الثلاثاء 18 يونيو 2024

الهوية الثقافية المصرية


د. يوسف نوفل

مقالات6-6-2024 | 16:12

د. يوسف نوفل

اهتم الباحثون بردّ المعارف والحضارات إلى أصولها. ذهب "بول فاليري" بأصول الهوية الثقافية للعقل الأوروبي إلى ثلاثة أصول يونانية ورومانية ومسيحية.

وردّ الدارسون أصول الحضارة العربية في العصور الوسطى إلى:

ما أخذه وصقله المسلمون عن الحضارات القديمة، والرومان، والبيزنطيين، وما حدث من تفاعل مع الحضارات القديمة، وما تلاه من عطاء علمي وحضاري عربي إسلامي. وقامت للحضارة العربية هويتها المتسمة بالأصالة منذ عشرات القرون، على النحو الذي مكّنها من إفادة غيرها، واتسام تلك الحضارة بالشمول، ونموها المطّـرد، وإنتاجها تراثا حضاريا متكاملا في صدارة التراث العالمي، وتحديد الهوية والتفرد بين الثقافات القديمة السابقة والمعاصرة لها، ثم اللاحقة بعد ذلك قبل أن تتحول إلى التبعية، وتستسلم للغزو والاستلاب من: استعمار، واستيطان يهودي، وأيديولوجيا، وعولمة.

 وبقدر ما حدث التقدم نتيجة ذلك التفاعل الحضاري البعيد، بقدر ما يرى بعض الباحثين في سبب ضعف العرب الحالي انصرافهم عن الأخذ من الأصول بطرق سديدة.       

وسط هذا المناخ اتضحتْ سمات الهوية الثقافية المصرية جزءا لا يتجزأ من الهوية العربية، تجابه ما تجابهه، وتقابل ما تقابله من تحديّات، ومن بينها ما يفتريه المستعمرون الجدد من افتراءات؛ فما بين "سايكس بيكو" القديمة، و"سايكس بيكو" المعيشة الآن أيها التاريخ لا تحزنْ؛ ففي الحالتين تتنوع ردود الأفعال بقدر تنوع الأفعال ذاتها، ويطّرد ذلك التنوع في إطار ما يفرضه المصطلح الذي اصطلح عليه البشر فيما أجمع عليه العرْف اللغوي، وما تعارف عليه الاستعمال في حياتهم. على هذا الأساس تعارفت البشرية، على مر العصور، على الأفعال ومسمياتها، وعلى الأشياء ودلالاتها، لكن الغازي المنتصر، والمستعمر الجديد المسيطر غالبا ما يتغاضى عما استقر عليه العرف والاستعمال، فيخترع من المصطلحات ما يخدم خططه، ويحقق أهدافه، ثم يقترف من الأفعال ما يقتضي ردود الأفعال، وهكذا حرّف الآخر الكلام عن موضعه، فدأب على اختراع دلالات مغلوطة مخترعة تقلب معاني المصطلحات التي ظلت متوارثة عبْر العصور، ومستقرة في أذهان البشرية في تطابق مع مدلولاتها دون أدنى تحريف أو تزييف، حتى حرّفها الاستعمار عن موضعها، واستمر شأنه هذا منذ اتجهتْ الموجة الغربية الاستعمارية -بعنف ودون هوادة- نحو العالم العربي في صور شتى: استعمارا، وعدوانا، وصليبية، وهيمنة، واستغلالا، واستشراقا، وتجسسا، وإرهابا.

تتضح سمات الهوية المصرية في مواقفها العادلة الواضحة مع السلام والأمن، وذلك منذ عقود مضتْ حين قام (الحوار الحضاري) بين الطرفين: المحلّي والعالمي على أداتين هما: السيف والقلم، يبدوان تارة في حالة مواجهة، وتارة في حالة تناوب، في مواجهة المستعمر لتتقابل أيديولوجية القتل الاستعمارية مع فلسفة المقاومة في خلط بين مفاهيم المقاومة والإرهاب والعنف، وجدل في توصيفها حتى صار المخيّم -في نظرهم- موطن النقيضين: الإرهاب والمقاومة!!، ناسين تجسد الفارق بينهما فيما يرويه التاريخ في التفرقة بين الإرهاب والمقاومة فيما حفظ من أن اليابانيين قاوموا الروس وهزموهم والنسبة بينهما كالنسبة بين الفيل والحصان الصغير، وأن اليونان قاومتْ، وأنزلت الهزائم بإيطاليا في الحرب العالميةالثانية وتعداد سكان اليونان -آنذاك- لا يزيد على ثلث سكان إيطاليا، وأن أهل لننجراد قاوموا الموت جوعا على أيدي النازيين، فمات 632 ألف نسمة، وصمد الباقون على مدى 900 يوم حتى فكّ الألمان الحصار، وانسحبوا، وقاوم الفيتناميون وحشية أمريكا، وانتصروا، ثم غنوْا أغنية "ديان بيان فو"!!، وناضل الشعب الفرنسي ضد الغزاة، بمثل ما ناضلت إسبانيا، وغيرها ضد غزاتها.

وقد اعتمدتْ ثقافة المواجهة مع الآخر- وهو هنا المستعمر (جديده وقديمه) المحتل بالفعل للأرض والفكر، أو المحتل للفكر فحسب- اعتمدتْ على أداتي: السيف والقلم، كان السيف لسانه الناطق وأداته الباطشة، بينما كان القلم هو سلاح الفكر والأدب العربي وسلاح مفكّريه وأدبائه وفنانيه.

حتى تطورتْ علاقة المثاقفة مع الآخر في نهاية القرن العشرين عما كانت عليه في بدايته. بل عما كانت عليه في أخريات القرن الثامن عشر، ويرجع ذلك إلى تاريخ سابق منذ تآمرت الدول الغازية على إرْث تركيا، واقتسمتْ -بدورها- دول الخلافة الإسلامية في مؤتمر برلين سنة 1878، على نحو صار فيه الإرهاب ألوانا وألوانا؛ فتارة يكون إرهاب دولة يتجاوز الحدود والسدود، وتارة يكون إرهابا فكريا مقروءا ومسموعا ومشاهدا، وطبقا لمبدأ الفعل ورد الفعل، فإنّ كل عدوان يستدعي فعل المقاومة، لكن الآخر الذي حرّف الكلم عن موضعه حرّف معنى مصطلح المقاومة عن موضعه، بمثل ما حرف معنى مصطلح الإرهاب عن موضعه، لتتناقض الدلالات في نهاية الأمر، ولصالحه، على نحو زائف وممجوج.

وقد ألفينا خواتيم القرن العشرين تتوّج مرحلة بدأت في أعقاب السنوات التي شهدت خمود نيران الحرب العالمية الثانية، ليجني بطل هذه المرحلة وفارسها المغوار حصاد ما بدأ مع بزوغ نجمه، وانتشار نفوذه، وقوة شوكته وشكيمته، وفي ذيله دخيل مستوطن يزرع الإرهاب زرعا، يزرع إرهاب الدولة في الماء والهواء، والأرض والسماء، والظاهر والخفاء منْكرا على الشعوب حقها في الحياة، حقها في: المقاومة. وقد شهد شاهد من أهلها؛ حيث قام عالمان أحدهما من أكبر جامعة أمريكية وهي "هارفارد"، والثاني من جامعة "شيكاغو"، قاما بإعداد تقرير بعنوان "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية"، وبلغت عدد صفحاته ثلاثا وثمانين صفحة، فضحا فيه المعاملات المميزة الخاصة لإسرائيل التي تميزها عن كثير حتى من أعضاء الناتو، وكشفا تناقض المزاعم الأمريكية، وأن ذلك التعاون الأمريكي الإسرائيلي هو السبب الرئيس في وجود الإرهاب، وهكذا أقرّ شاهد من أهلها.

مقاومة الثقافة / ثقافة المقاومة

بات التباين في القرون: بين المطالع والنهايات جليا؛ ليتقابل موقفان: مقاومة الثقافة/ ثقافة المقاومة؛ فقد اختلف أمر القرن العشرين في أواخره عنه في أوائله، وعنه في أوائل القرن التالي له، فلم يعد الأمر مقصورا على الحملات والحروب. بل تعداه إلى عوامل أخرى متعددة من: تغريب، ومواجهات حضارية، واستعمار جديد، واستشراق موجّه، وترجمة موجّهة، وإرساليات وتبشير، وتوظيف مشبوه لقنوات الإعلام المقروءة والمشاهدة، وتغيير في الآداب والفنون؛ فلم يعد الأمر متوقفا عند الطباعة والصحافة وهما تحبوان في أول العهد. بل تعدى ذلك إلى توجيه منظم وهادف في إطار ثورة المعلومات في عالم صار قرية صغيرة بفعل انفجار المعلومات، والحركة الدءوب في شبكات "الإنترنت"، والسماوات المفتوحة، بل تفشى في محطات أرضية وفضائية لا تكاد تحصى، حتى باتتْ الحرب الفكري، أو الإرهاب بالكلمة المقروءة والمسموعة والمشاهدة والإلكترونية، والإرهاب بالرسائل الإلكترونية وباء متفشيا، وطامة كبرى تقتضي -بالضرورة- مقاومة من نفس النوع، وقد أثبت التاريخ تلك الحقيقة؛ فعلى مدى القرون الماضية لم يقف المثقفون العرب مكتوفي الأيدي منكّسي الأقلام. بل قامت ثورات الكلمة المقاومة، سجلها الشعراء والأدباء العرب ممن يستعصي عليّ حصرهم هنا، وأدّوْا الضريبة: سجنا أو استشهادا مرورا بمن يفوقون الحصر، أمثال غسّان كنفاني، ومنْ لا يحصوْن عددا من زعماء الإصلاح، وقادة السياسة والوطنية، ورجال الفكر بمصر، وتونس، والجزائر، والسودان، وليبيا، والمغرب، والعراق، والشام، وفلسطين، ومنْ لا يحصيهم العدّ.

وبقدر ما كان الغزو ألوانا وألوانا كانت المقاومة ألوانا وألوانا بقدر تفنّن الاستعمار في أساليب غزوه أو إرهابه الفكري، ليقابل ثقافة المقاومة بمقاومة الثقافة؛ ففي مطلع القرن التاسع عشر أنشئتْ الجمعيات والمجلات الاستشراقية، واستعان الاستعمار الإنجليزي ببعض هؤلاء المستشرقين، فأرسلت (جمعية استكشاف فلسطين) المستشرق الإنجليزي "بالمر" ليقوم -ظاهريا- بدراسة عن صحراء سيناء وفلسطين لصالح إسرائيل، وقام بإرضاء اليهود، وقدّم دراسة وافية أفاد منها اليهود، كما أفاد منه الإنجليز سنة 1882، فأوفدوه إلى مصر خلال الثورة العرابية ليقوم ببثّ الفتنة، على نحو إرهابي حرص فيه على تأليب بدْو سيناء وإثارتهم على مصر بمنحهم الجنيهات الذهبية، وإنْ أدى ذلك -في النهاية- إلى طمعهم فيه، فقتلوه.

لقد أسفر ذلك -في نهايات المطاف، ومع المتغيرات العالمية والعوْلمة، والنظام العالمي الجديد- عن الحقيقة، فانفجرت في الآفاق العالمية الصيحة الصريحة، والمواجهة السافرة في مزاعم: (نهاية التاريخ وخاتم البشر) بانتصار النموذج الغربي على الشرق الشيوعي، و(الصدام بين الحضارات)، وليس (الحوار)،وظهر في أعقاب حرب الخليج الأمريكية الأولى سنة 1990 مفهوم أمريكي هو "الحرب الثقافية" فيما كتبه "جويار"، و(أوروبا والتحدي الثقافي) فيما كتبه "روميناس"، كما كتب "و.س.لنيد" مقاله (الدفاع عن الحضارة الغربية) بمجلة السياسة الخارجية الأمريكية، بعنوان: ما الذي نحارب من أجله الآن؟ وكتب "ف.س. نايبول" -الحائز على جائزة نوبل سنة 2001- كتابه: وسط المؤمنين، وما بعد الإيمان سنة 1998، وهكذا اكتمل المخطط الثقافي والفكري الغربي. وفي مقابل ذلك كان التوجّه الإنساني نحو الحوار  لا الصراع والإرهاب؛ ففي نوفمبر سنة 1998 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا باختيار سنة 2001 سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات، وفي جلستيْ الجمعية العامة للأمم المتحدة يومي 3،4 من ديسمبر 2000 ظهر مشروع الإعلان عن الحوار بين الحضارات قدمتْه 74 دولة من بينها 16 دولة عربية، وكوّن الأمين العام لجنة العشرين من الشخصيات المرموقة عالميا لإعداد وثيقة تعرض على الأمم المتحدة عنوانها (عبور خطوط التقسيم.. الحوار بين الحضارات). غير أن ملتقى المفكرين العرب بمقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية أعلن -استجابة لدعوة الأمين العام الجامعة- إعلانه في وجه الصدام، مؤكداً على الاعتراف المتبادل، والتواصل، والفهم الإيجابي بين الحضارات (مؤتمر حوار الحضارات 26، 27/11/2001)، والإعلان المستقبلي عن مؤتمر الثوابت الثقافية والمتغيرات الحضارية في جامعة القاهرة (12-13/10/2002)، وكان قد بحّ صوت المفكّر الحرّ "روجيه جارودي" حول "حوار الحضارات" سنة 1986، وقضايا الهولوكست، والأيادي الملطّخة بدماء الشهداء والأبرياء.

الأمْـن الثّـقــافــي

هكذا تقف الهوية الثقافية المصرية -في جملة الموقف العربي بعامة- موقفا واضحا وصريحا أمام بحر متلاطم الأمواج، ووسط أمواج متلاطمة متناقضة متناحرة متصادمة، محتكمة -دوما- إلى الأمن الثقافي؛ حيث يشهد العالم الآن حقبة جديدة من ثقافة الحوار مع الآخر، حقبة مبنية على الاحترام المتبادل، حقبة تأتي بعد مسيرة طويلة من الهجمات الإرهابية الشرسة والمتنوعة من الآخر تخاذلت فيها الكلمة المقاومة إزاء موجات الهجوم الإرهابية الطاغية، وليس ذلك ناجما عن ضعف موقفنا الحضاري بقدر رجوعه -مع الأسف الشديد- إلى ضعف الكلمة المكتوبة والمسموعة على مستوى الخطاب العام، وضعْف ما صدر عنها، وإحجامها عن دور المبادرة، والاكتفاء بدور محدود على هامش أسوار ردود الأفعال. 

إنّ على الثقافة المصرية والعربية المعاصرة أنْ تقوم بمهمتها التاريخية فاتحة نوافذها على حد قول غاندي: "أريد أن أفتح نوافذي لتهبّ علىّ جميع نسمات البلاد المجاورة على ألا تقتلعني من أرضي"، نقف مثل غاندي، وبإيمان لا شك فيه هو أن الإرهاب صناعة مستوردة، صناعة غير عربية، عالمية المنشأ، وشرق أوسطية الاستهلاك؛ ذلك أنه في الوقت الذي نقرأ فيه كتاب (الخليل مجزرة معلنة) لمؤلفه (غير العربي وغير المسلم!!!!!!!) "آمنون كبليوك"، ترجمة عرب البطران، نشْر وزارة الثقافة بفلسطين، في نظرة موضوعية، نجد من الكتابات العبـْرية ما يفيض حقدا وينفث إرهابا، كما نجد من اليهود من ترجم أعمال الكتّاب العرب إلى العبرية من وجهة نظر صهيونية غير أمينة. وتظل هوية الثقافة المصرية صامدة أمام التحديات الحالية والمستقبلية بمشيئة الله.