الثلاثاء 18 يونيو 2024

انطباعك الأول يصدق أحيانًا

مقالات7-6-2024 | 09:08

كان صلبًا قاسيًا متعجرفًا منذ بداية اللقاء الذي جمعها به اضطرارًا، اتضحت معالم شخصيته منذ اللحظة الأولى، وهو جالس إلى جوارها يحدثها بإعجاب عن نفسه وعن مميزاته، كانت تستمع إليه وهى تدقق جيدًا في مراقبتها إليه، تبحث عن بعض ملامح القبول في وجهه، تنقب عنها بحرص شديد، قرأته بالفعل وراحت تحبس أنفاسها خوفًا من أن يقرأ أفكارها التي كانت تدور برأسها عنه.

 اجتهدت لكي تصدر حكمها عليه وهى تستمع لنبرة صوته الحادة التي كادت أن تطيح بفنجان قهوته، عقدت بعدها مقارنة بين صورته التي تراها أمامها الآن وبين صورته التي رسمتها له من وحي خيالها من قبل، خيالها الذي طالما اتسم بالطيبة والنقاء إلى جانب كم كبير من حسن الظن.

كان حديثه يتسم بالتعالي الشديد، تجنح لهجته كثيرًا نحو الخشونة والعناد والتسفيه، بدا لها في لحظة كعملاق يميل نحو الأسفل لكي يقتطف زهرتها الرقيقة من بين أقرانها قاصدًا إيلامها وإلحاق الضرر بها، مُصرًا على تكبيل حريتها وسجنها بداخل سجنه لسنوات وعقود، إنه يقترب بالفعل منها ويوشك على انتزاعها، ها هو يكسر أغصانًا رحيمة تحملها بحب وتحتضن معها حلمها البعيد. تفاصيل الرحمة الغائبة عن تقاسيم وجهه كانت تتحدث من دون كلام.

 بدا هذا جليًا حين حاول الإمساك بها بعنف شديد قاصدًا إخراجها من أرضها التي عاشت واحتمت بها زمنًا طويلًا، رياح الأنانية تسبق كلماته ويطل من بينها الغرور، غرور مقترن بمبالغة كبرى في حديثه عن إنجازات له؛ أشياء ضئيلة، هزيلة، هشة ما لها من تأثير، مما جعلها تتكشف حقيقته شيئًا فشيئًا، فتركته يتحدث كما يشاء يعيد ويكرر في الحديث. 

الشعور بالأنا يكاد يأسره، يتملكه، يشير ويلوح للإتيان بالمزيد، يتوقف فجأة عن الحديث معها حين يلمح نظراتها الباردة تتجه نحوه في ثبات تواكب عاصفة من صمت رهيب، كادت نظراتها إليه أن تخترقه وتخبره بعدم قبولها له بكل ما فيه، فقام بدهائه يقلب الحقائق ليغير صورته في عينيها من جديد، قام بتحويل الدفة باتجاهه في ثوان وهو يقدم لها اعترافه الأخير؛ اعترافه الذي أخبرها فيه بأنه ليس كما تظن فهو شخص لطيف ودود، عطوف، حنون، لكن وجهه الذي يبدو متجهمًا وصوته المرتفع إلى حد كبير يخفيان حقيقته، رقة قلبه ومشاعره، يعدد ويحصي عدد مرات الظلم الواقع عليه ممن يقتربون منه أو  يتبادلون معه الحديث.

كانت كلما أشار إليها للحديث معه عن نفسها تتجاهل طلبه فلا يجد منها سوى الصد وعدم القبول، الرفض أنهكها فقررت أن تعبر عما يجول بخاطرها، استجمعت شجاعتها وثقتها بنفسها لكي تتأكد من صدق حديثه أو غير ذلك، لتلجأ بعدها لخطة كانت قد أعدتها لتتخلص منه إلى الأبد، كانت تنتقي كلماتها بعناية فائقة، لكي تبتعد عن النزاع والجدل العقيم.

 فما لبث الحوار أن انتهي بشجار هائل بينهما، جعلها تدرك صدق حدسها وتتيقن من صدق انطباعها منذ اللحظة الأولى لرؤيته والاستماع إليه، فتقرر المغادرة وتتخذ قرارها الصائب الأخير بالابتعاد عنه في الحال. 

أحيانًا تصدق انطباعاتنا الأولى تجاه بعض الأشخاص، ويصبح خطؤنا الأكبر هو السير بعكس اتجاهها، يتمادى الخطأ ويستبد به الجنون وهو يزين لنا من الأمور أسوأها، فنجد أنفسنا تقبل عليها بذراعين مفتوحتين، نعبر معها الطريق لينتهي بنا المطاف في الاستقرار داخل مدن الأحزان، نمر هناك بالعديد من التجارب المؤلمة، تجارب تحطمنا وتسحق أمانينا، تدمر قلوبنا وما لها من تعويض.