرب صغيرة بين دولتين؛ إحداهما عريقة بجيش قوى وقواعد حربية، والأخرى دويلة فاشلة على التل البعيد يسكنها على علوكه وأشرف كوخة.

لا أعرف كيف أدخلت نفسى فى هذه الدوامة البائسة من العناد الذى لا ينتهى ، ولا أعرف كيف أخرج منها .. ربما سلوكى العدائى غير ودى هو طريقتى للنجاة من الغرق فى طوفان العند.

لا أتذكر أنك تخليت يوما عني، أو توقفت عن مساندتى .. وأعرف أن أسلوبى لا يليق مع رجل كرس أجمل سنين عمره كى أعيش أنا حياة مرفهة، وأتبنى الفكر الرأسمالى البرجوازى ، وأنا أصلًا عِرَّة يا بابا والله.

أنا من غيرك مبعدة ومنفية وطريدة، لا أجد من يكلمنى ولا أجد من يفهمنى .. أنا من غيرك وحيدة ومسكينة .. أنا من غيرك حزينة، ولا شى ء يستحق الحزن أكثر من حرمانى منك.

إن فى قلبى ضجيجًا يناد يك .. اشتقت إليك يا حبيبى لأول والأخير، واشتقت إلى إحساس اشتياقى إليك .. وأعلم أنك بحاجة لبعض الوقت، ولكن أردت إخبارك بأنك الأفضل بداخلى ، وأنى لا أريد من الدنيا شى ء سوى رضاك.

فى نهاية رسالتى البائسة التى بالتأكيد لم تحصر كل أفعالك التى تخجلنى أتمنى أن تقبل اقتراحى للهُدنة، وتحت أى شروط ترتضيها.

أحبك جدًا..

 

الــــــرد

 

رسالة من فتاة لأبيها أنشرها كما هى ، بدون تدخل من قلمى إلا للصياغة .. ولا مجال لمحاولات البحث عن جذور المشكلة، أو الخوض فى تفاصيلها.

إنها مجرد رسالة صادقة كُتبت فى لحظات تسامح ونقاء، ولا تستحق منى سوى نشرها.

إن المعنى الوحيد للسعادة هو تلك الحالة من الانسجام مع الذات، والتصالح مع الآخر ين .. والزمن أحيانا قد لا يمنحنا الفرصة للتسامح مع أحبائنا، وما يلزمنا هو مجاهدة النفس لتجاوز أنانية ذواتنا الضيقة.

وكل ما أتمناه أن تصل تلك الرسالة لهذا الأب العظيم الذى لا أشك فى حبه لابنته.