الأربعاء 17 يوليو 2024

البلاغة الجديدة وقصيدة النثر العربية


محمد زيدان

مقالات12-7-2024 | 21:24

محمد زيدان

ثمة علاقة ممتدة بين البلاغة الجديدة وقصيدة النثر لأسباب نذكر منها:
•أن البلاغة الجديدة بلاغة نصية التكوين.
•وقصيدة النثر تعتمد على أدوات التشكيل النصي.
•البلاغة الجديدة لاتعطي للمفردة اللغوية ميزات واسعة.
•وقصيدة النثر تقدم التصور نفسه.
ولذلك سينصب الاهتمام في هذه الرؤية على عدة أدوات للبلاغة الجديدة، منها:
•السرد والمنظور السردي
•السياق والمنظور السياقي
•الحكاية، والمنظور الحكائي.
من هنا فإن المعنى في السرد هو وظيفة حتمية للعلاقة بين عالمين، العالم الخيالي الذي وجده المؤلف واستطاع من خلاله أن يقدم إجابات استثنائية عن الواقع، والثاني هو عالم الكون كما هو موجود، وعندما نقول أننا نفهم سردا ما فهذا يعني أننا وجدنا هذه العلاقة المرضية بين العالمين؛ فالمشكلة الحقيقية تكمن في إعادة فهم وتسمية الأشياء بالنسبة للقارئ، وفي إعادة ترتيب هذه الأشياء وتنسيقها بالنسبة للمؤلف، لأن السرد الذي يقوم أساسا على علاقات ظاهرة وأخرى خفية بين فاعلين؛ أحدهما حقيقي السارد ويؤدي عملية الإخبار عن طريق إعادة الذاكرة أو المشاركة في الفعل، والثاني مجازي مسرود له وهو بدرجة ما يؤدي مجموعة من الأفعال التي تنشئ موقفا جديدا باعتباره متلقيا نصيا للسرد، أو مشاركا فيه، وهذا يعني أن الحركة التي يقدمها السرد بعناصره المختلفة لا تتعامل مع ذاكرة المتلقي باعتبارها أداة سلبية لاستقبال الفعل، وإنما باعتبارها أداة لإعادة تخليق هذا الفعل والنظر إلى الواقع من خلال هذه العملية التي تؤدي في النهاية إلى نوع من الإدراك الكلي للموقف وهو المشكل الفعلي للتراكيب وأدواته داخل النص. فالموقف الحكائي في القصيدة – ولا ننسى أننا في القصيدة – إعادة تشكيل لمفردات الحالة، وما يحدث من مفارقات زمنية ومكانية بين أساليب السرد يعطي سياقا جديدا للنص الشعري، وبالتالي الموقف.
ا

لنظرة الموضوعية للبلاغة الجديدة التي أفترض وجودها في النص الجديد لها تأسيس لا يمكن أن نغفله في النصوص القديمة، وحتى في إطار البلاغة العربية المؤسسة للذاكرة، ومن داخل العلاقات الجزئية التي تؤدي في النهاية إلى نوع من الإدراك الكلي أيضا، ولكن بأدوات ووسائل مختلفة تجعل التركيب والجملة والكلمة وحتى المقطع والصوت من تشكيلات المواقف الجزئية التي تطرح بدروها صياغة جزئية للواقع وللخيال الكامن خلف تفصيلات هذا الواقع. إنها بُنى حكائية في نص غير حكائي – كما يقرر أمبرتو إيكو - ، والتي تقدم دورا يتشابه مع دوره في النص الحكائي، ولكن الاختلاف يأتي من تحويل هذه البنى إلى مكونات أساسية في النص.
لا يمكن تصور قوانين الصياغة في اللغة العربية دون الاعتماد على المجاز كأحد الأدوات التي تنتج المعنى، وتتجلي هذه التصورات أكثر في السرد بما يقدمه من بدائل للتداعيات في النص الشعري، والتي لا تحيل إلا إلى معنى واحد وهو المعنى المؤسس للتداعيات، ومن هنا يقدم النص الشعري الجديد - سواء كان نصا يعتمد على صياغات إيقاعية عروضية، أم كان نصا يعتمد على سرد الراوي المتجاوز للإيقاع المؤطر (الحر) - ،قوانينه الحكائية من داخله، ولأن الكثير من النصوص تتداخل في الصياغة مع بعض التفعيلات، فسوف نتجاوز ذلك إلى الاعتماد على الرؤية التي يقدمها النص عن اللغة والطرائق الجديدة التي يحاول أن  يفتح بها صياغاته من خلال الموقف السردي؛ لأن هذه الرؤية نابعة من ثلاثة أبعاد تتصل بإدراك السارد للعالم الذي يقدمه على اعتبار أن الشاعر هنا سارد يبحث ويفكر بشكل حكائي:
الأول: التصور الحكائي الذي يعج بمجموعة هائلة من الوظائف التي تتوزع بدورها إلى علاقات وأدوات تشكل للفكرة.
الثاني: الدمج بين الواقعي والتخييلي في الموقف السردي؛ وهذا البعد هو الذي يضعنا على أول عتبة من عتبات السلم البلاغي الجديد الذي يعتمد على الموقف السردي والتخييلي، هنا "إعادة توازن" و"تمثيل" يقف فيه المجاز الجزئي بدور الرابط بين العالمين "الواقعي/ التخييلي".
الثالث: تمكين اللغة من الخروج من مأزق التداعيات والغنائية التي أثقلت العزف المنفرد على نغمة الذات، وتحويل الأدوات البلاغية الكلاسيكية من مجرد تزيين الأسلوب بأنماط من الصياغة الجامدة إلى تشكيل يمكن رده إلى مواقف وأفعال وذوات متجاورة في النص. فالموقف في السرد يحيل إلى مايمكن أن أطلق عليه البلاغة المحسوسة، انطلاقة من فهم الموقف المحسوس في السرد، والذي يجمع بين الراوي والمنظور – وجهة النظر - ، فعلى سبيل التمثيل يتضمن الموقف مكان وجود الراوي، والعلاقات التي يشكلها مع الشخصيات ووجهات النظر.
هنا يمكن التوفيق بين السرد كشكل لغوي يقوم على إعادة ربط اللغة بالفعل، وترتيب السياقات داخل وبين مستويات مسكوت عنها تتصل بالحكاية عن الآخر، أو الحكاية عن الذات، أو تشكيل مستويات جديدة للفعل الحكائي في القصيدة، فهناك فرق واضح بين:
السرد  كعرض للحكاية.
فعل الأصوات الحكائية التي يقدمها  الموقف.
إن الشاعر في النص الجديد يقدم مجموعة من التوليفات السردية التي تتضمن الشخصيات والمنظورات والأفعال التي تجعل من القصيدة صورة واحدة محسوسة. وبذلك يطرح الموقف  صيغة لغوية تطرح رؤيته عن العالم في المقام الأول، ورؤيته عن ذاته في المقام الثاني، والتداخل بين الرؤيتين هو الذي يقدم روح التجربة الفنية التي تتحد بدورها مع تراث هذا النوع بلاغيا، إذا اعتبرنا أن البلاغة بمثابة الماء بالنسبة له.
كل هذه الإحالات تمثل صورة الموقف المادية/ المجازية الذي يريد الشاعر أن يجعله ممتداً - ليس في الزمن الماضي– كما في نص حسن طلب، ولكن في الزمن الحاضر، والزمن الغائب، المكان في نص حسن طلب يمثل الصورة الثابتة، وفي نص محمود درويش يمثل الصورة الغائبة اللا منظورة، ليس له حدود ولذلك يضيف إلى ذاته  حالة البحر والماء.
خذيني إلى البحر عند الغروب لأسمع ماذا يقول لك البحر؟
إن الموقف يمثل جمال العوالم الذي يطرحها من خلاله، البيت الذي لا نوافذ له والبحر الذي يريد أن يكلمه، والمرأة التي يريدها، والمكان الذي يرمز إليه بالوجود، وهكذا يتجلى الموقف تجلياً فكرياً في عقل الشاعر وروحه، كما يتجلى في اللامكان هناك في أرض فلسطين.
السرد السياقي
عند الشاعر شريف رزق
ينحاز السرد السياقي أحيانا إلى الذات انحيازا موجها للخطاب، باعتماد  الشاعر على الصورة السردية ذات الدلالات المتعددة والمنفصلة عن بعضها البعض ظاهريا، ولكنها تكون صورة واحدة ممتدة حيث تتضح ملامح السرد الحكائي الوصفي المؤسس لحالة خاصة يطرحها الراوي من خلال الذات، وهنا تكمن الأدوات الجديدة التي تتخلق بها الرؤى البلاغية المغايرة والتي تتشكل ملامحها في النص الأدبي المعاصر من خلال عدد من الأبعاد الفنية:
1 - السياق الحكائي.
2 - بناء الدلالات.
3 - الصورة ومفرداتها.
وإذا كان السياق هو المؤسس لمنظور الراوي في النص الشعري فإنه يتجلى كثيرا في الحكاية عن الآخر، أو الحكاية عن الذات، على اعتبار أن الراوي فاعل الحكاية يقدم صورة سردية، أو على سبيل الالتفات أو الاتحاد مع ضمير المخاطب ليبدو ضمير المتكلم في صورة منفصلة عن الحكاية، سواء كان السياق الحكائي رمزيا أم كان تخييليا حرا.
وفي نصوص "حيوات مفقودة" للشاعر شريف رزق تقوم بلاغة الموقف والصورة الكلية والسياق المؤسس لهما مقام الصورة الشعرية في النصوص التقليدية، والتي تتناثر هي الأخرى بشكل أو بآخر مكونة صورا سردية تتوازى مع الصور السردية الكلية فالشاعر على وعي بالمفاهيم البلاغية في ذاكرة الشاعر العربي وقد استفاد منها استفادة توحي بعملية التجاوز التي نطرحها في البحث.
يقول الشاعر:
ومن عادتي أن أتطلع إلى تقاطيع وجهي في كل صباح 
وأن أتخلل بأصابعي شعري الطويل وأن أتهيأ لحلاقة ذقني 
هكذا دائما في كل صباح غير أنني لست الذي في المرآة 
ومن ذهولي إلى أمي خرجت بلا غاية متماسكاً ومشطورا 
معا معا غير أنها واصلت انهمامها بشاي الصباح 
وواصلت في ميادين الجسد الغريب الصراخ ولم أزل 
فيما أواصل أداء الدور المحتم بنفس الهدوء في كل مكان 
والحقيقة التي لا لبس فيها هي أنني لا أحد، اللا أحد 
الأكيد وأنني أتقبل بمنتهى الآلية والاستسلام 
هذا الوضع الأليم، وأن على إلى النهاية مواصلة 
أداء الدور باقتدار.
على حين بغتة رأيته بين أسرتي بشرود المستديم 
وأورامه بعينيه المتحيرتين خلف نظارته، وإرهاقه.
بملابسه المنزلية الرثة وخطواته المتكررة بين الكنبة 
والأريكة، شايه وتوتره كان طيفه على الأرجح 
في جسد مطابق زلزلني للحظة وتولى هو الذي 
لم أعد واثقا بوجوده تماما أو غيابه. 
     السرد يأخذ عند الشاعر شكل الدائرة من الناحية الخطية، فليس هناك حد للأفعال التي تمارسها الذات، وليس هناك حدث يجمع الوحدات السردية المختلفة، فالأفعال كلها بدنية أي أن الذات (الكائنة في زمان ومكان محددين) هي التي تقوم بأداء الدور، ولذلك يتشكل السرد بالحالة التي تتحد الذات بها، والذي يميز الحكاية (وهي تمزج الرمز بالواقع بالفعل)، أنها تقدم فضاء نصيا واضحا، وبالأخص عندما يتحدث عن العلاقات التي تحكم وجوده، ويمكن أن نلتمس فيها عدداً من الأبعاد السردية التي تتصل بتشكيل الدلالة والحكاية:
* وجود الذات والحركة الناتجة عن هذا الوجود في حالة السكون.
* وجود الذات والحركة الناتجة عن هذا الوجود في حالة الحركة.
* الإحالات المصاحبة لحركة الذات (مثل حركة الأم).
* حركة الآخر والمفارقة الناتجة عنها.
حركة السرد ينساب مع حركة الذات بشكل يمنح معاني التوتر والقلق الإنساني ومحاولة التثبت بالوجود في هذا الزمن الذي تتماهى فيه الحقائق وتتلاشى الذوات حيوية فائقة، ولا يمكن هنا أن نحفل بالوحدة السردية الصغيرة (الإحالة/ الكلمة)، ولا بالتركيب السردي؛ لأنه لن يعني في سياق النص إلا حركة واحدة، وإنما على المتلقي أن يحتفي بالنص كله، أو على الأقل بالحركات الكلية الممتدة التي تشكل الدلالة فيه، لتتجلى أبعاد الموقف بمعناه المادي الصادر من ذات في زمان ومكان، وتتجلى في الوقت نفسه أبعاد الرؤية المشكلة للسياق المصاحب لهذا الموقف، وهو سياق حكائي ذاتي تتغلب فيه ذاكرة الأفعال البدنية على ذاكرة الأفعال الحدثية، لأنه هو الفعل الوحيد في السياق.
النص يحفل بالأدوات التي تشكل السياق إذ تتخلق البلاغة من أدوات سياقية في المقام الأول، ترتبط بمكونات الدلالة أكثر مما ترتبط بمكونات الصياغة المصاحبة للدلالة، أو لنقل التبادل بين الصياغة والدلالة، فالسرد عند "شريف رزق" ناتج سياق حكائي موحد يخرج من الذات، وفي أحايين كثيرة يصفها، ليصنع سياقا نصيا داخليا عبارة عن مركز دلالي واحد وأنماط تركيبية متعددة. بالإضافة إلى مركز دلالي يتصل بالصور المجازية داخل التركيب السردي العام، والتي تمنح الخطاب قدرته على التواصل مع أجزائه المكونة له، وتخلو من المجاز أو الرمز أو التخييل، وفي الوقت نفسه تقدم هذه الصور المفردة، وهي في سياقها ما يشبه مفاتيح الربط بين أجزاء الصورة المادية للخطاب والتي تتشكل من مفردات مكانية وزمانية مثل:
* ومن ذهولي إلى أمي خرجت بلا غاية متماسكا ومشطورا.
* كان طيف على الأرجح في جسد مطابق.
فالدلالات فيها مناطق جذب تعمل في النص بشكل مكثف وتقدم فاعلية التراكيب المصاحبة لها ومن هنا يمكن أن نتساءل:
أين تكمن بلاغة الخطاب السياقي في هذه الكتابة؟
وأين يمكن أن نبحث عن الصورة السياقية في النص؟
ولأن الصورة الشعرية هي المكون المهيمن على النص وهي التي تعطي له أداة بقائه، وتقوم بتحويله من داخل سياق الجمل النثرية المتشابهة الإيقاع في الكثير منها والتي تعتمد على قوانين داخلية غير منظمة حتى الآن، فإن البحث عنها (الصورة) في سياقها الجزئي لن يصل بنا إلى إطار قاعدي لبناء نص شعري يكون السرد فيه هو الموجه الأساسي لعملية التركيب.
إن السياق الشعري السابق رغم اعتماده على المزج بين السرد الذاتي والترميز السردي، إلا أنه ما زال يحتفظ بمكونات البلاغة الجزئية لأن الموجه للتراكيب سياق حكائي يحتفظ بمركز دلالي يرتبط بالذات، ولكنه في الوقت نفسه يتحول عنه إلى سياقات حكائية جزئية ذات دلالة مفتوحة، أما عند الشاعر شريف رزق وهو أحد الذين يؤسسون لهذا النوع من السياقات الحكائية المنصهرة بالذات حتى أصبحت لديه يقينا راسخا لا يتحول عنه إلا في القليل؛ فقد قدم عددا من الأعمال الشعرية التي تسهم في بناء صياغة بلاغية لا تعتمد على المفردة الحكائية بقدر ما تعتمد على التركيب السردي الطويل النابع من سياق الذات، فهو يحكي عن ذاته من خلال تحولات هذه الذات وعلاقاتها المجازية بالأشياء داخل دوائر سردية ثلاث:
الدائرة الأولى: 
يحول الموضوع المسرود عنه إلى إطار الذات سواء كان هذا الموضوع ذات حالة أو ذات فعل من خلال الإحالات التي يقدمها، أي بين القيمة المطلقة والقيمة الذاتية.
الدائرة الثانية:
تحويل الذات إلى موضوع قيمة داخل المفردات التي ترتبط بالخطاب الذاتي، وكأن الإحالة إلى الذات هي محاولة للخروج منها إلى عالم آخر.
الدائرة الثالثة:
اللغة عبارة عن صيغ لذات الفاعل في النص، وإذا وردت إشارات إلى ذات المفعول فإنها صورة أخرى من الصور التي تأتي عليها ذات الفاعل.
من هذه المعادلات في بناء السرد في القصيدة يمكن البحث عن الأسس البلاغية التي ترفع الخطاب من تشابه النثر إلى صياغة الشعر، وفي هذا الإطار لن نبحث عن صور المجاز والاستعارات وإنما سنبحث عن مفردات السياق والمواقف والتأويلات التي ترد إلى ما يحرر الخطاب ويسلمه إلى سياق بلاغي، يقول الشاعر في (20 يونيه 2001): 
"الليلة فجأة صحوت 
على ظمأ وسعال 
وخطوت 
- متعثراً – إلى زجاجة المياه 
غير أنها باغتتني
قادمة في الهواء 
كأن يدا في الخفاء تحملها 
حتى استقرت على فمي
في هدوء شربت 
دونما ارتجافة واحدة 
كنت أعلم أنه بلا شك هنا 
ولكنني واصلت نومي العميق
وفى (21 يونيه 2001):
الليلة أيضا صحوت على ظمأ وسعال 
وتوجهت إلى الزجاجة كما في كل مرة 
على يقين بأنها سترتفع وحدها كما 
من قبل إلى فمي وأنني لن ارتجف أيضا
ورفعت يدي في هدوء 
كإشارة مني
سيعقبها ارتفاع الزجاجة وحدها 
غير أن يدي لم ترتفع وحاولت 
مسرعا مرة أخرى فلم أجدها 
وفي (23 أغسطس 2001):
وبشكل عرضي على الجانب كلمة (أربعاء):
لا شك أن كثيرين من قبلي عاشوا في هذا الجسد وأنني بالتأكيد عشت قبل هذا الجسد في كائنات أخرى من قبل، صحيح أنني لا أستطيع أن أتذكر من حيواتي المفقودة على وجه الدقة أشياء، ولكنني على يقين بأن عديدين مني ذهبوا على التوالي وبقيت وحدي، وأنهم يتوافدون عليّ ولا أراهم ومع هذا فلم أزل قادرا على الحياة وأحيانا أتطلع إلى صور قديمة لي في مناسبات مختلفة وأستغربها متأكدا من أنها لأشخاص وهميين ويخيل إليّ في كثير أنني لم أظهر في أي صورة لي والغريب أنني كلما عثرت على كتابة لشريف مني تأكدت أكثر أن حرائقي لم تزل هيهي وأن حرائقي الحالية تتطور تدريجيا صعودا إلى ما بددني مرارا من عهود بائدة شريفا بعد شريف"
وهناك مسافات بيضاء بين المقطع الأول ص30، والمقطع الثاني ص31
الدلالة في نصوص (حيوات مفقودة) تتوزع على عدد من المحاور:
الأول: محور السرد السياقي الخالي من الأفعال الكبرى التي تشكل سياقا موحدا.
الثاني: محور السرد الذي ينمي حركة السياق في إطار فعل حدثي عام يقود من موقف حكائي إلى موقف آخر ينتميان إلى السياق العام.
الثالث: محور السرد عن الآخر رمز القيمة ويمثل سرودا متناثرة بين المحورين الأول والثاني.
ففي السياق الأول تتمحور الدلالة حول الذات في سياق حكائي واحد يعطي صورة عن موقف بين الواقعية والمجازية، تحتل فيه المفردات البلاغية جزءا يسيراً من مساحة النص (ثمان مفردات بين إحدى وأربعين مفردة تمثل الدلالة العامة) كل المفردات الأخرى مفردات ذات مدلول حكائي تتصل بالذات وحركة الذات.
باغتتني قادمة في الهواء (إشارة إلى الزجاجة).
كأن يدا في الخفاء تحملها (إشارة إلى الزجاجة).
النص في الظاهر لا يحمل دلالة تشكل موضوعا شعريا، ولكن ما وراء السياق الحكائي ينقل صورة الشعر النمطية القارة في ذاكرة المتلقي، والتي تتأثر بها الموضوعات ذات التوجه الخطابي، والذي يقدم صورة عن الواقع أو القيمة وما يتصل بهما، أو حتى عن الذات بمفهوم الرومانسية إلى صورة مادية عن هذه الذات، فهي تقدم نفسها على أنها هي الواقع وهي كذلك، وتطرح من خلال هذه الصورة التي تبدو بسيطة مجموعة من التساؤلات حول الإنسان والوطن والقهر وغيرها مما يمكن أن يؤول في سياق مسكوت عنه، إننا أمام ذات لا تعبر إلا عن ظاهرها أو حتى باطنها بقدر ما تبتعد عن ما يربطها بالآخر بصورة مباشرة، نوع من محاولة البحث عن اليقين من خلال الذات فقط، ففي المقطع الثالث يسرد الشاعر ما وراء الصورة المادية للذات منفصلا عن ذاته ومتحدا بها في آن، وفي الانفصال يتعلق بهذه الذات أكثر من صورة الاتحاد بها، مشيرا إلى أن السياق الحكائي الذاتي يشكل الدلالة الأولى والأخيرة، ولا يمكن أن نعثر على بلاغة الخطاب إلا من خلال التضام الكامل لمعطياته سواء في جانب التشكيل أم في جانب الدلالة، بعيدا عن السياق الجزئي للصور البلاغية، إذ يتكون المقطع من مائة واثنتي عشرة مفردة تخلو كلها من صورة بلاغية جزئية مما يجعلنا أمام بداية الطريق للبحث عن بلاغة الخطاب الشعري المعاصر في جزء مهم يفرض واقعا لغويا وسرديا وتصويريا غير نمطي، ويعطينا ذلك فرصة للتأمل في المفردات البلاغية الجديدة التي يمكن أن يعبر عنها هذا النوع من السياقات السردية المفتوحة.
في إشارة إلى الاعتماد على لغة الاستعارة في تركيب سردي واحد لا يمثل إلا إشارة في سياق نصي موسع، يمكن القول إن هذا التركيب الاستعاري البسيط يدعم قوة الربط والارتباط داخل السياق ويجعل الانسجام في النص شيئا متحققا؛ لأن الاستعارة تمثل لب الموقف وهو يتمحور حولها، ولأنها جاءت جزءا مؤسسا من أجزائه التي تمثل دائرة معنوية واحدة، وهذا يعني أن الخطاب البلاغي الجديد الذي نبحث عنه في الشعر يمكن أن يطرح نفسه من داخل البلاغة المؤسسة للغة العربية، ومن جانب آخر يمكن أن نبحث عن معطيات جديدة للصور البلاغية القديمة من خلال السياقات التي تقدم فيها، ولنأخذ السياق السردي بما فيه من إمكانات فنية صورة لهذا التحول والبحث.
هذه المعطيات يمكن أن تتحدد وفق السياقين الخارجي والداخلي للنص على النحو التالي:
* الملامح العامة لذات الشاعر وتقدم الباعث على مواصلة السرد.
* الصورة التمثيلية التي تعامل معها.
* المسكوت عنه فيما يتصل بإدراك هذه الذات.
* اعتماد الرمز على صور واقعية/ محتملة/ غير محتملة.