الأربعاء 17 يوليو 2024

عتمة ونور


فاطمة الشريف

مقالات12-7-2024 | 21:01

فاطمة الشريف

نسمات الهواء تمس أطرافي، ضباب مختلط بالأشياء، استسلمت للسكون، واختفت الرؤية تماما. لاحظني أحد المارة، وأنا أمسك بمصباحي وأسير ببطء، أحني ظهري قليلا، أختبئ خلف عمود خشبي، على الناصية التي تسبق «المقهى الليلي».

عندما ذهب ظهرت بقامتي، حذائي التي يتدلى منها الرباط المهترئ وجلدها المقشر من عنق القدم؛ فقد مشيت كثيرا والعالم قد تغير، أستشعر البرودة تسري في جسدي، جاكتي الرديء لا يقيني البرد، شعري قد تبعثر من الثلج الساقط فوق رأسي.

رجل آخر ينظر لي، أخاف نظراتهم المتلصصة، أسند القنديل المضاء على الرصيف، أغلق أزرار الجاكت، أمامي طريق طويلة حتى أصل "للبيت الأصفر"، يا ويلي قد نسيت الطريق، ناديت على شاب في الجهة المقابلة:
لو سمحت يا بني، كيف أصل إلى البيت الأصفر؟
نظر إليَّ نظرة ريبة ثم انصرف، ناديت آخر، فوقف أمامي، تأملني كالذي قبله:
ماذا تريد؟
أريد الذهاب إلى "البيت الأصفر"؟
وما هو البيت الأصفر يا أستاذ؟
كيف لا تعرف؟
ضرب كفا بكف ثم انصرف مباشرة، شعرت بوهن شديد، أخرجت من جيبي رسالة مطوية مكتوبة بخط اليد "إذا ضللت الطريق، اتبع قلبك"
دموعي تسيل، والثلج يغطي معطفي، يعوق حذائي عن السير باعتدال، خلعت الحذاء، أنفضها من الثلج وأرتديها.
ناس يأتون من الجهة المقابلة يضحكون، ينظرون إلىَّ، ثرثارون، زعقت:
لماذا تضحكون، هل لأول مرة ترون رجلا عجوزا؟
صاح أحدهم:
إنه يمزح معنا، انظروا إليه.

نظر الجميع وضحكوا. مضيت في طريقي، ألعنهم من كل قلبي، لكني تألمت لعدم معرفتي طريق بيتي، ولمت نفسي أنني لم أسأل هؤلاء الشباب علهم يعرفون.

أثناء سيري البطيء جدا، صادفني طفل جميل، أخذ ينظر إليَّ تارة وتارة إلى المصباح، ابتسم فابتسمت، توقفت أمامه، لم يحول ناظريه عن المصباح:
هل يعجبك المصباح؟
شاهدته في اليويتوب، لم أصدق أنه شيء حقيقي.
وهل صدقت؟
تبدو شخصا غريبا، هل أتيت من بعض القصص، فضحكت.

انصرف الولد سريعا من أمامي، ناديت عليه، حزنت وراودني شعور باليأس في عثوري على بيتي، وأن مصيري هذا الشارع.

الفتاة الجميلة التي كانت تجلس في المقهى الليلي تنظر إليَّ عبر الزجاج، يجلس إليها شاب مجعد الشعر، شعرت بعاطفة كبيرة تجاه الفتاة، تقدمت خطوات، دخلت المقهى، استأذنت العامل أن أبيت في المقهى الليلي، و صباحا أحاول البحث عن بيتي، ضيق عينيه وسألني:

عن أي شيء تتحدث أيها الرجل، ألم تقرأ اللافتة "جاردن كافيه"؟ 

جلست على أحد الكراسي، ووضعت مصباحي جانبي، أشعر أنني هنا منذ زمن، كيف أتيت وأين بيتي، الفتاة تنظر إلى الشاب الذي أمامها، انصرف فصرفت نظري، ما شأني بالناس؟ تقدمت الفتاة نحوي بنظراتها العطوفة، دمعت عيناي على حذائي القديمة، خبَّأت الرباط على جانب الحذاء، وابتعدت بنظري عنها:
هل تريد شيئا يا فنان.
تقصدينني أنا؟
أنا "آنا".
لا أكذب عليك، أشعر أنني أعرفك منذ زمن، لكن كما ترين أنا رجل عجوز.
كيف وصلت لتلك الحالة؟
منذ ضياع بيتي لا أحد يستدل عليه.

مشيت كما أنا، أتوارى خلف العمود الخشبي للمقهى الليلي حتى ينصرف الشاب الذي يلاحقني، نظرت إلى السماء كانت قريبة جدا على غير عادتها، ألوانها متداخلة بين الأزرق والأصفر والبنفسجي والزهري، ما هذا؟ أمعنت النظر، شعرت بزغللة في عيني، مشيت تجاه الألوان دوامات جميلة جدا هل تكون هذه هي "ليلة النجوم؟".

صدمت بسيارة أوقعتني أرضا، أمسك يدي السائق وأقامني، اعتذر مني كثيرا، قلت له:
من أنت؟
أنا رجل كان سيتسبب في حادث للتو.
هل توصلني إلى البيت الأصفر؟
أين يا أستاذ؟! أنت شاب موهوب وقد رأيت صورتك عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
بكيت أكثر، رأسي يدور:
أنا أتقدم بالزمن أم أتراجع؟ مسحت دموعي، واساني السائق وأخذني للسيارة.
أطفات المصباح، انطلق السائق وهو يسألني عن وجهتي:
هل تقلني دون مقابل؟
ضحك الرجل فكتمت غيظي، كل من أقابله يضحك، لعنة الله على هذه الحذاء، خلعتها وألقيت بها من شباك السيارة.
لماذا فعلت هذا أيها الرجل، إنها حذاء غالية جدا كنت تركتها لي.

لم أحتمل السخرية أكثر من ذلك، طلبت منه أن يتوقف حالا، نزلت حافيا.

الجو عاطر والأرض يابسة، الهواء عليل، هل جاء الربيع وأنا لا أعرف؟! الخضرة تحيط بالبيت، بيتي الجميل، تجولت في المساحة الأرضية، وجدت أوراقا كثيرة مبعثرة، قرأت إحداها.

"ذهبت مشيا على الأقدام، يحيطني الثلج من كل مكان، الحياة منحة عظيمة لا بد أن يقدرها الإنسان، في المقهى الليلي وجدت فتاتي الضائعة، ولكن للأسف لم يستدل عليَّ أحد ولم أجد بيتي الحقيقي الذي رسمته في أوراقي، وعلى الجدران، تخلصت من حذائي للأبد وأخيرا عثرت على الربيع الذي ناشدته طويلا" 

فتحت عيني كانت هذه آخر ورقة كتبتها في الليل من روايتي الجديدة "البحث عن فان جوخ".