منذ العصور الاستعمارية، تمثلت هجرة اليهود إلى الولايات المتحدة الأمريكية كجزء حيوي من تطورها الثقافي والاجتماعي.
وحتى عام 1830 في مدينة تشارلستون، ساوث كارولينا، تأسس أكبر تجمع يهودي في أمريكا الشمالية، ولعبت تلك الجالية دورًا مهمًا في الحياة الاقتصادية والثقافية للمدينة.
ومنذ ذلك الحين، شهدت أمريكا تدفقًا متزايدًا لليهود من أنحاء العالم، مما أثر بشكل كبير في الثقافة الأمريكية.
وازدهرت أسماء عالمية كبيرة كالفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين، ورائد علم النفس سيجموند شلومو فرويد، وقدم اليهود المهاجرون إسهامات في الأدب الأمريكي والسينما والموسيقى مثل الكاتب الحائز على جائزة نوبل إيزاك بيشفيس سينجر، والحائز على نوبل سول بيلو، وآرثر ميلر، كما شكلوا كذلك جزءًا لا يتجزأ من مشهد هوليوود الذي ازدهر بفضل صناع الفنون البصرية أمثال ستيفن سبيلبرج، وودي آلان وستانلي كوبريك، ومنتج الكوميكس الشهير ستان لي صاحب شخصيات سبايدرمان والعملاق الأخضر، والكاتب جيرى سيجل والفنان جوزيف شوستر مبتكر شخصية سوبرمان أيقونة الثقافة الأمريكية، أولئك وغيرهم الكثير أثروا في الحياة الثقافية والاجتماعية للولايات المتحدة الأمريكية، وصاروا جزءاً لا يتجزأ من تشكيل الهوية الأمريكية المعاصرة بكل ما تحمل من تناقضات.
من بين هؤلاء وُلد نعوم تشومسكي (Avram Noam Chomsky) في السابع من ديسمبر عام 1928، في حي إيست أوك لين بفيلادلفيا، ولاية بنسلفانيا، لوالدين يهوديين مهاجرين من الإمبراطورية الروسية هما ويليام تشومسكي وإلسي سيمونوفسكي. هرب ويليام من التجنيد الإجبارى في روسيا وعمل في مصانع بالتيمور وأصبح مديرًا لمدرسة دينية في فيلادلفيا، وبينما كانت إلسي تدرس في نفس المدرسة وتعمل على نقل أفكارها اليسارية وقضاياها الاجتماعية إلى أبنائها.
نما نعوم وشقيقه ديفيد في بيئة ثقافية غنية بالتراث اليهودي.
كان منغمسًا في القراءة السياسية منذ صغره، وبدأ بنشر مقالاته وهو لا يزال في سن العاشرة، انشغل بدراسة اللغات والفلسفة أثناء دراسته الجامعية في جامعة بنسلفانيا، وتأثر بالفلسفيين واللسانيين البارزين وأسس لفكره النقدي والنظري.
كما قرأ لمفكرين سياسيين آخرين أمثال الأناركيين ميخائيل باكونين ودييجو آباد دي سانتيلان، والاشتراكيين الديمقراطيين جورج أورويل، وبرتراند راسل، وأعمال الماركسيين كارل كورش وروزا لوكسمبورغ.
ثم تخرج تشومسكي من هارفارد بدرجة الدكتوراه في الفلسفة، وسرعان ما أصبح جزءًا من مجتمع أكاديمي مرموق، حيث ساهم في تطوير نظرياته في اللسانيات ونشر أعماله التي أثرت في التفكير الأكاديمي والسياسي.
في شبابه، كان لدى تشومسكي شعور عميق بالاشمئزاز من الرأسمالية والسعي المكثف وراء الاستهلاك وتراكم الثروات، في الوقت نفسه، كان ينظر إلى الاشتراكية الاستبدادية بانزعاج، كما تجسدت في السياسات الماركسية اللينينية للاتحاد السوفيتي.
وبدلاً من قبول النطاق الواسع للنظم الاقتصادية التي تتراوح بين الملكية الكاملة للدولة والملكية الخاصة الكاملة، اقترح نعوم وجود طيف واسع يمتد من السيطرة الديمقراطية الكاملة إلى السلطة الاستبدادية المطلقة، سواء كانت حكومية أو خاصة.
كان يعتبر أن الديمقراطية الحقيقية تتطلب مشاركة الأفراد في صنع القرارات الاقتصادية العامة، مما دفعه لانتقاد النخب الحاكمة، بما في ذلك مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
المُعلم
يعد تشومسكي نموذجًا حيًّا للمُعلم المُلتزم، وقد استمر في مسيرته التعليمية والأكاديمية حتى بلغ من العمر عتيًّا، مما جعله رمزًا للمعرفة والتعليم عبر الأجيال. يتجلى في تاريخه الأكاديمي الطويل وشغفه بالتدريس عمق شخصيته كمعلم ومُثقف.
وقد بدأت رحلته التعليمية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عام 1955، حيث ألقى أولى محاضراته في علم اللغويات. وفي عام 1957، نشر كتابه "البنى النحوية" (Manufacturing Consent)، الذي أسس نظرية النحو التوليدي وأحدث ثورة في دراسة اللغة.
ولم يكن تأثير تشومسكي مقتصرًا على نشر الأبحاث فقط، بل امتد إلى قاعات المحاضرات حيث كان يتفاعل مع الطلاب بطرق تحفز التفكير النقدي والاستقلال الفكري.
وقد عرف بمنهجه التفاعلي والشخصي في التعليم، إذ يعتبر التعليم عملية تنموية تساهم في تشكيل العقول وتحفيز الفضول الفكري، وليس مجرد نقل للمعلومات.
وكان يركز على تشجيع الطلاب على التفكير بأنفسهم وتحدي الأفكار السائدة.
حتى بعد تجاوزه التسعين عامًا، استمر في تقديم المحاضرات والندوات باستخدام وسائل التواصل الرقمية، مدفوعًا برغبة حقيقية في التواصل مع الأجيال الجديدة وتبادل الأفكار.
تستطيع أن تلاحظ ذلك من خلال استعراض بعض لقاءاته مع طلابه على شبكة الانترنت، حيث كان يرى في التدريس وسيلة للمساهمة في تطوير المجتمع من خلال تمكين الأفراد من التفكير النقدي والمساهمة في التغيير الاجتماعي.
لذلك لم يقتصر تأثيره على مجال اللغويات فقط، بل امتد ليشمل الفلسفة والسياسة والعلوم الاجتماعية. وقد تحوّل العديد من طلابه إلى قادة فكريين وناشطين يستخدمون العلم والمعرفة لتحليل واقعهم، خاصة فيما يتعلق بالأنظمة القائمة.
وقد ترك أسلوبه التعليمي القائم على الحوار والتفاعل أثرًا دائمًا في تشكيل عقول ناقدة ومستقلة، وأثرًا لا يمحى في المجتمع الأكاديمي ككل.
العالِم
بفضل إسهاماته العميقة والمتعددة في عدة مجالات علمية مثل اللغويات، الفلسفة، وعلم النفس، يُعَدّ تشومسكي أحد أبرز المفكرين في العصر الحديث، حيث بصم بنظرياته الثورية على فهمنا للغة والعقل البشري.
ففي مجال اللغويات، يُنسب إليه تأسيس النظرية التوليدية، التي نشرها في كتابه "البنى النحوية". تركز هذه النظرية على فكرة أن البشر يولدون بقدرة فطرية على تعلم اللغة، كما تقدم بمفهوم "النحو الكلي" الذي يفترض وجود قواعد لغوية عالمية مشتركة بين جميع اللغات.
وقدم أيضًا نظرية القواعد التحويلية لوصف هياكل الجُمل وعمليات التحويل التي تمكن توليد البنية السطحية للجُمل. وبينما يُنكر تشومسكي التفسيرات التجريبية التي تقترح أن التعلم اللغوي يعتمد على الخبرات الحسية فقط، يؤكد على البنية الفطرية والمُعقدة للعقل البشري في تعلم اللغة.
أما في الفلسفة، فقد ساهم تشومسكي في فهم علاقة الفكر واللغة، حيث يدعم وجود نماذج داخلية تفسر تفاعلات العقل البشري مع الأنظمة الرمزية. وتبنى موقفًا عقلانيًا ينفي أن كل المعرفة تأتي من التجربة الحسية، مما أدى إلى تطوير نظرية العقل الفطري كمفهوم أساسي في فهم العقل البشري.
وفي مجال علم النفس، يعد تشومسكي من الرواد في تأسيس علم النفس المعرفي، حيث يُركز على الهياكل العقلية الداخلية ودورها في مُعالجة المعلومات وفهم السلوك البشري.
وقد قدم مفهوم الجهاز اللغوي الفطري كآلية معرفية داخلية تسهم في اكتساب اللغة وفهمها.
المُناضل
عبر عقود من الزمن، لم يكن نعوم تشومسكي مجرد باحث أكاديمي، بل كان صوتًا مؤثرًا معارضًا لسياسيات أمريكا العدوانية.
من خلال أسلوبه الحاد في الكتابة، محاضراته الملهمة، ومقابلاته المثيرة، استطاع تشومسكي أن يُقدم نقدًا لاذعًا للسياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وتأثيره على الساحة السياسية بدأ في ستينيات القرن الماضي، خلال فترة الحرب الفيتنامية، كان لافتًا بانتقاده الشديد للتدخلات العسكرية الأمريكية في جنوب شرق آسيا.
وأحد أبرز أعماله، "القوة الأمريكية والبيروقراطية الجديدة" American Power and the New Mandarins))، من بين أولى الكتب التي انتقدت بشدة التدخل الأمريكي في فيتنام، مناقشًا للتكاليف الإنسانية والأخلاقية الهائلة لتلك الحرب.
وفي عام 1988 شارك في تأليف كتاب "إنتاج الموافقة: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية" (Manufacturing Consent: The Political Economy of the Mass Media)، الذي قدم تحليلاً عميقًا لكيفية تشكيل الرأي العام من خلال وسائل الإعلام، ودورها في دعم السياسات الحكومية ومصالح النخب السياسية والاقتصادية.
وربما يعكس موقفه من الحرب على العراق (2003) التزامه بالعدالة الدولية وحقوق الإنسان، حيث ندد بشدة بالحرب باعتبارها عملاً عدوانيًا غير مُبرر، يخالف القوانين الدولية ومبادئ الأمم المتحدة.
وأكد على أن دوافع الحرب ترتكز بشكل أساسي على السيطرة على موارد النفط العراقية وليس على نشر الديمقراطية كما زُعم. كما أشار إلى أن الإدارة الأمريكية استخدمت ادعاءات مزورة لتبرير الغزو، معتبرًا ذلك جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
وبعد سنوات على الحرب، تبينت النتائج الكارثية التي حذر منها تشومسكي، بما في ذلك الفوضى والعنف المستمرين، وارتفاع حجم الأضرار الإنسانية والمعاناة في العراق والمنطقة بأسرها.
وانتقد بشدة الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش الابن وأعضاء إدارته مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، محملاً إياهم مسؤولية الكذب والخداع الذي أدى إلى الحرب.
كما انتقد الكونجرس الأمريكي لعدم الوقوف بوجه هذه السياسة العدوانية.
فلسطين
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يُعَدّ تشومسكي من الدعاة الرئيسيين لحقوق الفلسطينيين، حيث يناصر بقوة حقهم في تقرير مصيرهم وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
ويؤكد أن الفلسطينيين يعانون من نظام احتلال وقمع شديدين، وأن الحل العادل يتطلب الاعتراف بحقوقهم الأساسية، بما في ذلك حق العودة للاجئين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967.
كما يرى أن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين ليس مسألة سياسية فقط، بل هو موقف إنساني وأخلاقي يجب أن يتبناه كل من يؤمن بالعدالة والحرية. وينتقد بشدة السياسات الإسرائيلية والدعم الأمريكي المستمر لها، الذي يشمل التمويل العسكري والسياسي.
كما سلط الضوء على حروب الإبادة الإسرائيلية على غزة والتي يعتبرها جزءًا من سياسة أوسع تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتدمير بنيته التحتية، معتبرًا الردود الإسرائيلية عادةً ما تكون غير متناسبة وتؤدي إلى ضحايا مدنيين بشكل كبير بمن فيهم النساء والأطفال. كما اعتبر التغطية الإعلامية الغربية للحروب في غزة غالباً ما تكون منحازة وتفتقر إلى التوازن، مما يساهم في تشويه الحقائق وتقليل التعاطف الدولي مع معاناة الفلسطينيين.
ويعتبر الصهيونية كنظام سياسي بنيت على تجاهل حقوق أصحاب الأرض واستغلالهم. ويشير في كتاباته ومحاضراته، إلى أن الصهيونية، منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر، سعت لتحقيق مشروع استيطاني استعماري، أفضى إلى طرد وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين خلال النكبة عام 1948.
جوائز
تحظى أعمال تشومسكي بتقدير عالمي واسع يظهر من خلال العديد من الجوائز التي حاز عليها.
فقد فاز بجائزة كيوتو العام 1988 في مجال الفلسفة وعلم النفس، وهي جائزة عالمية مرموقة تعكس اعترافها بأبحاثه ومساهماته الثورية في فهم اللغة والعقل البشري.
حصل أيضًا على ميدالية بنجامين فرانكلين في عام 2010، تكريمًا لفهمه العميق للغة البشرية ومساهماته في علوم الكمبيوتر والمعرفة.
ومن جوائز أخرى، فاز بجائزة هيلج عام 2004 وجائزة إراسموس عام 2010، بالإضافة إلى جائزة أميرة أستورياس الإسبانية للعلوم الاجتماعية عام 2008، جميعها تقديرًا لإسهاماته المتميزة في اللغويات النظرية والفلسفة.