عندما خرجت يوم الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣ من منزلى خلف الكلية الحربية إلى الشارع وجدته مكتظا بالناس وصرت مشاركا فى طوفان بشرى ضخم يتحرك صوب قصر الاتحادية ، لا يرى المرء لا بدايته او نهايته.. وكان المشاركون فى هذا الطرفان البشرى رغم اختلاف أعمارهم وجنسهم وانتماءاتهم الاجتماعية والدينية وأيضاً السياسية يجمع بينهم أمر واحد هو إصرارهم على استعادة الوطن الذى خشوا ان يسلب منهم والدفاع عن هوية مصر التى تعرضت للاستغلال والتشويه الممنهج من قبل الإخوان الذين انشغلوا فى عجلة من أمرهم لأخونة المجتمع المصرى ومؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية.. ولذلك كان لافتا للانتباه أنهم رفعوا جميعا العلم المصرى خفاقا، وأجمعوا على هتاف رئيسى هو هتاف يسقط حكم المرشد.. بينما كانت المحلات على جانبى الطريق والسيارات تذيع تسجيلا لشادية التى تغنى فيه ياحبيبتى يامصر.
وهكذا لم ينتفض المصريون قبل أحد عشر عاما مضت لأنهم ضاقوا ذرعا بفشل حكم واستبداده وتطرفه أو للخلاص من أزمات معيشية حادة عانوا منها، وإنما انتفضوا حينما خشوا أن يسرق وطنهم منهم ولكى يحبطوا مخطط أخونته وتشويه هويته المميزة بين الأمم وعلى مدى آلاف من السنوات والعديد من القرون.. فإن مصر لأنها عريقة جدا تكونت لها هوية خاصة من تفاعل المكان الجغرافي مع التاريخ الطويل الحافل، ، تحدد نمط الحياة لأبنائها، وتصوغ ثقافة وفكر وقيم شعبها.. وعندما وصل الإخوان فى غفلة منا إلى حكم البلاد بدأوا عملا ممنهجا ومنظما لتشويه الهوية الوطنية المصرية، وهو يحدد الأهداف القديمة جدا لجماعتهم منذ أن تاسست فى أواخر العقد الثالث من القرن التاسع عشر.. وهم لم يخفوا ذلك ، بل جاهروا به ودعوا إليه، بل وسعوا لفرضه.
قسرا على المجتمع المصرى، تراكمت خلال التحالف مع البريطانيين ثم مع الأمريكان الذين ورثوا دورهم العالمى بعد الحرب العالمية ألثانية،، ومن خلال أيضا التحالف مع القصر وبعض حكومات الأقلية، وكذلك من خلال فرض الوصاية على حركة الضباط الأحرار لفرض إرادتهم السياسية، وهو مارفضه عبدالناصر فانقلبوا عليه وحاولوا اغتياله أكثر من مرة.
وفى عام ٢٠١٢ وجد الإخوان أن الفرصة مواتية لهم لفرض إرادتهم علينا وسلبنا هويتنا الوطنية.. ويمكن رصد أكثر من سبب لذلك من بينها حالة التشرزم التى أصابت القوى المدنية خاصة الاسبانية منها، والاختراقات التى نجح فيها الإخوان على مدى سنوات سابقة للقوى والمنظمات المدنية والأحزاب السياسية، ونجاحهم أيضا فى خداع أعداد كبيرة من عموم المصريين بعد أن أخفوا وجههم الكريه وارتدوا أقنعة الطيبة والتقوى، وبعد ايضا ان برعوا فى شراء اصوات الناخبين بالبطاطس والزيت والسكر وأنابيب البوتاجاز!..
غير ان أهم الأسباب التى مكنت الإخوان من حكم البلاد، وأتاحت لهم فرصة العمر لتشويه الهوية الوطنية المصرية وأخونة مجتمعنا كان دعم الأمريكان والغرب لهم فى هذا الصدد والذى حصلوا عليه بعد ان تعهدوا للأمريكان بالحفاظ على المصالح الأمريكية فى المنطق.
لذلك عندما ظفر الإخوان بالحكم وجدوا أن الفرصة قد اتيحت لهم لاستلاب الدولة الوطنية وتشويه الهوية المصرية.. فهم لهم هدف قديم من عمر جماعتهم هو إحياء دولة الخلافة الإسلامية، ولا يهمهم مصر كوطن له شخصيته المميزة والفريدة، أو كما قال مرشد سابق لهم لا يهمهم من يحكمها طالما كانت تحت سيطرتهم.. لذلك منذ اليوم الأول لهم فى الحكم وهم معنيون أساسا لأخونة هذا البلد ، وفى محاكمته فى قضية اختراق الحدود واقتحام السجون التى تابعت كل جلساتها من قاعة المحكمة، أبدى مرسى ندمه لعدم إسراعهم فى اخونة المجتمع المصرى، رغم انهم لجأوا إلى ممارسة العنف فى مواجهة المعترضين على الإعلان الدستورى الذى أصدره مرسى فى نوفمبر ٢٠١٢ ومنح نفسه فيه سلطات شبه الهية بحظر الطعن قضائيا على ما سبق وما يلحق من قراراته!
هنا شعر المصريون بالخطر وتذكروا الطبيعة المتطرفة والإرهابية لهذه الجماعة التى أنشأت تنظيما مسلحا خاصا مبكرا للقيام بالتفجيرات والاغتيالات، فانتفضوا دفاعا عن وطنهم أو بالأصح لاستعادة وطنهم الذى سرقه الإخوان منهم.. وثمة مشاهد تنطق بذلك سبقت تلك الانتفاضة، مثل مشهد اعتصام المثقفين والفنانين امام وزارة الثقافة لطرد وزير الثقافة الإخوانى، ومثل أيضا مشهد منع أهل الأقصر محافظها الإرهابى السابق من دخول مقر المحافظة وإجباره على العودة من حيث أتى، ومنها كذلك الدعم الشعبى التى ظفرت به حركة تمرد التى طالبت بانتخابات رئاسية مبكرة.
ولقد نجحت انتفاضة المصريين فى يونيو فى استعادة مصر الوطن وحماية هويتها الوطنية من التشويه غير اننا يجب أن ندرك أن معركة الهوية الوطنية لم تنته بعد وأننا علينا ان نستمر فى خوضها بكل قوة فى مواجهة متطرفين مازالوا بيننا يبثون سموم التطرّف فى مجتمعنا.
لقد كانت معركة الهوية الوطنية عام ٢٠١٣ ذات طابع سياسى لأنها اقتضت التخلص أولا من حكم الإخوان، لكن هذه المعركة الآن صارت ذات طابع ثقافى وفكرى واجتماعي.. فنحن فى أمس الحاجة لحماية هويتنا الوطنية من المتربصين بها.. وعلينا ألا ننسى أن الإخوان رغم التصفية التنظيمية لجماعتهم فى الداخل ما برحوا يملكون تنظيما دوليا امواله غزيرة وإعلامه نشط، فضلا عن ان الفكر السلفى المتطرف والمتشدد اخترق عقل المجتمع ويمكن للإخوان استغلال ذلك كما فعلوا من قبل.