أحسد نفسي وربما جيلي بالكامل حتى عتبات التسعينات ، فنحن المحظوظون بذكريات جميلة نتنفس بها شوقا حتى الآن، تأتي كل مناسبة لتعبث بدواليب مشاعرنا المدفونة بذكرى حلوة ولمة أحلى، ومهما مرت السنين هيأخذنا الحنين لرائحة أكلة أجدادنا وشيش بيتهم الموارب، مع مشروب الحلبة الناعم وأغنية دافئة.
فمن ينسى فؤاد وحنينه للذكريات "خدني الحنين بعد السنين جابنى هنا.. هنا للمكان اللى أتولد فيه حلمنا، وبكينا فيه وضحكنا فيه من قلبنا، هنا بلقى نفسى وروحى هنا ببقى أنا، عديت على البيت اللي كان فيه الحبايب راجع ماليني الشوق".
نعم فأنا مريض بحب الذكريات وبالأيام الجميلة والتجمعات العائلية في المناسبات والأعياد والليالي الرمضانية، ذكريات محفورة بالنور لا تنسي فمن منا ينكر أن عائلته وبالتحديد عائلة الأم "خال وخالة" وأبنائهم هي الأقرب والأحب بل هي العمر والذكرى.
العيد على الأبواب انتهت طفولتنا البسيطة وبقيت ذكرياتنا الجميلة بالحكاوي الحلوة وبلهفتنا لحظة تشغيل فيلم السهرة وشرائط الفيديو مع تسالي الترمس والبونبون، وفرحتنا بالأُضحية فنحن الجيل الذي كان يرعى أُضحيته قبل العيد بأسبوعين على الأقل ، تأكل وتشرب في بيتنا نلتف حولها لمشاهدتها وهي تأكل ببهجة وسرور حتى وأننا من براءة مشاعرنا كنا نحزن عند ذبحها ونرفض تناول لحومها.
فمن ينسى رائحة الكحك البيتي المخبوز بحب، كانت أمهاتنا تعطينا فرصة لتشكيل وتزين الكحك مع الكبار وتضعها بين كحكهم المنظم لترى البسمة على وجهنا والفخر بأنها من صنع أيدينا، ومن ينسى أبواب الأفران المكتظة بنا ومن فوق رؤوسنا لتسوية صاجات الكحك والبسكوت فبسبب كثرة الكمية التي كانت تصنع للعائلة بالكامل كانت هناك صاجات يتم تسويتها بالمنزل للاستمتاع برائحته الطازجة بينما يحمل شباب العيلة عددا آخر من الصاجات للتسوية بفرن عم صالح.
منازلنا مهما قلت مساحة أمتارها كانت تحتضن أعدادنا في سهرات العيد محتضنين ملابسنا الجديدة، مجتمعين تتعالى ضحكتنا من غرفة واحدة نفترش أرضها بالكامل، ننتظر صلاة العيد والتكبيرات بالعيون الساهرة قبل الذهاب لساحة الصلاة، كنا جميعا نرتدي زيا واحدا من نفس القماش والتفصيل، فكان في كل عائلة أم أو خالة تحتفظ في منزلها بماكينة خياطة، تلك الماكينة في البيوت المصرية كانت لا تقل أهمية عن "الميكرويف" حاليا، وكان يقع على عاتق من يمتلكها مهام التفصيل لبنات وشباب العيلة دفعة واحدة.
والغريب أننا حلمنا دوما بالكبر والعمل والهروب من الدراسة ، حتى وإن كان أغلبنا مدمن للأتاري وبنك الحظ وتتعالي ضحكاته عندما يسحب أحد أفراد أقاربه حكما بالذهاب للسجن لهروبه من العسكرية، بينما يفوز الآخر بحب حماته التي ترسل له مبلغ ١٥٠ جنيها وتطالبه بالذهاب لمحطة الأقصر للحصول عليه، وكان شخصا واحدا مسؤل عن البنك وتوزيع المنح في اللعبة وكان يتقمص الدور ويشعر بالفخر وكأنه يملك بنكا حقيقيا، رغم كل ذلك كنا نحرص على لعب دور الكبار بوضع مكتب وأوراق وأختام لتخليص مناقصات لعبة الموظفين ، ولكننا تفاجأنا بصدمة الحياة و إرهاقها.
تلك الصدمة التي عبر عنها هشام عباس في أهم ما تغنى به وأعتقد أنك وأنت تقرأ تلك الكلمات تذكرتها وربما كان لك معها ذكرى دافئة، "زمان وأنا صغير كنت بحلم أبقى كبير تعب القلب وأتحير من الدنيا ومن المشاوير، ولما كبرت قلت ياريت ما كنت حلمت ولا أتمنيت ، قلت ياريتني فضلت صغير زى زمان"، وكأنه أرد توثيق ذكرياتنا وتنبأ بجيل السرعة والآيباد.
لا يسعنا الآن إلا الحنين للماضي و أغنياته وبساطته، و حتى مواقفنا الصعبة، و الغريب أن بعض الأجيال الحديثة أصبحت تميل للماضي المملوك لنا و لكلمات وألحان أغنيته أيضا ربما لأن أيامنا كانت أكثر تشويقا و عفوية و ألعابنا كانت بالمشاركة أما الآن قلما يجتمعون الأصدقاء والأقارب التائهين في دروب الحياة، فهم لا يتحدثون حتى عند اللقاء وتقتصر جمعتهم علي الذهاب للمطاعم فلم يعد للبيوت جمع، ثم قضاء ما تبقى من الوقت وكلا لا يرفع أعينه عن الهاتف المحمول، أشفق على الجيل الحالي فهم جيل منزوع الذكريات، بلا ماضي وذكريات، حتي التهاني و البرقيات الحديثة فقدت بريقها فبدلا من تجمع الجميع في بيت واحد المعروف بالبيت الكبير أصبح عيدهم مشابه لأيامهم اليومية، وأختفت التهاني التلفونية واستبدلت بكلمات جافة ترسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وربما لا يقرأها المرسل إليه بالكامل ويكتفي باللايك الجميل.
أجيالكم لم تستمتع بالحلوى والفول السوداني الذي كان يفترش الأطباق والأواني والطاولات وعيديتكم منزوعة البركة، وعيديتنا ثروة لم نحسبها دوما بقيمتها بل كفانا بهجة النظر للظرف الأبيض المزين بالخطوط الحمراء والزرقاء، ستظل روائح الماضي تغلبنا نتمنى رجوعها ربما لبساطتها وربما لأننا كنا مع من نحب قبل أن تنقضي أعمارهم رحم الله أحبابنا وأيامنا الجميلة، ولو تمنيت شيئا سوف أهمس في خزانة الماضي " ارجع يا زمان حن ياماضي".