يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتاب بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.
نشرت مجلة الهلال في عددها الصادر في أغسطس لعام 1988، قصة قصيرة بعنوان "أسرار السرو" للكاتبة اعتدال عثمان، التي تصف فيها الطبيعة في حالات مختلفة، وتصف أسرار قديمة تنبعث من تحت الأرض، يأتي الناس إلى مكان معين، يتوقعون حدثًا مهمًا، وتتوالى الأحداث.
نص القصة
فجر صيفي.. أشجار السرو متأهبة في تسامقها، وكأنها جند قد استدعاهم المليل في نوبة صحيان قاماتها مشدودة في إهاب الظلمة، وأطراف قممها الأبرية حراب تخز كيد السماء، ولا تسمح للريح أن تفلت أعنة الهبوب الرخي، أو تطلق نسائم الحياة في هذا المفجر الكابي.
رائحة مفعمة بالسر تفوح في أركان المكون وبالسماء غموض وإبهام ونذر موقوتة، تتوجس منها طيور متوغزة في الأعالي، وحتى الأرض المنبسطة في استواء وسكينة أبدية، المنداحة في آفاق ليلكية الزرقة، بدت اليوم على خلاف حالها تتململ، يغلي باطنها بانصهار غير مرئي.
تدعدم باصوات حبيسة تحت السطح تتكلم لغة قديمة كالأزل، حاضرة أبدا تظهر وكأنها منسية أو مخفية، لغة يعرفها أهل المكان ويحفظونها في قلوب غويطة بلا قاع مثل الزمن، لكن أبدًا لا تنطق بها الشفاه، إلا في يوم مثل هذا، صحت فيه أرضهم على شقوق العطش، تتسع الشقوق مثل الجراح، وهم على انتظار صبور لفيض غزير مؤجل، يغمر الأرض، فتلتئم منها الشقوق الجراح، قبل أن تجأر سوق الأحزان والخيبات الدقيقة المترسبة.
في العيون كلام صامت الأبدان والأرجل كلها متواطئة على أمر واحد عازمة على التوجه صوب مكان واحد، تبلغه الآن الهويس، الماء المحتجز الغامق يبين عن جسد تستحبه الأيدي، والأيدي وجلة تغالب خوف الصدور العامرة المزدحمة بحرمة الموت وبمحبة الأهل وبالنقد وبالتشاجر وبضغائن صغيرة تحمى كنار في هشم، سرعان ما تنطفئ، وبينها صدور بانت منذ زمن على نية ثأر الأرض لها أو عرض سليب، لكنها مع ذلك، في القرار، تتمنى السماح.
وجلة هي الأيدي، والأبدان ترتعش عنها أرجل غائصة في الوحل، لكنها تجاهد کي تسحب الجسد الطافي، تغالب وتواطئها يغلب ويسحب، حتى يسجى الجسد مكشوفا في وضح الصبح ومن فوقه عن الشمس، عائلة إلى الشرق لا تزال .
لم يكن بالجسد انتفاخ أو تشوه، الجلد مغضن لكنه حي، ناضح باكسير غريب، ينزوي من ذاته، فلا يعتريه جفاف أو تبخر، بفعل العين المحدقة، تلك التي استجمعت لهيبها في ترقب حذر، حبست له أنفاس الوجود، الحدث نفسه أمي عادي طالما كانت العين شاهدة عليه، منذ إن كانت هذه البقعة من الأرض سمحة في ثوبها.
البهي، تلبس الأخضر على امتداد الفصول وانصرام السنين، ومحتشدة في باطنها بأسرار ناسها، أحلامهم وأشواقهم وخطاياهم، تحملهم على ظهرها وتشكلهم، تجعل منهم أنصاف آلهة أو طغاة أحيانا، تعزهم أو تدمغهم بالطاعة، ثم تغيبهم في حناياها، وكل حين ينجلي المخبوء في ساعة مثل هذه الساعة، عن جسد يحمله التيار حتى الهويس لكن ما بال الأرض اليوم تتشقق أحشاؤها، والناس صبار شوكي تطل منه عيون بكماء.
تتزين صدورهم بعقد محموم من خفق القلوب، وشيء ما قد ختم على الأفواه، الجسد مسجى في مركز الأرض وجند شجر السرو ما برح مشرع الأسنة، والصمت يريم على المكان، ثم يحوم، والكل وكان على رءوسهم الطير.
أخيرا.. أخيرا، انقض طير الكلام، جارحا نهما، الجمع يتكلم في آن واحد، ولا أحد يسمع، ينعقد الكلام في سماء الناس ويدوم، سحابة من أصوات مختلطة تهمي برذاذ عبارات ناقصة، تكهنات ولعنات واسترحامات لا تنتهي.
ارتجافات شيفاه بمودات وذكريات، انكار ورضا قسمة ونصيب، أعمار مقهورة أو مستباحة، وكيفما كانت لابد من التصالح معها والعيش بها، والزمن كفيل بأن يفتت كل شيء، وأي شيء، ولا يبقى سوى رضوخ أيام تتسرب في سنوات متشابهة، لكن الحزن كان قد غافلهم وتحوصل في حبة القلب واليوم، وبدون أن يدرى أحد، أخذ المكبوت يتفتق وحبة القلب تتصدع وتسقط عنها قشرتها السميكة، أما الجسد المسجى، وقد تحلق الناس حوله فجأة وكأنما بأمر من دخيلة واحدة، متوارية في أعماق أصحابها، دخيلة جمعت بينهم بعد أن فرقهم الصخب وفوضى الكلام وشتات الذكريات ساد الصمت من جديد.
صمت هذه المرة قد زايله وقع الحدث المألوف، يباغتهم ذاك الخطب وكانهم ما انتظروا وما توقعوا أبدًا حدوثه، صمت أصبح عيونا تتسع أحداقها السمراء ودوائرها الدامية بالسهر والكيف، المنغرسة في أديم الجلود النحاسية المحمصة بوقد لا يرحم، والشمس ذاتها تسمرت في موضعها، وأرجوانها المحمي صار ينداح في دوائر لا نهاية، تبتلع المكان.
كان الجسد قد بدأ يتمطى وكأنه يفيق من نوم طويل، أرقه رذاذ الصخب المتساقط، صدره الضامر لا ينتفخ بالهواء لا يعلو ولا يهبط ، وإنما يتمدد في المساحة الفارغة، المحكومة بحلقة.. كانت ذراعاه مكدودتين بعمل ما شاق ومجهد، تحتشدان مع ذلك، بطاقات عزم هائل، بدأ في العروق المنافرة وفي أصابع مسحوبة تخط على الأرض نقوشا متشابكة.
الرأس الكهل مكال بهالة بيضاء كأنها نور يومئ ايماءات يسيرة منتشية بأنغام ترنيمة أو ذکر کوني غیر مسموع إلا في أذنيه، ومع الإيقاع الشجي الأسيان تلين أخاديد الأحزان وتنفرج أسارير المهم والفكر، ويذوب الوجه في رونق بهاء آيس بأرضي.
الجسد كله تعتريه انتفاضات هينة، تكاد لا تلحظ، لا تصاحبها صحوة أو نعاس، بل استطالة في الذراعين ومساحة النقوش المخطوطة تزداد شبرا فشبرا، والمصدر ياسع معها، وحلقة الناس تكبر، الداني منهم يفسح موضعا للقاصي من أجل أن يتملى المشهد العجيب، رأى الناس الجسد يتعملق، حتى كاد يبلغ حدود الوادي، وفي المصدر ينمو زغب مخضوضر كثيف يتحول بسرعة مذهلة إلى سيقان سميكة منتهية بأوراق عريضة داكنة الخضرة ممتلئة بعصارات النيل من بينها تبرز تيجان اللوتس شاهقة تتكاثر من نفسها وتتفتح كعهدها لعين السماء .
الساقان تنفرجان، وما بينهما رحم مفتوح بحجم الأرض، تتعلق أجنة لا حصر لها بجدرانه المطرية المزلقة، الأجنة لا تنزلق وإنما تتشبث بذوائب معقوفة، تنبت لها في الحال.
يتكور كل جنين منها على نفسه، كأنه ينافح عن وجود له مهدد من قوى تضمر له فناء أو اجهاضا، مثلما تجهض الفكرة، وكالفكرة أيضًا ينمو الجنين ويستوي خلقا مكتملا، يخرج منه بالدهشة والغربة، أول الأمر، ثم ما يلبث أن يشق طريقه في النور وينضم إلى بقية الخلق.
شريط الأرض الخضراء، الذي بدا ضيقا مزدحما، تكشف اليوم عن طيات أخرى له مختزنة في الصحاري المحيطة، وحين تداخل الأخضر واليابس أيقن الناس أنه سيقال الآن ولا عوام كثيرة تالية، أن ما من حبة رمل إلا ونقشت عليها اليد شيئا، وما من أحد، من أولئك الذين قد اتوا من كل فج عميق في ذاك الصبح إلا وشهد، في مخلوقات الرحم المفتوح، ما كان ما يكون، ما سوف يكون، أيقن الناس ذلك كله على حين كانت الأجنة تتكاثر ونبت النيل يتكاثر وزهور اللوتس تتفتح كعهدها بغير انتهاء وحين حلت الساعة.. وأصبحت الشمس في وسط السماء، وحين تساوى الظل بالجسد المحي وتلاقيا في نقطة البدء والمنتهى، النقطة التي هي كمال الوجود ولابد بعدها من أقول، حين ذاك أدرك الناس العلامة، فانفض الكلام من جديد، وصاح الحشد بصوت واحد:
- نفتح الهويس.
ولما كان البدء علامة والمنتهى علامة، وكانت العلامة كلمة، والكلمة سر يتخلق في رحم الروح، ثم يتجسد صوتا أو نقشا، يشغل الفضاء والمحجر والورق ولما كانت اليد قد خطت منتهاها وملأت صحاري الورق، ولما أدرك الناس السر ونطقوا الكلمة، أن رأوا الشمس تمد أذرعها الألف، کي تسترد وديعتها، لما كان ذلك كله وليس قبله، فقد سكنت الأرض وكف تململ الجسد وعاد منکمشا إلى بدنه الأول، عندئذ هب الكل هبة واحدة وحملوا الجسد إلى فوهة الهويس وقد بدأت بواباته حركتها، ثقيلة وئيدة، تدافع معها الماء المحتجز، متخللا شقوق الأرض، تفك التي باتت تنبت الخلق والمنبت والأحزان، وكان الماء يتدافع حاملا المبدن الكهل الخصب، آخر الجدود، آخر الأباء، إلى الأفق اللازورد، حيث تنتظر عروس البحر المني هواؤها عنبر وترابها نشوان، والشمس كانت في المنتصف، أبت الآن إلى رحيل محتوم، غير أنها وهي تنحدر إلى الغرب في مغيب البحر الكبير، جادت بزفرة، جعلت تؤابات شجر السرو، هناك على البعد، تهتز متهدجة فتلين أعطاف قاماتها المشرعة وتتشابك منها الأغصان للحظة.
لحظة ظليلة كانت كافية لأن يسترد الناس أنفاسهم، لحظة واحدة في نعمة الظل، لحظة كافية لعودة الروح، واصل الناس بعدها سعيهم في هجير الأرض في عيونهم لا يزال عزم دخيلة واحدة متوارية في الأعماق، وفي قلوبهم ذكرى حية وعرفان بأنه عندما يصير الوقت إلى الخلود، سيرونه من جديد، ذلك الواحد المتعدد، لأنه صائر إلى هناك، وباق معهم، حيث الواحد في الكل.