الثلاثاء 16 يوليو 2024

الأسطورة الشخصية وميكانيزمات الدفاع في شِعر مسعود شومان


رشا الفوال

مقالات12-7-2024 | 21:22

تعتمد القراءة الحالية على ربط النصوص الأدبية بسياقها الثقافي، بعبارة أخرى تتعامل مع النصوص باعتبارها أنساق ثقافية عاكسة للسياقات الاجتماعية والتاريخية والسياسية؛ وهو الأمر الذي يحتم علينا جلب العناصر الباطنية داخلها؛ يتفق ذلك مع منهج النقد النفسي المعاصر الذي أسسه: شارل مورون والذي يرى أن كل نص يحمل صوره الخاصة، وسياقه الدرامي الآتي من لا وعي الشاعر، بالتالي فإن النسق الشخصي التاريخي والثقافي المجتمعي هو مفتاح التناول.


في سعينا إلى فك شفرات نصوص الشاعر: مسعود شومان اطلعنا على عدة دواوين، لنجد تكرار انشطارات الذات، والمونولوج الذهني في ديوان: رجلي أتقل من سنة 67، وتقارب الاتجاه الأنثربولوجي في الكتابة عن المهن المختلفة في ديوان: إخلص لبحرك، وسيادة مبدأ (إجبار التكرار) ومحاورة شخصيات أصحاب المقامات، مع إعلاء قيمة الذات في ديوان: صاحب مقام، واستبطانها_أى الذات الشاعرة_ في وعيها ولا وعيها، وفي وسائل التعبير المعتمدة على الرمز أو التخييل في ديوان: ماتقفش عند بداية الحواديت وروح للسر.
فإذا اعتبرنا الخطاب في كل ديوان من الدواوين محل القراءة دال على تجربة الشاعر اللاواعية فقط، أفقدناه معناه الإبداعي القائم على الجماليات، أيضًا إذا اعتبرنا أن رغباته المكبوتة_المسكوت عنها داخل النصوص_ فقط هى التي تبلورت في إنتاجه الأدبي حيث الرغبات تساوي الملفوظات؛ فبصرف النظر عن قصدية الشاعر الواعية؛ قد يكون هناك ثنائية خلافية بين تاريخه وشخصيته وتاريخ السياق الاجتماعي السائد، الفصل في هذا الأمر هى الشبكة الدلالية للمفردات المكررة، والتي تعني استمرارية الانفعال، والتي تقودنا بدورها إلى أسطورة الشاعر الشخصية، وميكانيزمات الدفاع التي اتبعها_كعمليات معرفية_ داخل النصوص، والتي ترشدنا للكيفية التي نتعامل بها مع الإنتاج الأدبي بموضوعية أولًا، وإلى موقف الشاعر من العالم الخارجي والتحولات المجتمعية ثانيًا، ربما لذلك نؤسس فكرتنا عن النصوص استنادًا إلى التساؤل التالي: هل تناسبت تجربة الشاعر مع انفعاله الشعري؟
ولأن الخطاب الشعري في النصوص محل القراءة يتضمن حال الشاعر الوجدانية، وموضوعه المعرفي، ورسائله الفكرية التي يرغب في إيصالها للمتلقي؛ كانت البصيرة الثقافية هى المحرض الأول على استنطاق النصوص من خلال فهم وظائفها القادرة على استيعاب الراهن المجتمعي، وكان علينا البدء من مكونات هذا الخطاب على النحو التالي:
أولًا: البنية السردية في دواوين(صاحب مقام/ رجلي أتقل من سنة67/ إخلص لبحرك)
على افتراض أننا نبدأ من النص وصولًا إلى موقف الشاعر الوجودي من العالم، وسعيًا للكشف عن الأنساق المسكوت عنها؛ فالبنية السردية يمكننا فهمها من خلال أولًا: دائرة الحكاية (الموضوع/الحدث/الصراع والرغبة/الشخصيات/المكان/الانفعالات)، وثانيًا: دائرة السرد (وجهة نظر الشاعر/ الوصف/ الحوار: داخلي أو خارجي).
في ديوان: صاحب مقام يحدثنا الشاعر عن الشخصيات (أصحاب المقامات) ويحدثنا بألسنتهم أيضًا؛ فنجد أن كل نص شعري حكاية نستخلص منها الرغبة وثنائية (الاتصال/ الانفصال) مع المتلقي، مرتكزًا على الحاسة الروحانية المجردة عن المادة مثال لذلك نراه يقول بلسان: الشاذلي 
"فى الحضره كنت زمان
وزمان دا كان
فى عز عز الضلمة
أشرب كاساتى وأرِف زى الطير
واملا السما تواشيح على رفرفه
لابس فى رجلى فردتين الحفا"
ثم يتجلى الحوار الخارجي المتخيل بين الشاعر وبينه_أى الشاذلي_ الذي تضمن (التمثل العاطفي) من خلال الإفصاح عن الذات_ذات الشاعر_ أولًا، والانتباه إلى رسائل صاحب المقام ثانيًا فيقول:
"ما تقولش للرمل اللى بات عطشان
إلا كلام أخضر ساقيه النور
جرَّب إيديك ع الجمر 
ويَّا الدفوف اللى متونسه 
بنقرة صوابعك" 
ولأن فعل (التخييل) يتعامل مع الانفعالات التي يمكن استرجاعها دون أن تتوفر الأسباب التي أدت إليها من قبل، فالمخيلة هى قدرة الشاعر العقلية على تجسيد الأشياء وتصورها، ربما لذلك نراه_أى الشاعر_ استغرق في استرجاع سيرة أصحاب المقامات(الذاتية) على ألسنتهم و(المجتمعية) بلسانه، وعلى رأسهم مقام الشاعر نفسه في حال(الإعلاء النفسي)، وكأن الشِعر مقام الإشارة، والتخييل أرقى أدوات الشاعر الذي أقدم على تحويل الصور المتخيلة إلى لغة تحتمل أكثر من معنى؛ فالشاعر الذي يرى في الحزن مظهرًا من مظاهر العقل في قوله:
"حملت حزنى وانا معدى فى درب سعادة
شايل وصية عيالى فى عٌقده من شالى
كتبوها بالدمع اللى بيقطّر مرار سادة"
لا نستطيع التفرقة بين خياله وحسه المشترك مع الغير عندما يقول بلسان: فاطمة النبوية
"بكره ها تقطف م الشجر شوق الحبايب
روح لهم وارمى ورا ضهرك عياطك
النور يسلم ع النخيل ويطيب سباطك
اسمع كلامى ياغشيم فى الوجد وارحل"
اتضح عنصر(التخييل) في كثافة التعبير الانفعالي واتحاد الحسي بالمعنوي، الذي تم بفعل مبدأ(إجبار التكرار) فبداية النص هى نهايته؛ مع ملاحظة أن الأمكنة في نصوص الديوان دائمًا مرهونة بما تحمله من دلالات الاستقرار أو التشتت اتضح ذلك في المفردات المكانية مثل(الخطوة فوق الأرض/ طلع جبال/ الحرف خانِّى وفى الخرايب حط/ ونزلت أزور قبرى/ فى الحضره كنت زمان/ عيل صغير فى مَحْمَل على الجمل بيطل/ تحت السما يكتب وبيقرِّى/ فى بيت ركين الدين يتملا عبدالعال/ ومن هناك شال خطوته لطنطا/ الساحة وسعت بس مش سايعة/ واقف على العتبه وشايف طير/ جنب الفرات زارع تلت شجرات/ وخدت بحر العشق عوم/ رمل الطريق سمَّى على أقدامه/ وتحت نخله عجوزه كنتى بتربى الحنان/ بامد إيدى لقيت روحى فى جنينة ورد/ يا بحر ليه غرقت عشاقك/ عديها يا أخدود ما تسيبش رجلين الأحبة تعافر)؛ ولأن حواس الشاعر هى التي دفعته إلى تنظيم العالم الخارجي في موضوعات متخيلة أو واقعية، جاءت الأمكنة كزوايا نظر تتناول الجغرافيا العاطفية.
في ديوان: صاحب مقام لاذ الشاعر بإحياء جماليات شخصيات أصحاب المقامات كمثيرات خارجية محرضة على الإبداع، يمكننا هنا اعتبار المصادر التراثية التي أوسعها الشاعر اطلاعًا دلالة على سخاء الحياة وحركيتها، ومن خلالها اتسعت دائرة التداعي الطليق في البنية السردية بصفة الشاعر هو الراوي العليم في النصوص.
و في ديوان: إخلص لبحرك نجد تأثيرات الجماعة الشعبية من أصحاب الحِرف، وكل حرفة بحر، لذا كان على الشاعر استحضار الزمن بأبعاده الثلاثة في كل نص؛ والديالوجات لنكتشف قيمة المعنى وتبعات المعنى التي تجسدت في الإيحاء العاطفي، والإيحاء السياسي، والإيحاء الفكري وكأن تداعيات ذات الشاعر أكدت لنا ارتباط  معرفته بالتراث ودراساته في الفولكلور بالشِعر الإدراكي، الذي يعد ممارسة نصية اجتمع فيها الجانب العقلاني بالجانب العاطفي لاستنطاق تجربته الذاتية، يقول:
"من غير نباهه
إحنا اتسرقنا واللى باقى تراب
ملس عليه وأعرفه
وشم ريحة اخواتك"
في هذا الديوان اتضح (الخيال المعرفي) الذي يعني ربط الشاعر تجربته الاجتماعية بتصوراته العقلية، كأننا ننطلق من أحادية ذات الشاعر إلى الجماعة السيكولوجية، معنى ذلك استحالة فصل النسق الكتابي في النصوص عن علاقات الأعراف الاجتماعية التي تجسد تصوراته، وتفسح مجالات متعددة لامتداد المعطيات النفسية
"قال الشاكوش للمراكبى عملت لك قارب
خدنى معاك ياعم حررنى
أرمى العواف ع السمك
واغزل معاك الشبك
واخوِّف المسامير
قال له ما تنفعنيش فى قلب الميه
ممكن تصدى هناك ويتبرى لحمك
وتلاقى موجة هموم ع المركبة شايلاك"
 إما إذا انتقلنا إلى ديوان: رجلي أتقل من سنة 67 فسنجد أن المادة الأساسية للنص الشعري هى(الحدث)؛ والشاعر هو مُحتكر الخطاب، ربما لذلك تعددت الصور السردية الوصفية الدالة على التدرج النفسي في رصد المعاناة وصولًا إلى قمة الانفعال من خلال التداخل بين(العقلنة/العاطفية) في النقطة التي يختلط فيها سلوك الشاعر بمعرفته، يقول في نص: رقصة من غير حاجة من غير حد
"حاارقص لأول مرة من غير حاجة من غير حد
يمكن تكون عتمة
ويمكن رطوبة
بس هيِّا دى النقطه اللى ها ارشق فيها سهمى"
وملامح مقاومة الموت بالحياة، في ذكر المكان بمدلوله المعنوي المصور لاضطراب الإنسان في نص: ضـد هـوايـا
"عارف
عشقها للشمس
وللألوان السُخنة
عشان كدا هااختار لها قبرها
ضد هوايا وألوانى"
فإذا اعتبرنا أن الموت الذي يعنيه الشاعر مجازيًا، مرتبطا بغياب الحرية؛ يصبح الأمر منطقيًا فيما يخص ارتباط التخييل بالاستدعاء من الذاكرة في نص: رقصة
"أُخرج للبت اللى الفرحه ..
بتفُط فى روحها لمّا تشوفك
أرقصو سوا
لحد ما تطحن رجليكو
الوردة الصفرا اللى رماها ..
عليكو الليل"
فعندما يتحول الحدث التاريخي إلى نصوص نكتشف من خلال طبقات النص الأسلوبية انفتاح الحدث النصي الذي أشار إليه الشاعر في العنوان: رجلي أتقل من سنة 67 وتعالقه مع مفردات النصوص مثل (هالْبِس كسكتتى وامسك عكازى/ المدينه اللى ضحكت بعنف على روحى اللى ماتت/ بسأل نفسى إيه اللى غرّق هدومى طين، وخلاّ رجلى تشلب دم/ لحد ما حفرت فى روحى خنادق/ وإيه اللى رجعنى بعد الهزيمة على القهوة/ المشاهد الدرامية فى حياتى ما تتعدش/ طول عمره محمل حزنه على رف مهكع فى سبنسه/ وان مراتى اللى لسه ماتجوزتهاش ماشيه فى جنازه… فى  إيديها منديل أحمر وشايله علم مالوش ولا لون .../ وانا لسه بَدور فى القهاوى برجل واحده، من "زهرة البستان" لـ "خادم الحرمين" ياقلبى لا تحزن).
وهكذا فالموضوع في أى نص دال أولًا على تجربة الشاعر القرائية، ربما لذلك نجد أن القصيدة الواحدة تحتوي على أكثر من موضوع (يعتمد ذلك على مغامرة الناقد وتلقيه للأثر)؛ وفي النصوص تواجهنا المتتاليات الموضوعاتية التي أنتجها الشاعر؛ فالصداقة يمكن تناولها من خلال موضوعات مجاورة لها مثل الرابطة الاجتماعية، الأخوه، الانتصار للقيم الإنسانية.
وإذا كانت معاني الشِعر في نصوص الديوان يتوزعها عنصر خارجي (مؤثر)، وعنصر داخلي (مثير)؛ فإن اجتماعهما يبرز حالات ارتباط ذات الشاعر بالأمكنة وتعدد انقساماتها في الانفعالات بين انقباض وانبساط من خلال (الخيال الموضوعي)؛ لأن وعى الشاعر التخييلي بالعالم انتظم من خلال الفضاءات السائلة كالماء الجاري، والصحراء الممتدة... إلخ، مثال لذلك قوله في قصيدة: هااحـكى لهـا حـدوتـه 
"هاازِمّْ على شفتى
واضحك لها واحكى لها حدوته
دا سدر بنداه لسه
ودى ضلمة وحدانية
ودا عَرق سيّال"
لذلك نرى أن الموضوع في كل نص يعبر عن إدراك الشاعر لعالم الذات الداخلي من خلال الانفعالات، ومسرحة الهذيان فيما يخص حالات الفقد والحزن والحسرة والوحدة النفسية من ناحية، والعالم الخارجي من خلال الصراع بين الأبعاد (الواقعية/ المتخيلة)، والصراع مع الآخر (الحقيقي/ الوهمي) من ناحية أخرى.
في ديوان: رجلي أتقل من سنة 67 أسطورة الشاعر الشخصية هى التي دفعتنا إلى التسليم بهيمنتها فيما يخص  ثنائية (الدلالة/ الإمتاع)، فالإمتاع ارتكز على: 
أولًا: التنظيم اللغوي، بمعنى أن كل قصيدة لها علاقات متعددة بمفردات في قصيدة أخرى تمنحها المعنى، ربما لذلك تعددت رمزية (الصحراء/ العصافير/الوحدة/الحواديت/الكهف/ الوهم)، ثانيًا: تنقل الشعر ما بين الملفوظ الشعري والمونولوج الذهني، والدلالة النسقية بأبعادها الثلاثة (دلالة صريحة، ودلالة ضمنية، ودلالة نسقية ثقافية) مع ملاحظة أن الخطاب الذي يتضمن أنساقًا متعددة توجه أفكار وسلوكيات المتلقي، يعني ازدواج الشاعر الذي انقسمت ذاته إلى: شاعر فرد له خصوصية شخصيته وأفكاره المحددة سلفًا في أطر كبرى، وشاعر ذو كيان رمزي يسعى إلى فك الارتباط بين الشاعر الأول والمتلقي.
ثانيًا: البنية اللغوية اللاشعورية في ديوان (ما تقفش عند بداية الحواديت)
على افتراض أن القراءة الثقافية تهتم بالكيفية التي يفصح بها النص عن نفسه هذا من الناحية الإجرائية، أما من الناحية المعرفية؛ فالقراءة الثقافية تنظر إلى النص الأدبي كنسق لساني، معنى ذلك أن القيمة الثقافية الحقيقية للديوان كنص واحد جاءت من خلال جماليات فعل الكتابة (اللغوي) أولًا، والقدرة على التأثير في المتلقي ثانيًا. 
فإذا كان: فرويد يرى أن الأحلام بنية لغوية تحتوي على كثير من الرموز والاستعارات التي تنعدم بينها الروابط؛ فــ:جاك لاكان يرى أن اللاشعور ليس سوى بنية لغوية؛  ولأن الصوت اللغوي في الديوان يرسم لنا معالم نغمة الخطاب الشعري النفسية؛ كان علينا محاولة فهم وتفسير ما يُحيل إليه المدخل اللغوي الأول للنص؛ فالنسيج اللغوي الصوتي بمثابة التيار الخفي للدلالة؛ ولأن النص هو المكان الشعري الذي احتوى انفعالات الشاعر؛ فإذا بالامتلاء الوزني امتلاًء دلاليًا؛ بالتالي ارتبطت القافية بصفتها وتوترات النص الخفية؛ فالإيقاع يجمع (الحركة/ الوقع الصوتي/ الحالة النفسية) على سبيل المثال بدأ الشاعر النص من أقصى اللسان بحرف (القاف):
"قِشر السفندى مستخبى وَرَاه إيدين عريضه وقلب اسوِد"
وحرف (القاف) شديد للمفاجأة، يُفضي إلى أحاسيس لمسية تدل معانيها على القطع والقشر، انتقل منه الشاعر إلى طرف اللسان بحرف (التاء) في القافية: 
"وصُرَّه بتسقَّط على البلاط شلنات
والفضه لمَّا ترن  يسلِّموا البهوات
ويقلَعُوا الحروف واحد ورا التانى و ع المناشر يكتِّفوا الهدوم
 وتقْرُص المشابك وتنزل الدموع مع الميه لو قلت حنفيات"
وحرف (التاء) من الأصوات المهموسة الانفجارية شديدة الوقع على السمع، مع قدرتها على الإيحاء اللمسي المضطرب، و(التاء) في نهاية الكلمات دلت على التفاهة في كلمة "البهوات" والضعف في كلمة "شلنات/ حنفيات"، لذا سرعان ما انتقل منها الشاعر منحرفًا بالصوت عن مساره من خلال حرف (الراء)؛ لنتأمل صدى تنغيم صوت الحرف في نفوسنا عبر آلية الاستبطان، فالراء حرف مجهور، متوسط بين الشدة والارتخاء؛ لأنه_أى حرف الراء_ أشبه ما يكون بالمفاصل من جسد النص، ولولا صوت حرف(الراء) لفقد النص مرونته؛ فبهجة الشاعر لا تتحقق دون رقة الراء وحلاوتها، يقول:
"يعجبنى لونك يا قوطه مش عشان دمك لكن عشان الأحمر 
حطَّـاه ومكسـوفه كأن واد  م الجن متغندر
قال الحكايه دى نادرة أنا قلت عندى م الكلام أندر"
يتخلل بهجة الشاعر العودة لجوف الحلق حيث التخفي مع حرف (الياء)؛ ولأن الاختفاء هنا لا يعبر عن سمات الشاعر النفسية، كانت العودة إلى طرف اللسان حيث الحدة والطلاقة والخفة والسرعة وإلصاقه_أى حرف الياء_ بحرف (النون)، بعدها يعود بالقافية إلى حرف (الراء) يقول:
"ما بين حروف صامتة وكلام ما طلعش والبير بيسقى العطشانين
وكل منقار وراه سرُّه بيسرح سرحة الراعى ورا الغنمات ويهش عنه بالعصا التعابين
 وياخد السم يقول له يا ترياق خليك لِحَنك الحبايب عنقودين سكر
ورمل السكة خالى م الحصى ناعم وهمُّه تقيل على الرجلين
وياما شال على ضهره ملوك خصيان ومكاسين ولاد جارية جُباه حافيين
وإيــــــه م الهند والألبان عرب رومان وإنس وجان وقبط بيرفعوا الصلبان مغول بربر
 يتخلل النص أيضًا صوت الحروف الهامسة (الفاء/ والهاء) الذي أضافه الشاعر إلى صوت حرف (الجيم) الانفجاري الدال على الاضطراب مرة، وصوت حرف (الخاء) الدال على العلو والتحليق مرة في قوله:
"وأجمل الطير اللى مالوش فى الجيفة يشرب حروفى الخفيفة"
فإذا كانت القراءة الثقافية تنتقل من مجرد رصد الصور الفنية إلى محاولة فهم قضية الشاعر المهموم بالتعبير عنها في سعيه إلى تحليل موقفه من العالم، فنحن بصدد الانتقال من التفسير النفسي (بالنظر في سلوك الأنا) إلى التفسير الاجتماعي (بالنظر في سلوك النحن)، ربما لذلك وجدنا أن الصورة الفنية لديه جاءت من التقريب بين واقعتين متباعدتين، مع سيادة احتفاظ الرسم الفوتوغرافي للصورة بعناصر الشىء وأبعاده وعلاقاته؛ فالصورة الفنية في الديوان الحالي هى الشكل الذي اختاره الشاعر ونظمه_وفقًا لحالته الانفعالية_ مستخدمًا طاقاته اللغوية (الصورة الصوتية) التي تمنح المتلقي المعنى الحقيقي من خلال (التوتر الأسلوبي)، وتمنحه المعنى الرمزي من خلال (تبدل الإطار). شكل(1)
حالة الشاعر الإنفعالية
صورة فنية
صورة صوتية
معنى حقيقي
معنى رمزي
في ديوان: ماتقفش عند بداية الحواديت وروح للسر، نجد أن اللغة المحملة سلفًا بسياقات تاريخية واجتماعية تحكم الشاعر وتتحدث من خلاله، وتشكيل الديوان في سطور دال على مخزون الشاعر اللاشعوري، كما أن تجزئة المعنى ورمزية اللعب بالأصوات وطريقة توظيفها من خلال الجُمل المشحونة بطاقات معرفية ارتكز على الصور الفنية القائمة على التمثيل الحسي للمعاني أولًا، والتجسيد الذي تم من خلال أنسنة الأشياء ثانيًا، يقول مثلًا:
"و وَالْسِت شبكة الظالم ونطقت فى الخلا بالعدل واتخلِّت عن المتهوم بعشق النور"
ثالثًا: الميكانيزمات الدفاعية كعمليات معرفية داخل النصوص
لكل ديوان من الدواوين محل الدراسة منطقه الخاص، ولكل خطاب رموزه؛ فيمكننا إدراك المعنى في النص من خلال إدراك المعطيات الدالة على المشترك الإنساني أولًا، والواقع المدرك الدال على خصوصية انفعال الشاعر بهذا المشترك الإنساني ثانيًا، ويمكننا فهم الرموز من خلال المعاني الحاضرة التي ندركها عبر القراءة الأولية، والمعاني الغائبة في صورتها الجوهرية التي ندركها عبر القراءة المتعمقة.
ربما لذلك لاحظنا تحرك الشاعر من مركزية الدال (بنية الذات) إلى دال آخر (رمزي أو متوهم أو مثالي) في ديوان: رجلي أتقل من سنة 67 مرتكزًا على ميكانيزم (الإسقاط) من خلال إزالة الفكرة أو الإحساس المزعج من الذات وإسنادها إلى الآخر (الوهمي/المتخيل) في الحاضر، أو محاورة الآخر (المثالي) التي ترتبط بالإحساس بنقص الكفاءة والسعي إلى الضبط الداخلي خاصة فى حال الصراع.
وميكانيزم (الإنكار) الذي يسيطر على الشاعر عندما يستدعى من الذاكرة، ويقوم من خلاله بربط انفعال سلبي بفكرة ما واقعية مدركة (اعتمادًا على تجاهلها أو تشويشها)، مع ملاحظة أن (الإنكار) يرتبط بالصعوبات النفسية والتمركز حول الذات وسيادة انفعال القلق.
 بينما في ديوان: صاحب مقام، وديوان: إخلص لبحرك كان ارتكاز الشاعر على ميكانيزم (التقمص) كمحاولة للتعبير عن واقع أصحاب المقامات المدرك، وواقع شخصيات أصحاب الحِرف، والتحدث بألسنتهم ارتكازًا على آلية (التخييل) والديالوج
وفي ديوان: ماتقفش عند بداية الحواديت وروح للسر، ارتكز الشاعر على ميكانيزم (التداعي الطليق) الذي يلخص لنا الكيفية التي تفلتت بها معطيات الشاعر من ذاته المعرفية إلى رصد الاشكاليات الناتجة عن التحولات المجتمعية.
 خاتمة:
على افتراض أن القراءة الثقافية من منظور نفسي تبدأ من النص وشخصية المبدع التي تتجلى خلفه لا من أعراف المجتمع وقوانين الجماعة السيكولوجية؛ فإذ أخذنا الظاهر فقط معناه محاصرة وعى الشاعر (الإرادة/ المسؤولية)؛ لأن النصوص التي تناولتها بالبحث والقراءة  اشترطت المعرفة من حيث المعجم اللفظي، والتراكيب (فاللغة باعتبارها الشرط الأساسي للوعى الذاتي هى النسق الذي يمكننا أن نصل من خلاله إلى الأنساق الأخرى والتي تدلنا بدورها على أسلوبية الشاعر النفسية) والمضامين والأنساق الثقافية، وهوية الشاعر المعرفية المتعلقة بالسياق المجتمعي وقدرته على التأريخ لهذا السياق.
في الدواوين محل الدراسة، النصوص إنتاج لاواعي شبيه بالحُلم، ولغة الشاعر هى التي أعادت صياغة العالم والوقائع الحياتية الحاضرة، أو الآتية من الماضي عبر آلية الاستدعاء من الذاكرة لإنتاج معاني جديدة، ربما لذلك كان مكون الوصف أقرب إلى التأويل الهذياني لمفردات العالم الخارجي، والاستناد إلى الذات العارفة القادرة على التساؤل واتباع آليات تفعيل الوعي لدى المتلقي.
عبر الشاعر عن أفكاره بكيفيات غير مباشرة اعتمادًا على تشكيلات لغوية مختلفة، وكأن هدفه الأصلي هو أن يشاركه المتلقي في إنتاج النص؛ ولذلك انصرف أحيانًا عن الواقع واتجه باهتمامه إلى الخيالي والوهمي؛ فرأيناه يتفاعل تلقائيًا مع وجدانه مفرطًا في مزج الحقيقي المدرك بالمثالي بحثًا عن المعنى المجسد؛ فهو الذي اهتم بالمهن التراثية وأصحابها، وبعث وظيفتها بموضوعية من خلال الامتداد خلف سطحها الظاهر؛ فالنصوص في ديوان: إخلص لبحرك حوامل للأنساق الثقافية؛ لذلك جاءت بصياغاتها الممتلئة بالمعاني والأفكار الدالة على العلاقات السوسيولوجية داخل المجتمع ككل، ومشبعة بالرموز أيضًا، وهو الذي قام ببعث الرغبات الطفلية في ديوان: رجلي أتقل من سنة 67 من أجل إيجاد علاقة بالواقع (الموضوع)، لنرى المسكوت عنه كمكبوت نسقي.
 وفي ديوان: ماتقفش عند بداية الحواديت وروح للسر المعطيات النفسية قائمة في المقام الأول على إعمال العقل وليس مجرد الحدس والنظرات التأملية، إذ لا يمكن تناول النص دون النظر إلى الأحوال الذهنية التي أفرزته؛ كأن انحراف الشاعر من الظاهر الممتع فقط إلى الباطن الذي يعتمل فيه السياق سببًا من أسباب فرادته، والأسلوب هو نظرته إلى الموضوع نفسه، وميكانيزمات الدفاع النفسية هى جهات النظر التي تدلنا على سيرة الشاعر الذاتية، ربما تم ذلك؛ لأن مفردات الشعر العامي قائمة على توليد المعاني والغرابة من حيث استسلام الشاعر لسلطة الافتراضات المتضاربة التي أضافت غموضًا أكبر على وظيفة النص.
في ديوان: صاحب مقام سار الشاعر في أنوار الصفاء القلبية ليتقلب في أحوال أصحاب المقامات، بدءًا من مقامه هو باعتباره أساسًا للفعل ودافعًا للبحث وعارفًا بجذور المعطيات النفسية، ومن حيث السياق الإيقاعي للنصوص جاءت الأبعاد الانفعالية التأثيرية في لغة الشاعر معتمدة على (إجبار التكرار) كآلية لها فاعلية موسيقية تسهم في طبع الصور الفنية وتثبيت المعاني في ذهن المتلقي.
يمكننا الآن الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في المقدمة؛ لأن الكتابة كفعل نسقي في الدواوين يمكننا تناولها من خلال فهم وظيفتها؛ ففي ظل تقاطعات المعرفي بالوجداني تسربت رغبات الشاعر ومخاوفه وتجاربه الحياتية إلى أفكاره؛ ذلك أن تكاملية المعنى اقتضت منا ربط النصوص بمحيط الشاعر الثقافي، وجوهر الصور الشعرية لديه الذي اعتمد على حسه الانفعالي في المقام الأول.
رغمًا عن كل ما قلت من حيث وعى القراءة وتقديم مقاربة جادة في دراسة الدواوين، يبقى الشاعر والباحث مسعود شومان عصيًا على البحث.