في زمن كان فيه الصراع بين التقليد والتجديد على أشده، وقف في الوسط، يمد جسورًا بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، فهو أحد دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي ورمزًا للتجديد في الفقه الإسلامي، إنه الشيخ محمد عبده، الذي يُعد واحدًا من أهم المفكرين والمصلحين في العالم الإسلامي، وأحد أبرزالشخصيات المصرية التي رسمت مسارًا فكريًا فريدًا جمع بين الأصالة والحداثة، تحدى الجمود الفكري وسعى لإيقاظ العقل العربي من سباته الطويل، فله موسعاته الأدبية التي أثرت المكتبة العربية، والتي كان لها دور في زيادة الوعي وتوسيع الأفق، كما كان مؤمنا أن الإسلام لا يتعارض مع العلم والتقدم، بل يحث عليهما.
نشأته وتعليمه
اسمه محمد بن عبده بن حسن خير الله، ولد عام 1849م في قرية صغيرة وهي محلة نصر، بمركز شبراخيت في محافظة البحيرة، من أبوين فقيرين، لأب يعمل في الفلاحة وقد أدخل فيها أولاده إلا "محمدًا" لأنه توسم فيه الذكاء فأراد أن يجعله فقيهًا من الفقهاء فأدخله كُتّاب القرية تردد إليه حينا ثم أرسله إلى الجامع الأحمدي في طنطا أقام فيه ثلاث سنوات ثم نقله إلى الجامع الأزهر فقضى فيه عامين، وخلال فترة تعليمه لم يستطع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية وهو ينسب ذلك بالأكثر إلى فساد طريقة التعليم.
كان للشيخ درويش خضر "خال أبيه" الأثر الأكبر في تغيير مجرى حياة محمد عبده نحو التعليم حتى انتبه "محمد" لنفسه ولم ير بدًّا من تلقي العلم فاستنبط لنفسه أسلوبا في المطالعة وأعمل فكرته في تفهم ما يقرأه فاستلذَّ العلم واستغرق في طلبه فأحرز منه جانبا كبيرًا على ما يستطاع ادراكه بتلك الطريقة.
تأثره بالشيخ جمال الدين الأفغاني
تأثَّر الشيخ "محمد عبده" في حياته بالشيخ جمال الدين الأفغاني، حيث التقى به سنة 1871 وتتلمذ على يديه، ولازم حلقات دروسه، وعلمه الفلسفة والمنطق، فخرج مع زملائه لا يشق لهم غبار كأن الرجل نفخ فيهم من روحه ففتحوا أعينهم وإذا هم في ظلمة وقد جاءهم النور فاقتبسوا منه فضلاً عن العلم والفلسفة روحا حية أرتهم حالهم كما هي إذ مزقت عن عقولهم حب الأوهام فنشطوا للعمل في الكتابة فأنشأوا الفصول الأدبية والحكمية والدينية.
كما ألصق "الأفغاني" الجميع به وأقربهم إلى طبعه وأقدرهم على مباراته، فلما قضى على جمال الدين الأفغاني بالإبعاد خارج البلاد، قال يوم وداعه لبعض خاصته "قد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر علمًا".
موقفه من الثورة العرابية ونفيه
اشترك الشيخ محمد عبده في الثورة العرابية مع أحمد عرابي ضد الإنجليز، على رغم من أنه كان في البداية مترددًا، ونصح بعدم الانخراط فيها، وأنذر بسوء العاقبة، نظرًا لأنه كان صاحب توجه إصلاحى يفضل الحوار ويرفض التصادم، إلا أنه انضم إليها في نهاية الأمر، وسيق الناس بتيار الثورة وهم لا يعلمون مصيرهم، وبعد فشل الثورة ودخول الإنجليز مصر، ألقي القبض على الشيخ محمد عبده في جملة الذين تم القبض عليهم وحوكموا؛ فُحكم عليه بالسجن، ثم بعد ذلك بالنفي خارج البلاد بسبب فتواه بعزل الخديو توفيق باشا.
اختار الشيخ محمد عبده النفي إلى سوريا، حيث قضى نحو 6 سنوات، أثرت إقامته هناك أهلها الذين اغتنموا فرصة تواجده بينهم وعهدوا إليه بالتدريس في إحدى مدراسهم،بعد ذلك انتقل إلى باريس بدعوة من أستاذه وصديقه الشيخ جمال الدين الأفغاتي عام 1884، حيث ساهما معًافي تأسيس صحيفة "العروة الوثقى" التي حققت شهرة واسعة في العالم الإسلامي، غادر من باريس إلى بيروت في عام 1885، وفي هذا العام أيضًا أسس جمعية سرية بنفس الاسم، "العروة الوثقى".
عودته لمصر
عاد محمد عبده إلى مصر بعفو من الخديو توفيق، بفضل وساطة تلميذه سعد زغلول وإلحاح نازلي فاضل على اللورد كرومر لإصدار العفو عنه، ويأمر الخديو أن يصدر العفو وقد كان، وقد اشترط عليه كرومر ألا يعمل بالسياسة فقبل، وعين بعد ذلك مستشارًا في محكمة الاستئناف عام 1891، وأصبح عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وفي النهاية تقلد مفتيا الديار المصرية في عام 1899، كأول مفتي مستقل لمصر معين من قبل الخديو عباس حلمي.
مؤلفاته
ومن أبرز مؤلفاته: كتاب "رسالة التوحيد"، وشروح معاني "البصائر القصيرية للطوسي"، وتفسيرات "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" للجرجاني، كما كتب عن "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" ردًا على إرنست رينان في عام 1902م، وألَّف "تقرير إصلاح المحاكم الشرعية" في عام 1899م، وشرح "نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب، بالإضافة إلى "العروة الوثقى" التي أسّسها مع جمال الدين الأفغاني، وشرح "مقامات بديع الزمان الهمذاني".
الوفاة
توفي الشيخ محمد عبده في مدينة الإسكندرية، في تمام الساعة الخامسة مساء يوم 11 يوليو 1905م، بعد معاناة مع مرض السرطان عن عمر يناهز الـ 56عامًا، وتم دفنه في القاهرة، ونعاه العديد من كبار الشعراء والأدباء.