الأربعاء 17 يوليو 2024

فن النغم .. نبض الوطن

مقالات11-7-2024 | 15:16

ثورة 1952 لا تمثل مرحلة انتقالية للأوضاع السياسية فقط في مصر، وإنما كان لتلك الثورة انعكاساتها الاجتماعية والثقافية على المجتمع، فبعد أن كانت مصر تخضع لحكم الملكية جاءت تلك الثورة كمحرك سياسي ونقطة مفصلية من خلال الضباط الأحرار لتنتقل مصر من الملكية إلى الجمهورية، ‏وفي هذه الأثناء تشكل المجتمع المصري من جديد وتأثر الفن المصري بهذا الحراك الكبير، وتشكلت الموسيقى والغناء عقب هذه الثورة لتصاحب الأحداث السياسية التى استتبعتها. وسوف نرصد فى عجالة كيف كان الغناء محركاً للأحداث السياسية، وكذلك الموسيقى القومية باعتبارها رافداً مهماً بلغة يفهمها الغرب، وتعكس مدى التمسك بالهوية الفنية والثقافية للدولة المصرية.

مراحل تاريخية قبل الثورة

فى مطلع القرن التاسع عشر ظهرت بواكير النهضة الثقافية التى رافقت بوادر النهضة القومية وما أعقبها من انتعاش على المستويات كافة، حيث تعرف المصريون على الموسيقى الغربية منذ عصر محمد علي باشا حينما أنشأ مدرسة للموسيقى العسكرية باعتبارها جزءا من الاستراتيجية التي وضعها لتكوين الجيش المصري الحديث ‏ومن خلال مدارس الموسيقى التي أنشأها محمد علي بدأ المصريون أصحاب الثقافات المحدودة من المجندين تلقي قراءة بنوتة والعسل على بعض الآلات الموسيقية وخاصة الآلات النحاسية، من خلال استقدام الخبراء والمدرسين الأجانب لإحداث تقدم موسيقى وغنائى تستشعره القاعدة العريضة من الجمهور، وظلت النظريات الموسيقية فى هذه الأثناء متأثرة بالذوق التركى، وتحتفظ بسمات وقوالب سادت لفترة من الزمن نظراً لخضوع مصر تحت مظلة الحكم العثمانى آنذاك، وكان الطرب والغناء أقرب الفنون إلى الذائقة المصرية. إلا أن منتصف القرن التاسع عشر كان بمثابة إعلان الرفض وعدم الاستسلام للسيطرة التركية على فن النغم على يد محمد عثمان، وعبده الحامولى، وعبدالرحيم المسلوب، وبدأت محاولات التملص والتقلص لاستخدام الآلات الموسيقية والقوالب البنائية والضروب الإيقاعية والمقامات التركية والاستعاضة عنها بكل ما يحمل الهوية المصرية ونفض التبعية الاستعمارية حتى على مستوى الفنون، فى محاولة للاستقلال التام وغرس أسس لمدرسة موسيقية مصرية رصينة. 

الأوبرا الخديوية

وكان لإنشاء دار الأوبرا الخديوية عام 1869 فى عهد الخديو إسماعيل من أجل الاحتفال بافتتاح قناة السويس كحدث عالمى يربط الشرق بالغرب، وما لهذه الأوبرا من مكانة فريدة فى المنطقة ككل، حيث كانت رافداً وجسراً مهماً لاطلاع صفوة المجتمع والمتخصصين على أشكال فنية مغايرة عن طريق جلب واستقدام الفرق الموسيقية العالمية والأوركسترات وأعمال الأوبرا والباليه، ما كان له دور رئيس فى انتشار الموسيقى الأوروبية فى مصر، ‏إلا أنها ظلت بالنسبة للعامة لا تمثل ملمحاً ثقافياً بارزاً بل ظل الغناء هو المعبر الحقيقي عن الهوية الثقافية المصرية وذائقتها، ولكن تسربت للأذهان طبيعة هذه الموسيقى وألحانها التى تعتمد على البوليفونية وتعدد التصويت الذى يخالف ما كان سائداً من قبل على طبيعة الموسيقى الشرقية بصفة عامة من مونوفونية وهوموفونية، مما كان له أكبر الأثر على محاولة التخلص من القيود الرصينة المتبعة وبزوغ موسيقى تعبر عن الهوية المصرية مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والذى شهد ميلاد الشيخ سيد درويش الذى أحدث نقلة نوعية تمثل ثورة موسيقية رافقت الثورة السياسية في عام 1919 كان لها دور مهم في تغيير شكل الطابع الموسيقي المسيطر إبان القرن الذى سبقه، ‏فكان لسيد درويش الدور والأثر العظيم ‏على موسيقيين جيله والأجيال التالية، ‏فهو نقطة انطلاق واعية مستنيرة في تطور الموسيقى المصرية والعربية على مستوى الشكل والمضمون.

‏المسرح الغنائى

كما كان لأشكال الفرق التى استقدمت فى دار الأوبرا أثرها على الإفصاح عن أشكال غنائية جديدة، تمثلت فى الاعتماد على خشبة المسرح كركيزة أساسية لتقابل الجمهور مع الفنان باستخدام المسرح أبي الفنون وانطلاق حركة المسرح الغنائي على يد سلامة حجازي ومنيرة المهدية ثم سيد درويش المجدد الذى استطاع بوعيه المتزايد ‏أن يعبر عن أحداث المجتمع وتحولاته وأن ينقل طابع الموسيقى المونوفونية ذات الخط اللحنى الواحد نحو البوليفونية بتعددية تصويتها والتي بدت في أعماله المسرحية (الأوبريتات).

‏قامات موسيقية .. وإذاعة مصرية

وحين نتحدث عن عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم نجدها تركض نحو رسم أطر جديدة لشكل الموسيقى العربية عامة والمصرية خاصة التى لم تعد تتحمل القيود والقوالب الموسيقية، حيث تمرد كبار الموسيقيون المصريون على هذه الأشكال السائدة حتى وإن ظلت تحتفظ بالنمط القديم نسبياً، حيث تغلبوا على كل الثوابت الراسخة واقتبسوا بعضاً من النماذج الغربية كالمونولوج، والديالوج وغيرها التى ظهرت فى المسرح الغنائى، ولم يحدث التمرد فجائياً بل جاء بشكل تدريجى، حيث عدم القدرة على الانسلاخ من التراث بشكل قاطع، وإنما وضعت اللبنات الأولى لمدرسة المجددين على يد الشيخ سيد درويش كما سبق وأشرنا، وأيضاً محمد القصبجى، فبزغت بعض التحولات التى باتت ترتسم قواعد جديدة تتحرر من القديم وتشكل الذوق الجمعى العام بالمقطوعات الموسيقية ذات المضامين والأحاسيس التعبيرية كامتداد لمدرسة سيد درويش فى التطوير الموسيقى حين وضع عبدالوهاب موسيقى حرة لا تتقيد بقالب موسيقى معين، وأبقى على اسم المقطوعة الموسيقية باعتبارها لا تنحصر ضمن إطار شكلى ثابت، وصار الهدف هو التعبير عن موضوع أو موقف معين كبديل للصياغة الدقيقة للقولبة التركية المعتمدة على الصنعة ولا يمكن أن نغفل دور الإذاعة المصرية فى الثلاثينيات من القرن العشرين في دعم ونشر حركة التأليف الموسيقى والتلحين الغنائي المصري وكذا فتح آفاق على الموسيقى الغربية الكلاسيكية وتذوقها بالنسبة للعامة عبر أثير الإذاعة المصرية، وكان لكل هذا أن صارت موسيقانا ذات هوية ثقافية وفنية مصرية الطبع والطابع بعيداً عن جميع القوالب الصارمة والمحددة التى عملت على تقيد عملية الإبداع. وخلال هذه الأثناء وعبر التلاقح ذاته ‏أصبح المصري يجنح نحو سماع الموسيقى البحتة فما كان من واضعي الألحان للأغنيات أن وضعوا مقدمات طويلة تعبر عن الذائقة المصرية والعربية تستبق حالة الاندماج مع المطرب، وهو ما بات مغايراً على طبيعة الذوق العام لكنه تأثراً من هذا التلاقح الثقافى.

الغناء محرك سياسى

وكما يقال إن الفن يثور قبل الثورات الاجتماعية أحياناً، فقد كان لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الفضل فى الدفع بأغنية وطنية عام 1951 تعد إرهاصة حقيقية للثورة وهى "نشيد الحرية" التى قدمت أثناء عمليات الفدائيين، ومنعت سلطات الاحتلال إذاعتها إلى أن جاءت الثورة وأفرج عنها، وفى قمة حماس ثورة يوليو أطلق عبدالوهاب سلسلة من الأعمال الوطنية مثل "يا نسمة الحرية"، "الدنيا بقت حرية"، "زود جيش أوطانك" فى مرحلة الخمسينيات، كما شدت أم كلثوم بنشيد "مصر تتحدث عن نفسها"، "صوت الوطن" وغيرها، كما كان حليم صوت الثورة وتغنى بعدد كبير من الأغنيات منها "الله يا بلادنا الله"، "بستان الاشتراكية"، "صورة"، "إحنا الشعب". ومع جلاء آخر جندى للمحتل الإنجليزى عام 1956 تغنت كوكب الشرق بـ"أنشودة الجلاء" وعكست فرحة المصريين للتحرر من الاستعمار الأجنبى. ولم يهدأ النصف الثاني من القرن العشرين بل شهد تطورات سياسية كبيرة، فبعد أن صار حكم مصر للمصريين، أجج ذلك مشاعر الغضب لدى المعتدين الطامعين، وظلت الدولة المصرية تعانى آثار محاولات الاعتداء الغاشمة منذ العدوان الثلاثى على مصر عام 56، والتى شهدنا خلالها بسالة الجندى المصرى، والمواطن الحر الأصيل من أبناء المحروسة فى مدن القناة فى محاولة للصمود أمام الاعتداءات الاستعمارية الغاشمة لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل كرد فعل على تأميم قناة السويس، وكانت أيضاً الأغنيات الوطنية تشجب الاعتداء وتندد به، وتتهافت الكلمات لإعلاء راية الوطن، فالأغنية لدى المصريين بمثابة سلاح يلتف حوله الجميع، وتصل الرسائل للمعتدى فى إجماع وشمولية من الجماهير فيكون صداها أكثر تأثيراً، ولها وقع ضارب على رأس القوة الخارجية المعتدية. وخرج الغناء الشعبى من الفرق المنتشرة فى محافظات القناة.

انكسار يؤجج النصر

عقب ذلك كان نكسة 67 والتي انتهت بنكسة أصابت الجيش المصري والشعور الوطني لكن روح الفنان المصري لم يهدأ له بال، فكانت الأغنية خير رفيق للمجتمع الجريح، كما كانت محفزاً للجنود المنكوبين بالهزيمة النكراء، وزرعت فى نفوسهم الأمل بالنصر القريب، والتشجيع على رفع الروح المعنوية لديهم لاستعادة الكرامة بالانتصار، ولعب الغناء دوراً كبيراً في تأجج الروح الوطنية وإشعال حماس الجنود والمواطنين على حد سواء، فقد كان الفنان المصري الأصيل يشعر أنه مجند على الجبهة دوره لا يقل أهمية عن الجندي الذي حمل سلاح، ونجد أغنية "عدى النهار" على سبيل المثال واحدة من أجمل الأغنيات الوطنية التى تبرز مدى إيمان القائمين عليها بالنصر على العدو وعدم الاستسلام للهزيمة التى لحقت بنا، وكانت معادلاً حقيقياً لخطاب التنحى والاستسلام الظاهرى للزعيم، رغم ما يبطنه من قوة إرادة وعزيمة ورغبة فى دحض هذا الانكسار.

قسم شريف حتى استعدنا أرضنا

ولم ينته الدفاع عن أرض مصر فقد شهدت حرب الاستنزاف ظهور العديد من الأغنيات "فدائى"، "خلى السلاح صاحى"، و"مدد مدد شدى حيلك يا بلد"، وباتت أغنية "أحلف بسماها" قسم شريف يتغنى به العندليب فى جميع حفلاته حتى تحقق لنا النصر، وكانت خير معبر عن رجولة ووطنية تكتنف هذا القسم المجازى. كما كان للمطربين دور مهم فى دعم الجيش المصرى ببسالة ومؤازرة للجيش المصرى العظيم، إلى أن تحقق النصر المبين فى حرب 73، وخرجت الصيحة عالية بأغنية "باسم الله الله أكبر"، أما الأغنية القصصية التى ترصد وتحكى تفاصيل الأحداث وتجسد تفاصيله وكأنها تقص للأجيال ما حدث كانت شاهدة أيضاً على مراحل زمنية، "عاش اللى قال الرجال عدوا القناة"، وبعد استرداد أرض سيناء الحبيبة كاملة عام 1982، كانت أغنية "مصر اليوم فى عيد" من أقوى ما عبر عن هذا الشعور الجمعى المبهج باستعادة كامل أرضنا المغتصبة، وكلماتها كانت مدللة على فرحة الحدث "سيناء رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى عيد، حقنا عاد بين إيدينا بالتمام، واحنا هنصونه بعنينا ع الدوام".

‏الموسيقى المصرية القومية

ومن محاسن تلك الثورة تولى المصريون مقاليد البلاد لأول مرة منذ آلاف السنين، فقد بدأ دور الثقافة والفن من الإرهاصة إلى مصاحبة الثورة وحمل لوائها، ‏وبعد نجاحها تولى حقيبة وزارة المعارف والإرشاد القومي الدكتور ثروت عكاشة أحد الضباط الأحرار، وكان لتوليه هذه المسئولية ‏أكبر الأثر على دعم الحركة الفنية والثقافية فى مصر، حيث أنشأ أكاديمية الفنون التي تضم معهد الكونسيرفتوار، وبدأ تعلم الموسيقى الغربية على يد مجموعة من الخبراء الأجانب، وكذلك تحويل أوركسترا الإذاعة المصرية إلى أوركسترا القاهرة السيمفوني ‏فظهر عدد من المؤلفين الموسيقيين الذين تلقوا تعليماً موسيقياً جاداً، وكانت تلك المدرسة ترتكن إلى القومية بمفهومها الحقيقي أمثال يوسف إدريس وحسن رشيد وأبو بكر خيرت باعتبارهم الجيل الأول من المؤلفين، وإن كان هؤلاء تلقوا تعليمهم قبل الكونسيرفتوار، إلا أنهم كانوا النواة الأولى لجيل من المؤلفين الدارسين لأصول الكتابة الأوركسترالية الغربية، ودراسة التأليف الموسيقى بقواعده.

وقد تلا هذا الجيل ظهور الجيل الثانى من المؤلفين المصريين القوميين مثل عزيز الشوان وعلي إسماعيل وجمال عبدالرحيم ورفعت جرانة وعطية شرارة وحليم الضبع وعبدالحليم نويرة وغيرهم، والذين أثروا الحياة الموسيقية بالعديد من المؤلفات التى تعبر عن انتمائهم الشديد، وكذلك مؤلفاتهم التى تعكس ارتباطهم بالأحداث التى تمر بها مصر. أما الجيل الثالث فينتمي له كل من جمال سلامة وأحمد الصعيدي وراجح داوود ومونا غنيم ونادر عباسي وآخرين، وقد تلقوا تعليمهم فى مصر واستكملوا فى الخارج ليصبح لدينا جيلاً قادراً على تخريج أجيال جديدة من المؤلفين الشبان القوميين.

ختاماً

فن النغم بموسيقاه وغنائه روح نابضة تلقى بظلالها على أى من الأحداث أو الظروف لتعطيها دفعة للاستمرار وشحذ الهمم، ولا يمكن أن ينفصل النغم عن تلك الأحداث التى يمر بها الوطن، فهى تنبض بحيوية ودفء، بل وبإخلاص شديد لنتجنب الشدائد والمحن، ونعبر تلك الأزمات ببطولات إنسانية وفنية تظل تنبض باسم الوطن.