طاهر القلب، طاهر اليد، جم الحياء، صلب الإرادة، ثابت العقيدة، متدفق المعلومات، سهل الأسلوب، حاضر بشخصه ووجدانه فيما يكتبه، صاحب حس فنى شديد، ولع بدراسة الشخصيات والتاريخ، يمتلك الكثير من القوى الأخلاقية والشجاعة الأدبية، وتؤكد مسيرته أن سلطان الكلمة أقوى من كلمة السلطان، عاشق متصوف فى محراب الوطن، جعل السياسة فناً، والجهاد فلسفة، والحياة صراعا ضد الاحتلال والظلم والقهر والفساد، حفر على جدران السجن بعضا من ذكرياته، فنان أديب، كاتب مسرحى، فاعل فى السياسة، المؤرخ المثقف، المجاهد المقاوم فى سبيل الحق والعدل والخير والجمال، حكاء عظيم، له حضور جذاب، خطيب مفوه، صال وجال فى ساحات المحاكم، فهو المحامى القدير، الذى جعل عقله فى السياسة، وقلبه فى الأدب والفنون، وكان شعاره «كل تضحية فى سبيل الوطن واجبة»، واسع الاطلاع فى الأدب العربى والأجنبى، أسلوبه متدفق سيال، يمتلك الاصالة فى المعنى، والجزالة فى الأداء، اجتمعت فى شخصه هوية مصر، فهو المثقف المصرى الوطنى العربى المسلم، أديب مفكر، ومناضل سياسى ثورى، حياته نموذج لتطابق الفكر مع السلوك الإنسانى، يضع الوطن فى قلبه وعينيه، ويستثمر مواهبه فى خدمة القضايا الوطنية، امتلك صفاء العبارة ووضوحها، متعدد المواهب، اعتصم دوماً بمبادئه، وهو يناضل من قلب الشارع، أو من داخل السجون، أو من على كرسى الوزارة.
إنه السيد فتحى رضوان شيخ المجاهدين، الذى اشتهر باسم فتحى رضوان، وتمتد جذوره إلى إحدى قرى مدينة بلبيس بالشرقية، حيث يوجد مقام جده الأكبر هناك، ولكنه ولد فى مدينة المنيا بصعيد مصر – يوم 7 مايو 1911، وتم تسجيله يوم 14 مايو، وذلك لأن والده كان دائم التنقل بين محافظات مصر، نظرا لعمله مهندساً للرى، وبعد عدة سنوات فى المنيا، عاد إلي القاهرة ليسكن مع أسرته فى شارع سلامة بالسيدة زينب، وقد امتلك هذا الحى العريق كل خلايا فتحى رضوان طفلا وصبيا وشابا، وكتب عنه عشرات المقالات، وكتابين من بين ثلاثة كتب تمثل سيرته الذاتية (الخليج العاشق – خط العتبة) ومعهما (محام صغير).
استطاع فتحى رضوان منذ شبابه الباكر – تضفير السياسة بالأدب، حيث امتلك شخصية ديناميكية، تتسم بالنشاط والحيوية والدأب، فراح يكتب فى كافة المجالات (الأدب – التاريخ – الدين – القانون – الفن – السياسة)، بأسلوب موسوعى وبيان عربى مبين، وفكر عميق، وإخلاص فى طلب الحقيقة، وكانت الكتابة الأدبية هى الأسبق، والتى بدأت منذ دراسته الثانوية فى عشرينيات القرن العشرين، ثم الكتابة الصحفية، التى بدأت من خلال مجلة (الصرخة)، ثم أصبح من كتاب الهلال بداية من فبراير 1933، وحتى وفاته فى أكتوبر 1988، كما كتب فى العديد من الجرائد والمجلات.
وفى كل كتاباته يكشف عن مناضل من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية وحقوق الإنسان، مما يضعه فى إطار المفكر الاجتماعى والفيلسوف.
وقد اتسمت كتاباته بالحماسة والعمق، ودقة الأداء، فهو رجل القانون الذى يضع كل كلمة فى مكانها، يدعو إلى الاستقلال الثقافى والاجتماعى، ويكمن مفتاح شخصيته فى الوطنية، كما اشتهر فى مجال المحاماة بمقدرته القانونية والخطابية، التى تجعله يهز المنابر، ويؤثر فى النفوس، ويكتسب إعجاب سامعيه، والأهم أن يحصل على براءة موكليه، الذين يتهمون ظلما فى القضايا السياسية.
قد تم اعتقاله فى يناير 1952 بعد إعلان الأحكام العرفية، فى أعقاب قيام الإنجليز بحرق القاهرة فى 26 يناير 1952، وتم اعتقاله من دون توجيه أى إتهام له، وربما لأفكاره الثورية، تلك الأفكار التى كان يقول عنها (الأفكار مهما كانت مهمة، لا تكتسب قيمتها إلا بالاتصال بالجماهير، من خلال تقديمها لهم، ليتفاعلوا معها)، وكان أمر اعتقاله قد صدر من على ماهر رئيس الوزراء، وكان رأيه فى ماهر شديد السلبية، فهو أحد الذين أفسدوا الملك فاروق، وهو صاحب فتوى حساب عمر فاروق بالهجرى عند توليه الحكم، حتى يكسب خمسة أشهر ونصف، تجعله صالحاً لتولى الحكم، ومن عجائب القدر أن على ماهر هو رئيس الوزراء، الذى سيشهد تنازل فاروق عن الحكم ، وخروجه مطروداً من مصر.
وأثناء اعتقاله حصل فتحى رضوان على حكم بالإفراج عنه من القضاء الإدارى فى 26 يونيه 1952، ولكن الحكومة لم تنفذ الحكم، وكان معتقلا فى معتقل الهايكستب، والذى كان من قبل معسكراً أمريكيا ومخزنا للسلاح، وهو الآن مطار القاهرة الدولى، وكان معه راديو صغير، وفجأة سمع من خلاله خبر قيام ثورة 23 يوليو، فأصبح على يقين بالإفراج عنه وعن كل المعتقلين، وفى ظهر الخامس والعشرين من يوليو جاءه أحد ضباط المعتقل، ليخبره بالإفراج عنه وبأن عليه أن يذهب إلى الأسكندرية، لمقابلة رئيس الوزراء على ماهر فى السادسة مساء، فذهب إلى بيته أولا ثم سافر إلى الأسكندرية بالطائرة، وعندما ذهب إلى مقر مجلس الوزراء فى (بولكى) علم أن صديقه سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة، هو من طلب من على ماهر الإفراج عن رضوان لأنه يعرف ضباط الثورة، والتقى رضوان وماهر الذى سأله عن ضباط الثورة، فقال إنه لا يعرف منهم إلا أنور السادات، الذى كان أحد المتهمين فى قضية مقتل وزير المالية أمين عثمان عام 1946، ذلك الوزير الذى وصف علاقة مصر مع إنجلترا بأنها (زواج كاثوليكى)، وكان من ضمن المتهمين محمد إبراهيم كامل – سعد كامل – عبدالعزيز خميس – حسين توفيق – وقد ترافع فتحى رضوان عن أعضاء هذا التنظيم السرى، الذين تأثروا كثيرا بأفكاره السياسية وجاء أنور السادات مع محمد نجيب لمقابلة رئيس الوزراء، واتفق مع رضوان على اللقاء ظهر اليوم التالى.
وفى صباح 26 يوليو تسارعت الأحداث ، حيث تم حصار قصرى رأس التين والمنتزة، وجاء محمد نجيب وأخبر على ماهر بأن مجلس قيادة الثورة قرر عزل الملك، وتم تكليف عبدالرازق السنهورى رئيس مجلس الدولة ووكيله سليمان حافظ، بإعداد وثيقة التنازل عن العرش، وذهب حافظ إلى الملك فى قصر رأس التين، والذى قرأها وقال إن المكتوب أن أتنازل طبقا لإرادة الشعب، وأحب أن أضيف وإرادتى، فقال له حافظ إن التعليمات إما أن توقع عليها كما هى أو ترفضها، فأخذ الملك فاروق الوثيقة ووقع عليها.
وبعد عزل الملك قرر فتحى رضوان التفرغ للأدب والمحاماة، وسافر إلى رأس البر لقضاء عشرة أيام، وفى يوم عودته التقى مصادفة فى نادى هليوبوليس بالضابط عبدالمنعم النجار أحد الضباط الأحرار، والذى عاتبه لأنه لم يأت لزيارة قادة الثورة، كما فعل كل السياسيين، وسأله تحب أن تلتقى بأى منهم ؟ فقال أنور السادات، وظهرت علامات الدهشة على وجه النجار، وقال سأرتب لك موعداً مع رئيس اللجنة السياسية البكباشى جمال عبدالناصر، أو الصاغ عبدالحكيم عامر، وبعد يومين اتصل به، وقال له لديك موعد مع عامر يوم الجمعة، وذهب إلى موعده وسأل عامر لماذا اخترتم على ماهر رئيسا لأول وزارة بعد الثورة، وهو الذى أفسد فاروق بإبعاده عن الشعب وعن الديمقراطية، ثم أضاف لابد من تغيير النظام بأكمله بمؤيديه ومعارضيه، والبحث عن أفكار، وكفاءات جديدة، وفى نهاية اللقاء قال عامر بعد غد الأحد اجتماع مجلس قيادة الثورة، أدعوك لحضوره لتقول مرة أخرى ما سمعته منك الآن.
وذهب رضوان فى الموعد ودخل إلى الاجتماع، وجلس إلى جوار جمال عبدالناصر، ولم يكن يعرفه، ولكن عبدالناصر أخبره بأنه كان من شباب مصر الفتاة، وكان حريصا على حضور خطبه ومحاضراته، وكرر رضوان ما سبق أن قاله لعبدالحكيم عامر، وجاءت تعليقاتهم شديدة الايجابية، فهو أول إنسان يأتى إليهم ولا يطلب شيئا لنفسه أو لحزبه، ولم يقل إنه الأفضل وغيره هم الأسوأ، ولكنه تحدث عن مصلحة الوطن بشكل عام، فسألوه ترشح من لرئاسة الوزراء فقال سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة، ويؤكد رضوان أنه منذ اللحظة الأولى التى دخل فيها اجتماع مجلس قيادة الثورة، أدرك أن جمال عبدالناصر هو قائد هذه الثورة، فهو هادىء ينصت جيدا، شديد التركيز، وله حضور حاسم.
بعد يومين التقى سليمان حافظ مع فتحى رضوان، وأخبره بأنه قد اعتذر عن تشكيل الوزارة، ورشح بدلا منه محمد نجيب، وطلب من رضوان حضور اجتماع مجلس قيادة الثورة، الذى سيعلن تشكيل الوزارة الجديدة، وفى الاجتماع الذى تم يوم 7 سبتمبر وهو اليوم الذى قبلت فيه استقالة وزارة على ماهر، حضر فتحى رضوان الاجتماع، وكان المدنى الوحيد بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وطلبوا منه تقديم ترشيحات، وتم قبول كل الأسماء التى رشحها مثل محمد صبرى منصور، حسين أبوزيد، أحمد فراج طايع، كما تم رفض ترشيحات جماعة الإخوان، وتم تعيين الشيخ أحمد حسن الباقورى وزيراً للأوقاف على غير رغبة الجماعة، كما تم تعيين فتحى رضوان وزيراً للدولة وبعد شهرين (نوفمبر1952) تم إنشاء وزارة الإرشاد القومى، واختار عبدالناصر فتحى رضوان لتولى هذه الوزارة، التى ستعمل على نقل أفكار ورؤى الثورة إلى الشعب، وقال له هذه وزارة مهمة كان يجب أن أتولاها شخصيا، وأنت تعلم إنك (بعض نفسى) ، ولذلك أثق فى قدرتك على إنجاح هذه الوزارة.
ولم ينس فتحى رضوان الاهتمام بالمسرح.. فغرس جذور النهضة المسرحية العملاقة.. من خلال تقديم روائع المسرح العالمي.. كما أعاد الحياة إلى أوركسترا الإذاعة.. واهتم كثيراً بالبرنامج الثانى في الإذاعة.. وكان عبدالناصر.. قد رفض المساس بقوة بث هذا البرنامج.. عند إنشاء إذاعة صوت العرب عام 1953.
وكانت كل هذه الإنجازات تتم بدعم مباشر من عبدالناصر.. ورغم ذلك أعلن فتحى رضوان غضبه.. من إصدار حكم الإعدام على الإخوان المتورطين فى محاولة اغتيال عبدالناصر عام 1954.. خاصة وأن فيهم زميل دراسته عبدالقادر عودة.. فقال عبدالناصر لزكريا محيي الدين "ارسل له الأحكام ليقرأها إننا أصحاب ضمائر ولسنا قتلة".. واعتكف رضوان فى بيته عدة أيام.. فذهب له وزير العدل أحمد حسنى "كان من أصدقاء حسن البنا".. وأكد له أنه قد قرأ حيثيات الحكم.. وأن ضميره المهنى والإنسانى مستريح تماماً.. فاقتنع رضوان بكلام زميله وزير العدل وعاد إلى العمل.
وقد أكد فتحى رضوان كثيراً بعد تركه الوزارة مدي الحرية التى كان يتمتع بها داخل مجلس الوزراء "استخدمت حقى فى نقد السلبيات والأخطاء أمام عبدالناصر.. وأشهد الله أنه لم يضق أبداً أبداً بأى نقد.. لم يحدث مطلقاً أن ضاق صدره بأية ملاحظات.. أو تحفظات.. مهما بلغت قسوتها.. وهذه حقيقة للتاريخ".
وكان رضوان يوافق عبدالناصر فى أن العقول المتحجرة.. وليس اللوائح هى التى تقيد حركة الإنشاء والإبداع.. وكان عبدالناصر يسمع الرأى الآخر ويحترمه وينفذه.. ولذلك أخذ بنصيحة الوزير فتحى رضوان.. بعدم السفر إلى مؤتمر لندن.. الذى دعت إليه إنجلترا بعد تأميم قناة السويس عام 1956.. وكان عبدالناصر عميقاً فى تخطيطه وغير متسرع.. ولذلك رفض اقتراح أعضاء مجلس قيادة الثورة.. باعتقال محمد نجيب فى 26 فبراير عام 1954.. لأنه كان محمياً بالإخوان.. وأصبح قرار عزله سهلاً فى نوفمبر من ذات العام.. بعد إبعاد الإخوان نتيجة تورطهم فى محاولة اغتيال عبدالناصر.
ويؤكد فتحى رضوان أن ثورة يوليو – والذى كان أحد المبشرين بها.. قد غيرت وجه المجتمع المصرى.. وأدخلت فيه العشرات من أسس الحكم.. وأساليب التفكير.. وطرق بناء المجتمع.. وهى الثورة العربية الأولى.. التى استهدفت التغيير فى الإقليم الذى قامت فيه.. تغييراً يتناول الأسس.. وقد نجحت فى قيام الثورة ذاتها.. والأهم أنها نجحت فى ثباتها واستقرارها.. وقد حققت ثورة يوليو كل أحلام الأجيال التى حلمت بالتغيير.. وخاصة الغالبية العظمى من الغلابة والبسطاء.
وقد خرج كل هذا الإبداع المستنير.. نتيجة العزلة الاختيارية التى فرضها فتحى رضوان على نفسه.. بعد تقديم استقالته من الوزارة عام 1958.. تلك الاستقالة التى جاءت نتيجة إصابة رضوان ببعض المشاكل فى القلب.. ويتردد أنه لم يكن راضياً عن ترك وزارة الثقافة بعد الوحدة مع سوريا.. تلك الوزارة التى تولاها صلاح البيطار.. وانتقل رضوان ليصبح مسئولاً عن وزارة المواصلات.. المهم أن ابتعاده عن العمل التنفيذى أثمر كل هذا الإبداع الذى يصب فى قضيته الرئيسية – وهى الدفاع عن حرية الوطن والمواطن وحقوق الإنسان.. ليتحول إلى قائد ثقافى – وصاحب دور ريادى فى تنمية العمل الثقافى المصرى والعربى رسمياً وشعبياً.
واستمر فتحى رضوان فى عزلته المنتجة وكتب يهاجم وينتقد السادات.. وعندما غضب السادات من كثرة منتقديه.. كتب فتحى رضوان مقالاً عن الفرق بين الوطن وحكامه الزائلين.. ولكل ذلك كان فتحى رضوان على رأس القائمة التى اعتقلها السادات فى سبتمبر 1981 "أكثر من 1500 من رموز مصر فى كل المجالات".. وتسارعت الأحداث.. لتمكن الجماعات المتطرفة من اغتيال السادات يوم 6 أكتوبر 1973.. ويأتى الرئيس مبارك ليفرج عن كل المعتقلين.. ويخرج فتحى رضوان ليواصل مسيرته الإبداعية والنضالية – حتى رحل عن دنيانا فى 2 أكتوبر 1988.. لتودعه مصر الوداع الذى يليق بهذا المناضل الكبير.. ويتم دفنه إلى جوار زعماء الحزب الوطنى.. مصطفى كامل – محمد فريد – عبدالرحمن الرافعى.