تقول إحدى الحكايات العربية القديمة إنه:
كان يا ما كان في سالف العصر وقديم الزمان أن أميرا أراد أن يكرم عالما كبيرا، فدعاه إلى الإقامة في قصره، ليستفيد من علمه وينهل من شعره، ولم يشأ العالم الكبير، أن يرفض دعوة الأمير، ولكن طلب منه أن يرسل له أربعين من الإبل والبغال والحمير، ولما سأله الأمير عن سر طلبه، أجابه أن الإبل والبغال والحمير ليست له، ولكن لحمل بعض كتبه ومراجعه ومجلداته ومعاجمه التي لن يستطيع الاستغناء عنها أثناء إقامته عند الأمير، فطلب الأمير من الوزير تنفيذ رغبة العالم الكبير.
تُرى لو بُعِثَ هذا العالم الأديب الآن من قبره، وشاهد بأم عينه، التطور التكنولوجي والإلكتروني الهائل الذي يعيشه أحفاده من العلماء والأدباء، بل يعيشه الإنسان العادي، إنسان القرن الحادي والعشرين، تُرى ماذا يفعل وماذا يقول في التوِّ والحين؟
أعتقد أن أول شيء سيفعله هذا العالم الأديب هو محاولة التعلم والتدرب على أجهزة الحاسبات الآلية، ومعرفة كيفية الدخول أو الاشتراك في شبكة الإنترنت العالمية، وإذا طلب منه أحد أمراء العصر أن يستضيفه في القصر، مثلما فعل الأمير القديم، لذهب إليه ومعه حقيبة صغيرة جدا، بها كل كتبه ومراجعه ومجلداته ومعاجمه المخزنة على أقراص الحاسب الآلي، أو على كارت ذاكرة متنقلة (أو فلاش ميموري) والتي يستطيع تشغيلها أو استعراضها من خلال أجهزة الكمبيوتر الموجودة بلا شك في قصر هذا الأمير الذي يقدر العلم والعلماء، ويكرم الأدب والأدباء. أما إذا كانت هذه الكتب والمراجع والمجلدات والمعاجم موجودة على شبكة الإنترنت من خلال المكتبات الإلكترونية، فلن يحمل معه هذا العالم سوى حقيبة ملابسه فقط.
لا شك أننا نعيش الآن لحظات فارقة بين عصرين من عصور النشر، هما النشر الورقي والنشر الإلكتروني، تماما مثلما عاشت البشرية تلك اللحظات الفاصلة عندما اخترع يوهان جوتنبرج حروف الطباعة في عام 1465م، فتحقق لعالم النشر قفزةٌ نوعيةٌ هائلة وصفها مارتن لوثر -مؤسس المذهب البروتستانتي- بأنها "أسمى فضائل الرب على عباده"، واستفاد منها المجتمع الإنساني طوال القرون السابقة، ولا يزال يستفيد.
الآن يعيش إنسان هذا العصر نقلة نوعية أخرى على مستوى الوسيلة التي ربما تؤثر في المضمون، وفي شكل طريقة الكتابة أيضا.
وقد استفاد الأدباء والناشرون من تقنيات العصر، ومن وسائل الاتصال والمعلومات، ومن عالم البرمجيات، فاقتحموا فضاء المعلوماتية، وحلقوا في سماء الصفحات الإلكترونية والشرائح الممغنطة، وأقراص الليزر، ووضعوا مكتنزاتهم ومجلداتهم على تلك الشرائح الرقيقة وطرحوها في الأسواق، أو عبر الأثير من خلال شبكة الإنترنت، فحدث تضخمٌ هائل وغير مسبوق بل يعجز العقل البشري عن التوصل إلى تقدير حجمه الآن، ولعل هذا يرجع إلى أن المعلومات "تعد المورد الإنساني الوحيد الذي لا يتناقص بل ينمو مع زيادة استهلاكه"، على حد تعبير الدكتور نبيل علي في أحدث كتبه "الثقافة العربية وعصر المعلومات، ص 48".
ويقول بيل جيتس -مؤسس شركة مايكروسوفت- في كتابه "المعلوماتية بعد الإنترنت ـ طريق المستقبل": -الذي قام بترجمته عبدالسلام رضوان- إن الطريق السريع للمعلومات سوف يحول ثقافتنا بالقدر ذاته من العمق واتساع المدى الذي اتسم به التحول الذي أحدثته مطبعة جوتنبرج في العصر الوسيط. ويضيف: أن الأشياء تتحرك بدرجة من السرعة يصبح من العسير معها إمضاء الكثير من الوقت في النظر إلى الوراء. وأن التكنولوجيا لن تنتظر حتى يصبح الناس متهيئين لها، على الرغم من أنها هي الخادم وليست السيد. وعلى الرغم من ذلك فإن الناس يريدون أن يفهموا كيف ستجعل هذه التكنولوجيا المستقبل مختلفا، وهل ستجعل حياتنا أفضل أم أسوأ؟ غير أن إيقاع التغير التكنولوجي هو من السرعة بحيث يبدو في بعض الأحيان أن العالَم سيكون مختلفا تماما من يوم لآخر. وأن التكنولوجيا هي التي ستمكن المجتمع من اتخاذ قرار سياسي، لذا فإن الأمر يستحق بذل الجهد من أجل تأسيس علاقة ألفة مع أجهزة الكمبيوتر".
ولعلنا الآن نطرح التساؤل الذي طرحته من قبل الكاتبة المصرية أماني أحمد أمين في قولها: "أينجح حقا الكتاب الإلكتروني في أن يأخذ مكان الكتاب التقليدي في عالم متغير بهذه السرعة؟ إن الحاسب الآلي وشبكة المعلومات وكل ما يتصل بهما من برمجيات وتقنية حديثة تنفرد ببعد رابع خاص بها. فهو يفوق في سرعته كل المقاييس الزمنية المعروفة. وأحدث حاسب تشتريه اليوم من السوق، يخلفه في غضون ستة شهور جيل جديد من الأجهزة والبرمجيات تحيله إلى المعاش. فإذا افترضنا مثلا أن الرواية الجيدة تحتاج إلى عامين من الإعداد لتأخذ سبيلها إلى النشر، يصبح أديبنا الإلكتروني بالمقاييس الزمنية للتقنية الحديثة كالأديب الذي يكتب رواية ثم ينتظر خمسين عاما قبل أن ينشرها".
وفي خطوة متقدمة على مسألة النشر الإلكتروني وعلاقته بالرقمنة، نلفت إلى موضوع الذكاء الاصطناعي، فقد دخلتْ تطبيقات وبرامج الذكاء الاصطناعي artificial intelligence (AI) في مجالات حياتنا المختلفة؛ وأصبحنا نقرأ في كل يوم؛ بل كل ساعة عن تطبيق جديد يثير الدهشةَ والعَجَب. مثل تطبيق الهولوجرام على أغاني المطربين والمطربات؛ والمدعوم بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، فنشاهد على الشاشات أو في عمق المسرح حفلاتٍ غنائية تحييها أم كلثوم أو عبدالحليم وكأنهما عادا إلى الحياة مرة أخرى. وغيرها من التطبيقات.
وقد تزايدت المخاوف بخصوص تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتداعياتها المحتملة على العالم، لا سيما أنها تغلغلتْ في جوانب حياتنا المختلفة، وأثَّرت على وظائفنا، والطريقة التي يُدار بها التعليم، والأهم أنها بدأت تتركُ أثرًا واضحًا على علاقاتنا الاجتماعية. وقد أوضح بعض المهتمين بأن كل ما ذُكر من فوائد للذكاء الاصطناعي ليس إلا غيضًا من فيض لما يُمكن لهذه التكنولوجيا أن تقدمه. وأن هناك مستقبلا مشرقًا للبشرية في هذا المجال. ورأى البعض أنه ربما يكون الذكاء الاصطناعي آخر تقنية يبتكرُها البشر.
ولكن بيل غيتس في مداخلة له مع أحد برامج البودكاست، أشار إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تستطيع اليوم أن تؤدي "الوظائف نيابة عن الأشخاص"، لكن يمكن للموظفين الاستعانة بها كأداة لتعزيز إنتاجيتهم.
الكثيرون يتحدثون الآن عن برنامج أو روبوت الذكاء الاصطناعي التوليدي للدردشة (تشات جي بي تي) الذي يمكنه المشاركة في الكتابة والتأليف، في وقت يتعاظم فيه الجدل حول عجزه عن تصحيح أخطائه، لكن ذلك لم يمنع موقع شهير مثل أمازون من النشر عبر إحدى منصاته لكتب جرت الاستعانة في إنجازها بهذا البرنامج الشهير.
هناك كتيب يحمل عنوان "كيفية تأليف كتب باستخدام تشات جي بي تي" تؤكد أن هذا البرنامج "يساعد على توليد تسلسل زمني مفصّل لحياة شخصية ما، والتطرق إلى أحداث مهمة أثّرت على تطوّر هذه الشخصية، بالإضافة إلى عرض معلومات وخلفيات تعطي عمقًا وتماسكًا للنص".
والمتأمل في هذا الكتاب الذي أُنتج عبر "كيندل دايركت بابليشينغ" عام 2023 سيدرك أنه أُنجز أيضا بمساعدة الذكاء الاصطناعي. ومن خلاله يمكن للأشخاص أن يطلبوا من "تشات جي بي تي" أن يكتب سيناريو نمطيا، ثم أجزاء من كتب يرتّبها وراء بعضها البعض.
ويرى البعض أن هذا البرنامج إيجابي جدا وينتج نصوصًا قصيرة. لكنه لا يزال بعيدا جدا عن الابتكار اللازم لكتابة "هاري بوتر جديد" مثلا أو ملحمة "حرافيش" جديدة. إن عدد الكتب التي يمكن أن ينتجها مثل هذا البرنامج تصل إلى ثلاثة كتب في اليوم الواحد.
ويسارع أحد المواقع الشهيرة في الترويج لمثل هذه النوعية من الكتب -وهو مكتبة أمازون- إلى اتخاذ إجراءات ضد ظاهرة هذه الكتب. وقال ناطق باسم الفرع الفرنسي لأمازون، في حديث إلى وكالة الأنباء الفرنسية (فرانس برس): "بدأنا في العام الماضي نطلب من جميع الناشرين الذين يستخدمون منصة كيندل دايركت بابليشينغ الإشارة إلى أنّ عملهم مولّد باستخدام الذكاء الاصطناعي، وخفّضنا العدد الإجمالي للكتب المُتاح نشرها يوميا". قالت أمازون: إنها تمنع المؤلف من إصدار أكثر من ثلاثة كتب يوميا، وهذا العدد أصلاً كبير".
وتقول أمازون إنها تتتبّع الأنواع التي يكون القسم الأكبر فيها مولّدا بواسطة "تشات جي بي تي"، كملخصات روايات أو أعمال تستند إلى كتب منشورة.
ومع ذلك باتت النصوص الإبداعية الحديثة تساير التطورات التقنية وتتفاعل معها بشكل كبير، إذ استطاع الذكاء الاصطناعي أن يشارك الإنسان فعل الكتابة الإبداعية شعرًا وسردًا، تأكيدًا على أن أدب الذكاء الاصطناعي يختصر مسافات كبيرة من الوعي الثقافي والعلمي والتجريبي الذي مرَّ بالمؤلف الإنسان.
بعض الكتاب الأجانب الفائزين بجوائز بدأوا يعترفون بأن برنامج الذكاء الاصطناعي التوليدي يشاركهم في كتابة نصوصهم الإبداعية إذ اعترفت الكاتبة اليابانية ري كودان في يناير 2024، على هامش حصولها على أرقى جائزة أدبية في اليابان، بأن برنامج الذكاء الاصطناعي التوليدي تولّى كتابة نحو 5 في المئة من روايتها ذات المناخ المستقبلي، معتبرة أنه ساعدها على إظهار قدراتها في مجال التأليف.
إن المبدأ الرئيسي للذكاء الاصطناعي هو أن يحاكي ويتخطى الطريقة التي يستوعب ويتفاعل بها البشر مع العالم من حولنا. الأمر الذي أصبح سريعًا الركيزة الأساسية لتحقيق الابتكار.
إن الذكاء الاصطناعي أصبح مزودًا بأشكال عدة من التعلم الآلي التي تتعرف على أنماط البيانات بما يُمكّن من عمل التنبؤات، وعليه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكل إضافة قيمة إلى أعمال الكاتب من خلال توفير فهم أكثر شمولية لفيض البيانات المتوفرة بالاعتماد على التنبؤات من أجل أتمتة المهام ذات التعقيد الشديد فضلًا عن المهام المعتادة.
غير أن هناك الكثير من المخاطر جراء استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، منها: تبلُد الذهن الناتج عن كسل التفكير والخيال البشري، وضياع الهوية، والتنافس بين الدول في مجال الذكاء الاصطناعي وخاصة في مجال التسليح.
وقد استفدتُ من تقنية الذكاء الاصطناعي في روايتي "الحجر العاشق" (المعلوماتية والخيال العلمي في مواجهة الأسطورة والخرافة) حيث تخيلتُ أن الحجر زمرد الموجود في الخاتم الذهبي لعالمة الفيزياء الدكتورة منال عثمان، قد فاق وعيه وعي البشر، وأنه يحمل في مركزه الذي بحجم الدبوس شبكة أكبر وأوسع من شبكة الإنترنت، وعندما اكتشف العلماء ذلك أرادوا نسخ هذا المخ الحجري الذي يسع كل شيء في العالم منذ نشأته. لكن هذا الحجر -الذي شعر بإنسانيته العميقة أو المطلقة بعد أن عشق منال عثمان- قال للدكتورة منال التي أصبح اسمها منال الشال (نسبة لاسم عائلة جدتها لأمها عالمة الآثار فتحية الشال): "سينجحون في نسخ ما في دماغي من معلومات وبيانات، وسيحاولون تسريع تحقيق المستقبل، وتسريع عملية البحث العلمي، واختراق قوانين الفيزياء، ولكنهم لن يصلوا أبدًا إلى الوعي الجمالي الذي أنا وصلتُ إليه بفضلك دكتورة منال الشال، هذا الوعي الذي أعيشه وأنا في إصبعك وبجانبك، ويجمع بين مشاعر المحبة والخير والجمال، لن يجدوه حتى ولو نسخوا ملايين النسخ من دماغي".
كما تحدثتُ في كتابي "أدباء الإنترنت أدباء المستقبل" -عام 1996- عن برنامج ذكي يعرف باسم "الناقد الإلكتروني" يستفيد من مناهج ومدارس النقد مجتمعة، ويسعى إلى إقامة منهج نقدي علمي متكامل، باستخدام الحاسب الآلي، وإمكانات شبكة الإنترنت العالمية التي تستطيع أن تصل بسهولة إلى كل المراكز والمكتبات والبرامج والدوريات، فهي شبكة أخطبوطية عالمية تضرب في كل اتجاه للوصول إلى المراد والمطلوب في دقائق أو ثوان، وذلك عن طريق ما يعرف الآن باسم الذكاء الاصطناعي. ولما كان النقد الأدبي هو نقد جمالي إنساني يتطلب الذوق والذائقة في المقام الأول، فقد يقف هذا الأمر حجر عثرة في سبيل اكتمال نقد أدبي إلكتروني، مهما كانت قيمة الذكاء الاصطناعي الذي سوف يعتمد عليه مثل هذا البرنامج أو التطبيق.