شهدت مصر مع بدايات القرن العشرين حالة من الازدهار الفني وأحداثا موسيقية كبيرة جاءت بعد حالة من الركود الفني استمرت لسنوات طويلة ، وبدأت هذه الانتعاشة الموسيقية بازدهار المسرح الغنائي على يد "الشيخ سلامة حجازي" الذي كان يقدم المسرح العالمي معرباً، ويطعمه بالقصائد العربية، ثم حمل الراية من بعده فنان الشعب "سيد درويش" الذي يعتبر الأب الروحي للموسيقى المصرية بما أحدثه من طفرة موسيقية وغنائية جديدة في تناوله لموضوعات وأشكال جديدة تميزت بقربها الشديد من الموسيقى الشعبية واهتمامه الكبير بالحفاظ على الهوية المصرية في كل أعماله الغنائية خاصة الأعمال الوطنية التي مازالت ترددها الأجيال الجديدة على مدار السنوات وأهمها بالطبع أغنية " بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي" والتي أصبحت النشيد الوطني المصري الرسمي منذ سنوات طويلة وحتى يومنا هذا.
ثم جاء من بعد سيد درويش فرسان أحدثوا تطورا كبيرا في عالم الغناء والموسيقى في مصر والذي استمر حتى أواخر فترة السبعينيات من القرن الماضي، ومن أشهر هؤلاء الملحنين نذكر الموسيقار محمد عبد الوهاب، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وبليغ حمدي، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، وحلمي أمين، وحلمي بكر وغيرهم من الملحنين الذين سار كل منهم في طريق قاده إلى تحقيق أسلوب موسيقي مميز له، ولكن كان يجمعهم هدف واحد وهو الحفاظ على الهوية المصرية في كل أعمالهم حتى أصبحت مصر في هذه الفترة الذهبية منبرا ورائدة للموسيقى والغناء والطرب في الوطن العربي كله.
وتجلى إبداع الملحنين والمؤلفين والمطربين المصريين وظهر واضحاً في إنتاج العديد من الأغاني والأوبريتات الوطنية ذات المعاني والمفردات القوية التي كان لها أكبر الأثر في بث روح الوطنية في الشعب المصري، والتي مازالت حتى الآن تتربع على عرش الوطنيات رغم مرور عشرات السنين على إنتاجها، كذلك كان للأغاني الطربية ذات المقدمات الموسيقية الطويلة في ارتفاع الذوق العام لدى المستمع المصري، حيث كان الجمهور على سبيل المثال يطلب إعادة المقدمات الموسيقية أكثر من مرة في حفلات أم كلثوم لشدة تذوقهم وإعجابهم بها، وللأسف أنه مع بداية الثمانينيات اختفت تدريجيا هذه النوعية من الأغاني الطربية وحل مكانها لون غنائى جديد أُطلق عليه مسمى " الأغنية الشبابية" والتي تعتمد على الإيقاع السريع الراقص دون الاهتمام بالكلمات ولا باللحن وكانت هذه هي بداية النهاية للفن الراقي في مصر ، حيث تولد من الأغنية الشبابية لون غنائى آخر أشد هبوطآ وانحدارآ وهو فن المهرجانات الشعبية والتي ظهرت مع مطلع هذا القرن وانتشرت أولاَ في المناطق الشعبية وللأسف أنها لاقت انتشاراً واسعاً خاصة في الفئات العمرية صغيرة السن من الشباب والأطفال.
وسرعان ما انتشرت المهرجات الشعبية في كل الأفراح والمناسبات الاجتماعية حتى أنها اجتاحت أفراح الطبقات الراقية، وكان لانتشار هذا اللون الرديء من الأغاني الأثر الكبير في تراجع الذوق العام بين الناس ليس في مجال الموسيقى والغناء فقط، ولكن في كافة المجالات الأخرى والتي ابتعدت تماما عن الهوية المصرية، حتى المحاولات التي قام بها بعض الملحنين والموسيقيين الشباب في إنتاج أعمال غنائية راقية باءت كلها بالفشل أمام طوفان المهرجانات الشعبية، والتي ساهمت بشكل كبير في انتشار موجة العنف والبلطجة بين الشباب والأطفال لما تحمله هذه المهرجانات الغنائية من مواضيع ومصلحات سيئة وغير هادفة، ورغم أن نقابة المهن الموسيقية قننت إلى حد ما ظهور مطربي المهرجانات في الحفلات الموسيقية ووضعت لهم بعض الضوابط في اختيار الكلمات إلا أننا مازلنا نعاني من الانحدار الفني الذي تسبب في انتشاره هذا اللون الغنائي الدخيل على الهوية المصرية والذي نتمنى أن يختفي تماماً من الساحة الفنية المصرية حتى نتمكن من الارتقاء بالذوق الفني المصري لتعود الريادة الفنية الموسيقية لمصر مرة أخرى.