الجمعة 28 يونيو 2024

شهادة مثقف | الروائي العربي أمير تاج السر: الكتابة قدر من ابتلي بها

الروائي العربي أمير تاج السر

ثقافة23-6-2024 | 17:50

دعاء برعي

حققت الأعمال الأدبية للروائي العربي السوداني أمير تاج السر، حضورًا واحتفاءً كبيرين في الأوساط الثقافية والنقدية العربية والعالمية، وتُرجم أغلبها إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. نال العديد من الجوائز فحصلت روايته "366" على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2015م، ووصلت روايته "صائد اليرقات" للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية 2011م ثم روايته "زهور تأكلها النار" 2018م.

"كرمكول" أولى رواياته التي بدأ بها مشواره الروائي بعد أن تخرج في كلية طب جامعة طنطا، فأحدثت أصداءً كبيرة في القاهرة، ثم استكمل هذا المشوار بعد عودته للسودان فصدر له العديد من الروايات منها "سماء بلون الياقوت"، و"نار الزغاريد" و"مرايا ساحلية" و"سيرة الوجع"، و"صيد الحضرمية" و"عيون المهاجر"، وشكّلت روايته "مهر الصياح" في 2002 علامة فارقة في مسيرته الإبداعية، فحققت الانتشار الأكبر في حياة الروائي، وترجمت منها عدة فصول، وواصل تاج السر تجربته مرورًا بـ "توترات القبطي" و"العطر الفرنسي"، و"إيبولا 76"، و"أرض السودان –الحلو والمر"، ووصولًا إلى "فوتوغرافي: غليان الصور".

 

وحول تجربته الإبداعية يقول الروائي السوداني أمير تاج السر في شهادته التي يدلي بها لبوابة "دار الهلال": "نشأت في بلد يعج بالأساطير ويملك خصوصيته الآفروعربية، بمعنى أننا نشارك العرب لغتهم، وأشياءهم، ونملك في المقابل أشياء إضافية، أوردتها خصوصية المكان الجغرافي الذي تقبض إفريقيا السمراء على الكثير من لحمه، هناك طقوس لا يمكن العثور عليها إلا عندنا، هناك شخصيات لا يمكن توفرها في مكان آخر، ولعل تلك الشخصيات بما تملكه من سحرية، شقت طريقها إلى نصوصي، بعضها بسلاسة وبعضها بصعوبة، ودائمًا حين أعثر على شخصية وأفكر في كتابتها، أحاول استرضاءها، فبعض الشخصيات لا تحب أن تكون مهمَّشة، وبعضها لا تحب أن تكون بطلة مطلقة، وهكذا يسير النص أحيانًا غصبًا عني ليكتب الشخصيات كما أرادت وليس كما أردتُ، وفي رواية "العطر الفرنسي"، مثلاً التي صدرت في عدة طبعات وترجمت للغات كثيرة، وتدور أحداثها في أحد أحياء مدينة بورتسودان الفقيرة، كان ثمة صراع سيدور بين شخصيتين بارزتين في الحي، على حب زائرة فرنسية، انطلقت إشاعة أنها ستأتي، وأحسست أن إحدى الشخصيتين، لا تريد أن تخوض ذلك الصراع، ومن ثم أنهيته قبل أن يبدأ. أيضًا في رواية "صيد الحضرمية" التي نشرتها، ثم أعدت كتابتها في رواية: "اشتهاء"، كنوع من المغامرة، أحسست بأن بطلة الرواية "حورية مصلح الحضرمية" تريد نصًا تخوضه بجرأة وحرية، في بلدة صارمة، فأطلقت لها العنان، لتتحمل جميع التبعات. كذلك رواية "توترات القبطي" التي صدرت ٢٠٠٩، وهي رواية لم أرِد أنا كتابتها أبدًا، لكنها جاءت على الرغم من كل احتياطاتي التي اتخذتها حتى لا أكتبها. ورواية "٣٦٦"، التي امتلأت بالخسارات، جاءت رغمًا عني أيضًا، وكذا روايات عديدة، لم أفكر فيها، ووجدتها تأتي طائعة، وتجبرني على كتابتها".

ويضيف: "أقول عن ما سمي قصدية الكتابة عندي، وأنني مجرد كاتب روايات، وليس روائيًا يحضن النص حتى يفقس وحده، كما يروِّج البعض في السودان. إن الأمر لا يبدو عادلاً، فكتابة هذا العدد من الروايات التي كتبتها حتى الآن، على مدى أكثر من عشرين عامًا ليس بالأمر الكثير، وليس معنى أن معظم السودانيين يكتبون رواية أو روايتين، أن يكون ذلك قانونًا يسري على الكل. أنا أكتب نصي حين يريدني النص أن أكتبه، وأحيانًا أظل شهورًا طويلة من دون أن أستطيع كتابة حرف واحد، فبعد أن أنهيت رواية: "طقس" الصادرة عن بلومزبري- قطر، لم أكتب أي حرف حتى أربعة عشر شهرًا بعدها.. أيضًا صادفتني عشرات الشخصيات الساحرة، ولم أستطع كتابتها، لأن لا نص يريدها بداخله، أو لم تكن جبارة كفاية بحيث تصنع نصها الخاص. وأذكر ذلك الآسيوي الذي ظل يتردد على عيادتي يوميًا لأكثر من عشر سنوات، يشكو من أن قدمه اليمنى، مكسورة ولا يستطيع المشي، وأراه بعد ذلك ماشيًا عشرات الكيلومترات، حاملاً آلة للتسجيل وحقيبة ممزقة فتحها مرة أمامي وكانت فارغة، وأتحسر أنني لم أستطع كتابته على الرغم من أنه يبدو لي من الشخصيات الموحية بجنون، وقد طلبت مني "كاترين كادويلي" الممرضة الفرنسية التي عملت معي في الإغاثة منذ أكثر من عشرين عامًا، في أقصى شرق السودان، أن أكتبها في رواية بعد أن عرفت إصابتي بمرض الكتابة، لكنني لم أستطع كتابتها إلا 2009 فقط حين جاءت رواية "العطر الفرنسي" وحدها، لتظل هي محورها".

 

ويتابع: "أتحدث عن النبش في التاريخ والاستفادة من مفرداته الموحية في نص حداثي، بناء على تجربتي في رواية "مهر الصياح" التي أعيدت طباعتها عدة مرات وما زلت شخصيًا أفخر بها كثيرًا. في تلك الرواية لم أكتب تاريخًا حقيقيًا موثقًا ومدونًا، كما يفعل البعض حين يتحدثون عن فترة تاريخية معينة، لكنني صنعت تاريخًا وهميًا، وأيضًا مستفيدًا من فترة ما، وكانت سلطنة "أنسابة" التي جرت فيها وقائع النص هي أي مكان يمكن أن تجري فيه وقائع نص، وزمن الكتابة، هو أي زمن بما فيه زماننا الحاضر، وفي نصوص أخرى مثل أرض السودان -الحلو والمر"، و"توترات القبطي" استلفت سيفًا من هنا وعمامة من هناك، وثورة من هنا وهناك لأكتب نصي الذي حمل دلالاته التاريخية والمعاصرة".

ويوضح تاج السر أن "أرض السودان -الحلو والمر" أحب الروايات إليه، ويعتبرها من تجاربه المهمة في معالجة موضوع العلاقة بين الشرق والغرب، حيث العلاقة هنا عكسية، يقول: "حين يزور الأجنبي بلادنا ويعتقد جازمًا بعد الحياة فيها لفترة، أنه امتلك مفاتيحها، وغالبًا هذا غير صحيح، وقد سعدت كثيرًا أنها ستصدر قريبًا باللغة الإسبانية".

 ويشير: "في أي شهادة سودانية عن الكتابة، لا بد أن يذكر الراحل الطيب صالح أو "خال الجميع" كما أسميه شخصيًا، باعتباره اسمًا كبيرًا، طغى على كل الأسماء التي سبقته وبعض التي أتت بعده. في رأيي الشخصي، أن الطيب لم يحجب كاتبًا أبدًا، ولم يسع إلى ذلك طيلة حياته الكتابية، لكن الكتابة السودانية هي التي حجبت نفسها في الماضي، فما دام الناس منكبين على محليتهم حين يكتبون وينشرون، فكيف يمكن معرفتهم؟ ولكن مؤخرًا، انفتح الأدب السوداني كثيرًا على القراء الآخرين، أصبح ينشر عربيًا في دور نشر مهمة، وأيضًا نفس الدور المحلية، طوَّرت من خدماتها كثيرًا، وأصبحت تطبع الكتب باهتمام وتشارك في معارض عربية وأوروبية، ولطالما التقيت بناشرين سودانيين، يشاركون بجدية في المعارض، ويعرفون بالأدب السوداني الجديد. أيضًا التجربة النقدية اتسعت، لتنفتح على الكتابة الجديدة، وتروج لها، ومن ناحية الترجمة، أيضًا صار عدد لا بأس به من الكتاب السودانيين، مترجمين للغات أخرى ويعرفهم القارئ الغربي، وهكذا تعديل منطقي ومطلوب لخريطة الأدب السوداني، فهو اليوم أدب عربي معروف وموجود وسط الآداب العربية الأخرى".

 

ويؤكد: "إذًا الرواية السودانية انتعشت بشدة، لكن فقط تبقى قصة الأحوال الاقتصادية قائمة بمعنى صعوبة الكتابة لكاتب ينحت في سبل الحياة ليعيش، وصعوبة القراءة لقارئ مشتاق إليها، لكن ما يكسبه من مال، بالكاد يعينه على الحياة، ولعل المكتبات الإليكترونية التي انتشرت في الفضاء بما تحويه من كتب بعضها مقرصن وبعضها بعقود مع أصحابها، ساعدت على القراءة، لكنها أضرت بصناعة الكتاب".

ويلفت: "أسأل عن موقعي في المشهد الثقافي السوداني بحكم إقامتي الطويلة خارج السودان سواء للدراسة أو العمل. وأعتبر نفسي داخل المشهد بقوة بحكم نشأتي وتشرُّبي بخامات تلك البلاد التي لم أكتب أبدًا عن سواها، وأذكر هنا بالتحديد شرق السودان الذي خبرت بيئته جيدًا وكتبتها في معظم أعمالي بعد أن فررت من بيئة الشمال التي لم أكن أعيها جيدًا، وحتى النصين اللذين كتبتهما عنها في بداياتي، أحس بهما الآن شديدي التعقيد، وبحاجة إلى إعادة نظر، لكن أحس دائمًا في زياراتي للسودان أن الناس تنظر إلى الكاتب المغترب، نظرة أخرى، دون مراعاة أنه خرج أيضًا بحثًا عن حياة أفضل، وأن الدنيا مفتوحة لكل من أراد الخروج، وكان ما آلمني أن ناقدًا هناك كتب مرة أنني غير سوداني، وعليَّ أن أكتب عن بيئة أخرى غير السودان، وطبعًا هذا تعدٍّ على المواطنة وسحبها بلا وجه حق. فما دام الكاتب في النهاية من أهل البلد، والكتابة عن البلد، فلا بد أن يكون الأمر كذلك، حتى لو استلف الكاتب لغة أو مفردات من محيطه الذي يعيش فيه، ليس ميلان كونديرا كاتبًا فرنسيًا برغم إقامته الطويلة في فرنسا، ليس الطاهر بن جلون كاتبًا فرنسيًا، ولم يكن "بول بولز" سوى كاتب أمريكي صميم، أنفق عمره حتى مات في طنجة التي عشقها.. وكتب فيها روايته "السماء الواقية" التي أعتبرها من العلامات.. الأفق أيضًا بحاجة إلى ترميم كما أعتقد، وعلى من يحمل تلك الآراء أن يتروى كثيرًا قبل إطلاقها".

 

النقد تذوق شخصي

وينتقل الروائي تاج السر للحديث عن النقد فيقول: "يعتبر الكثيرون النقد، جسرًا يمكن أن تعبر به الكتابة إلى بر آمن.. شخصيًا أعتقد أن النقد في معظمه أداة لم تحاول أن تتقدم بتقدم الكتابة، وأيضًا يعتمد على التذوق الشخصي أكثر من اعتماده على قواعد ثابتة يتكئ عليها حين يتحدث عن كاتب أو نص، فنحن في الطب حين نعالج "الربو" أو مرض السكر، أو "الأزمة القلبية" مثلاً، نتكئ على تلك القواعد المدروسة والموضوعة سلفًا، وبالتالي تأتي النتيجة بناء على ما تقوله القاعدة، وقد كتب كثيرون عن أعمالي، لكن لم أجد سوى عدد قليل استطاع أن يغوص إلى لحم النص ويضيئه.

وأيضًا حظيت بعض الأعمال التي لا أعتبرها مهمة بما لم تحظ به أعمال مهمة كرواية "مهر الصياح" مثلاً التي لم تكتب عنها سوى دراسات قليلة مقارنة بحجمها وموضوعها، بينما "صائد اليرقات"، كتبت عنها مئات الدراسات والقراءات وهي من الأعمال البسيطة عندي، وكتبتها في فترة وجيزة مقارنة بـ"مهر الصياح" و"توترات القبطي"، و"رعشات الجنوب"، لكن في النهاية يظل الإبداع موجودًا حتى لو لم يحتفِ به النقد، حتى لو شاهده عاريًا ولم يكسِه، وفي هذا الزمن ومع اتساع نطاق التقنية، وانتشارها المريع، أصبح القراء وحدهم من يستطيع أن يعول عليهم الكاتب في انتشار نصه، حيث منتديات القراءة المتعددة على الإنترنت، وعلى الواقع أندية للقراءة، تستقطب الشباب، الذين يناقشون الكتب، ويحتفون بالكاتب والكتابة، بطريقتهم".

ويخلص تاج السر إلى قوله: "ما دمنا نتحدث عن الكتابة، فلا بد أن تذكر الجوائز، ومعروف أنها انتشرت بكثرة في الوطن العربي مؤخرًا، وأصبح لبعضها صيت واسع يغري كل من يكتب حرفًا بالمشاركة. نعم الجوائز جيدة وكثرتها لا تؤذي كثيرًا على الرغم من أنها تداعب خيالات الجميع وينتج عن ذلك أدب متعجل عسى ولعل. هي في النهاية مكافأة لمن يستحق، وتقدير للكتابة، ولو انعتقت من التذوق الشخصي للمحكمين، واعتمدت على الاستحقاق فقط، لفرحنا بها أكثر.

وأخيرًا أقول: "الكتابة في النهاية قدر، والذي ابتلى بها يسير على الدرب مهما كانت ظروفه وانشغالاته، وهذا ما يحدث معي".