الأحد 22 سبتمبر 2024

إبداعات الهلال| « إني أستحق هذه الحياة ».. قصة قصيرة لـ مريم ميخائيل

مريم ميخائيل

ثقافة6-6-2024 | 13:06

دار الهلال

تنشر بوابة" دار الهلال"، ضمن باب "إبداعات" قصة قصيرة  بعنوان " إني أستحق هذه الحياة " للكاتبة مريم ميخائيل، وذلك إيمانا من مؤسسة الهلال العريقة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.

قصة إني أستحق هذه الحياة

كانت الأجواء مظلمة في الغرفة، والصمت يعم المكان حتى استيقظ الدكتور نور من نومه على صوت ضجيج يأتي من الخارج، فمد يديه جانبه ليسحب نظارته ويلبسها، ثم نهض من مكانه وفتح الباب مناديًا، فوجد أمامه مليكة جارته التي انتقلت للسكن في الشقة المقابلة منذ أشهر قليلة، حيث كانت تعيش خارج البلاد، بدأ يبتسم ويقول لها: "أهلاً مليكة، آسف، لم أتوقع أنك أنت من يطرق الباب، سعيد جدًا بمقابلتك" ثم مد يده ليصافحها، فقالت له أسفة: "حاولت ألا آتي باكرًا وأنتظر دوري ولكن..." فقاطعها قائلاً: "لا عليكِ.. أنت جارتي ويحق لك القدوم وقتما شئت، تفضلي بالدخول.

بدأت مليكة بدخول العيادة بتردد، قائلة: "آسفة مرة أخرى، لكني لا أحب الأماكن المزدحمة، وعيادتك دائما ممتلئة بالمرضى، مما يدل على مهارتك، كما أني فضلت ألا يراني أحد" فصمت نور وعلى وجهه علامات الحيرة، وقال لها: "أتحتسين القهوة؟" فأجابته: "لا داعي، لا أريد أخذ الكثير من وقتك." فقال وهو يمشي باتجاه المطبخ: "لن يستغرق هذا وقتًا." جلست مليكة تتأمل المكان وهي ممسكة يديها معًا في توتر، بينما تفكر: "لم يكن هذا قرارًا صحيحًا، هذا يجعلني أرغب في التراجع عما أريد فعله، أخطأتِ يا مليكة."

فقامت من مكانها في محاولة لتجنب تلك الأفكار، وبدأت بالتجول في كل مكان لتهرب من أفكارها التي أصابتها بالصداع الشديد، حتى أغمضت عينيها وأمسكت رأسها وراحت تصيح بصوتٍ عالٍ: "كفِ كفِ." فحضر نور مسرعًا وقال لها: "هل أنت بخير؟ آسف لقد تأخرت عليك، تفضلي بالجلوس" وأمسك يدها ليساعدها على الجلوس، وقدم لها القهوة قائلاً: "فعلت ما بوسعي، لكني لست ماهرًا في صنع القهوة، أتمنى أن تريحك من الصداع" ففتحت عيناها ببطء وشكرته، ثم ارتشفت القهوة وابتسمت قائلة: "إنها حقًا جيدة".. فشعر أنها هدأت قليلاً وارتاح.

بدأت بالتحدث وقالت: "أعتقد أنك تتساءل عن سبب حضوري إليك، في الواقع منذ وفاة أمي، أشعر بالذنب مما حدث لها، ربما تكون سمعت بأمر الحريق الذي اندلع منذ سنوات في هذه العمارة، ربما قد تكون زالت آثاره من الجدران لكنها لا تزال تندلع بداخلي كل ليلة كلما تذكرت، أن الجميع يعاملني بلطف ظنًا منهم أني غير مسئولة عن الحادث، لكن في الواقع أنا المذنبة ولم أحتمل معاملتهم لي وحاولت الهرب منهم حتى أني سافرت مع خالتي سوزان خارج البلاد"، وأكملت: "هذه الخالة هي ألطف مما أستحق، أرى في عينيها دائمًا نظرة الشفقة لأني وحيدة ويتيمة، أراها تحاول تعويضي عن هذا الأمر ولكن شعور الوحدة بداخلي مهما حاولت ملء محيطي بالناس وصنع ضجيجًا، يظل داخلي فارغًا وهادئًا، وعندما يذهب الناس، لا أسمع سوى صوت صراخ أمي يوم الحادث، مما يجعلني أشعر بصدى الصراخ يتكرر في قلبي.

فبدأ نور يتوتر لكنه حاول إخفاء مشاعره، وواصلت حديثها، كنت صغيرة على مثل هذه المشاعر التي قتلت طفولتي وابتسامتي، ولكني حاولت إخفاء مشاعري، وجدت ملاذي في السفر، فالغربة سهلت عليّ الهروب من أفكاري، فظللت أعمل ليلًا ونهارًا، تارة أحاول الهروب من نفسي، وتارة أحاول التكفل بمصاريفي، حتى لا أثقل على خالتي، التي حاولت منعي من إرهاق نفسي في العمل، مثلما حاولت منعي من العودة لمصر، لكنني رغبت في القدوم، محاولة استرجاء بقية ذاكرتي التي فقدت جزءًا منها بسبب الحادثة، عسى أن أجد خاتمة لأفكاري المشوشة.

ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل، وأعتقد أنه لا جدوى، كما أن خالتي ستأتي غدًا لمصر، وبالتأكيد سترغب في أخذي معها، فهي تعتبرني ابنتها التي لم تنجبها، وقد طلبت مني مرارًا أن أدعوها "بأمي"، ولكني لم أستطع، ورغم حبي لها، إلا أن أمي هي ملاكي الذي كنت أدعو ألا يفارقني.

فقال لها نور: "وما الذي تتذكريه عن وقت الحادث؟" فردت: "لا أتذكر سوى صورة أمي وهي تستغيث، ولا يوجد في البيت سواي، الصغيرة العاجزة، فقد تركنا أبي بعد انفصاله عن أمي، آخذًا معه أخي، ولم أراهما من حينه، لقد ماتت أمي في محاولتها لإنقاذي، رغم أني لا أستحق هذه الحياة، وها أنا هنا في محاولة لمواجهة الحقائق واستعادة ذاكرتي، لكن يبدو أنه لا جدوى، أنا لم أعد أستطيع تحمل نظرات الشفقة، لقد اتخذت قراري وما أريده هو النجاة بما تبقى مني، لدي طلب لأطلبه منك، أرجو أن توافق، رغم أننا غرباء، لكني استأمنك على هذا الأمر، ففتحت حقيبتها وأخرجت ظرفًا عليه اسمها وناولته لنور، وطلبت منه أن يعطيه لخالتها عندما تأتي في اليوم التالي.

عم الصمت أرجاء المكان، ونور من شدة حزنه انفلتت من عينيه بعض الدموع، حتى أنه لم يستطع مد يده لأخذ الظرف، فهو عاجز ولا يعرف كيف يساعدها، ثم نهضت وقالت: "سأذهب الآن وسأترك لك هذا الظرف على مكتبك، وأسفة على الإزعاج"، ثم تركته وخرجت، بينما ظل نور جالسًا في مكانه لا يتحرك ولا ينطق، نزل كلامها عليه مثل الصاعقة، لقد شعر أن نارًا اندلعت في عروقه وحرقت كل جسده، مما جعله غير قادر على الحركة.

فقد حرك كلام مليكة أعمق مشاعره وجعله يسترجع الذكريات والأحداث، فقد تذكر معاناته هو الآخر مع الوحدة، فقد تربى دون أن يعرف شيئًا عن الأمومة، وكان أبيه هو كل شيء بالنسبة له، وكان هو من حاول تعويضه عن غياب والدته بكل الطرق، ومع هذا لم يملأ الفراغ الذي تركته والدته، اعتاد كتمان مشاعره المحطمة، لقد أغلق عينيه وحاول أن يقاوم، لكن دموعه انهالت وبدأ بالصراخ: "لماذا يحدث هذا لنا؟ لما تركتمانا نصل لكل هذا؟ أم أنكما لا تهتمان بنا؟ لقد كنتما في غاية الأنانية، واختار كل واحد منكما راحته وكبريائه على حسابنا، وقد هدمتما ما تم بناؤه في سنوات وتركتمانا وحيدين، وصار كل واحد منكما يحاول ملء الفراغ الذي خلقه الآخر، لكن أحببتما كبريائكما أكثر منا، ولم تنظرا لمعاناتنا، لما أتيتما بنا لهذا العالم؟! لقد حاولت التحرر من تلك المشاعر السلبية التي خلقتماها بداخلي منذ الطفولة، ولكن بالحقيقة، أنا أيضًا لا أرغب في الحياة، ولكني سأضع حدًا لهذه المأساة."

وأمسك بالظرف وفتحه وابتدأ يقرأ، فوجدها تقول: "أنا مليكة أكتب إليك هذا الكلام يا خالتي سوزان، لأشكرك على كل مافعلته من أجلي، رغم عجرفتي، أنا أحبك كثيرًا، ولكن لشدة انهياري وانكساري أتيت إلى مصر، أريد أن أعرف تفاصيل الحادثة، ولمَ لم يسأل عليّ والدي طوال هذه المدة، رغم معرفته بأمر الحريق وأني نجوت منه؟ هل ربما فعلت شيئًا أغضبه مني جعله يكرهني لهذه الدرجة، لذا اختار أخي وتركني؟ أرجوك أن تقولي له أني أحبه برغم قسوته، ولطالما افتقدته، ووددت لو أراه، وتمنيت أن يكون معي نصنع ذكريات سويًا مثل باقي الأطفال".

وصلت لدرجة مخيفة من الوحدة، كم أرغب في رؤية أخي، أراه كل يوم في أحلامي يناديني لكي ألعب معه، لقد وددت لو صنعنا ذكرى صغيرة معًا بعد رحيل أمي، أردت أن أخبر أخي كيف كانت تبكي أمي يوميًا لفراقه، وأنها لطالما نادتني باسمه - نور- الأمر الذي جعلني أشعر أنها أيضًا تحبه أكثر مني، في الواقع، لم يحبني أحد سواك يا خالتي، شكرًا على كل ما فعلته من أجلي ومحاولاتك الكثيرة للتخفيف عني، ولكني اليوم استسلم للموت تاركةً ورائي كل هذه الجروح التي لم أعد أحتملها، سأعتق الآن متحررًا منها وأنطلق للسماء إلى ملاكي لكي أراها وأخبرها أني لم أحب أحدًا مثلها في الحياة.

أرجوك ألا تحزني عليّ ولا تبكي، كفى بكاءً، سأنهي حياتي لأتحرر وأحررك مني، أرجوك اتركي الماضي وعيشي حياتك حرة لنفسك لا لأجل أحد، أحبك حقًا يا سوزان.

خرج وهو يبكي مسرعًا لشقة مليكة وطرق الباب بشدة لكن دون فائدة، فحاول كسره بكتفه ليجد مليكة ملقاه على الأرض ويدها مليئة بالدماء، فأمسك بيدها صارخًا: "لا لن أتركك هذه المرة"، اتصل بالإسعاف ليخبرهم بخطورة الحالة، ومرت دقائق حتى وصول الإسعاف، واستجمع قواه وحملها بين يديه وخرج بها من المنزل وأدخلها السيارة، ظل ممسكًا بيدها قائلاً: "أنا لن أتركك مرة أخرى.. سأظل بجانبك ولن أدع أحدًا يفرقنا، لقد بحثت كثيرًا عنك، وعندما علمت أنك طلبتي إصلاح الشقة والعودة بحثت عن شقة بجانبك ونقلت عيادتي بالقرب منك، أخبرتني سوزان أنك لا تريدين رؤيتي فلم أخبر أحدًا من السكان بهويتي حتى يتسنى لي رؤيتك ولو من بعيد.

لطالما حاولت سوزان التفرقة بيننا، فقد كانت امرأة أنانية لا تحب سوى نفسها وكانت تريد أن تمتلكك، لكن الآن وبعدما عرفت الحقيقة لن أدع أي شخص يحول بيننا يا أختي الحبيبة، ولكن أرجوك ألا تتركيني، أهٍ لو تعلمين أن سوزان تلك كانت هي السبب في الحريق ومع ذلك تركتك تظنين أنك المسئولة عنه.

جلس نور بالقرب من غرفة العمليات مسترجعًا ذاكرته وهو صغير في مشهد صراخ أمه وأبوه، رأى أمه تترك البيت ومعها أخته التي لم يشاهدها منذ تلك الواقعة، وأيضًا أمه لم يشاهدها إلا عندما أتى به والده إلى هذه المستشفى عندما علم بأمر الحريق ليجد والدته في غرفة العمليات، وها هو الآن يرى نفس المشهد ولكن هذه المرة يرى أخته، ليقطع والده حبل أفكاره صارخًا: "ما الذي حدث؟ أخبرني ولماذا لم تعلمني بالأمر؟" قام نور من مكانه في غضب وقال: "كل شيء حدث بسببك وبسبب كبريائك، أنظر لما وصلنا إليه، أمي في مصحة للأمراض النفسية وأختي بين الحياة والموت، وكل هذا من أجل ماذا؟ قل لي ما الذي استفدته من الطلاق؟ صرنا وحيدين.. أين الحب الذي لطالما حدثتني عنه؟" لقد أتت مليكة إليّ لتترك رسالة تشكر فيها سوزان على ما فعلته معها ولو كانت هذه الصغيرة تعلم بحقيقة خالتها لتمنت أن تحترق تلك المرأة في النيران عوضًا عن أمي.

وبعد عدة ساعات خرج الطبيب ليخبرهم أن العملية نجحت وأنهم استطاعوا نجدتها بأعجوبة، بعدها خرجت مليكة محمولة على الفراش فينهار والدها بالبكاء فور رؤيتها، ويمسك يدها ويقبلها ويقول: "حمدًا لله على سلامتك يا صغيرتي، سوف تكونين بخير.. كلانا هنا بجانبك ولن نتركك أبدًا."

وبعد أيام قليلة استعادت مليكة صحتها وخرجت من المستشفى وهي سعيدة ومستندة على يد والدها وأخيها وركبوا السيارة، وبدأ نور في الحديث قائلاً: "لم أتخيل أبدًا أنك ستسامحين سوزان بل وستجعليني أسامحها على كل ما فعلته بنا طوال هذه السنوات."

فضحكت وقالت: "لقد تذكرت كل الأمور الجيدة التي فعلتها معي، وسأصبح مثلها إن لم أسامحها، دعونا نفعل الصواب ونغلق دائرة الكراهية" وأضافت: "قد علمت أنها أخطأت في أفعالها، ولعلها تتعلم شيئًا من تلك الأخطاء وتصبح شخصًا أفضل" فابتسم نور وهو يوافقها، قائلا: "نعم، أنتِ على صواب."

وتوقفت السيارة، وعندما فتح لها الباب، قال لها: "هيا، أعددت لكِ مفاجأة" ودخل نور إلى عيادته، وتبعه والده، وبعدهم مليكة، لتتفاجأ بوالدتها أمامها، جالسة على كرسي متحرك، بجسدها آثار الحروق القديمة، فركضت نحوها بسرعة واحتضنتها بقوة، وقالت لها: "أمي! أنا لا أصدق عينيَّ، هل هذا حقيقي؟" وظلت تنظر إليها وتبكي، ثم عادت لتحتضنها مرة أخرى، قائلة: "تمنيت أن أراكِ ولو لمرة واحدة أخرى، تمنيت أن يعود بي الزمن، تمنيت أن أشاهدكِ في أحلامي، لم تفارقني صورتكِ أبدًا يا أمي، وكان قلبي يخبرني أنكِ معي كل حين ولن تتركيني."

فبدأت الأم أيضًا في البكاء وهي تسمع من ابنتها هذا الكلام، ثم مدت يدها لتحتضنها وقالت: "انتظرتك كثيرًا يا صغيرتي" ليعم الصمت أرجاء المكان، حيث تفاجأ الجميع أنها قادرة على الحديث، وكانت تتذكر مليكة، فقال الوالد، وهو في سعادة غامرة: "منذ أيام الحادثة، وبعد أن استعادت وعيها، لم تنطق بكلمة ولم تكن تتذكر أحدًا، وكأنها كانت ترفض الحياة بدونكِ يا مليكة."

جلس نور ومليكة عند قدمي والدتهما، وقبلا يدها وقال نور: "أخيرًا بعد مرور كل هذه السنوات، تجمعنا مرة أخرى" فابتسم الوالد واحتضنهم جميعًا، وقال: "اليوم نعود إلى منزلنا، نحن الأربعة" لتقول مليكة: "إنني حقًا أستحق هذه الحياة."