الخميس 21 نوفمبر 2024

كنوزنا

قصص دار الهلال النادرة| «عفريت أم خليل» قصة قصيرة لـ محمود تيمور

  • 18-7-2024 | 15:16

عفريت أم خليل

طباعة
  • بيمن خليل

يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر في 1 أغسطس 1929، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة بعنوان "عفريت أم خليل" للكاتب محمود تيمور، الذي كتبها وهو في سويسرا يوم 20 يونيو من نفس العام، تدور القصة حول شخصية "شعبان أفندي" الذي يعيش حياة متقاعدة ومنعزلة بعد تقاعده من وظيفته، حيث يبدأ في نسج قصص خيالية عن لقاءاته مع العفاريت، مما يجعله يحظى بشهرة واسعة كرجل شجاع يرى العفاريت ويتفاخر بتجاربه، ولكن في النهاية يُفضح وتُكشف أكاذيبه، وتنقلب هذه القصص عليه.

نص القصة

-1-

شغل "شعبان أفندى الجمل" وظيفة معاون بدائرة سعد الله بك ثلاثين سنة ونيفا، ثم اضطرته الشيخوخة أن يتخلى عن عمله فتركه غير آسف عليه، ولكنه رأى أنه مادام يقبض من خزينة مولاه معاشه الكامل حق عليه الحضور يوميا إلى مقر وظيفته السابق ولو لم يكن له من عمل يقوم به، وقد قنع بمصاحبة "عم سيد" البواب دون سائر الموظفين، فلا يرى إلا في حجرته إذا كان الطقس رديئا أو أمام البوابة معه إذا كان الطقس معتدلا، وهو بجلسته المتراخية وبيده المنشة يداعب بها الذباب من حين لآخر أشبه الناس بهؤلاء المخلوقات البله المدعين الولاية، الذين تراهم على أبواب الجوامع وأضرحة الأولياء ينتظرون الإحسان من الزائرين، وكثيرا ما يقطع الوقت نائما على مقعده، ويسامره عم سيد البواب إبان يقظته بحديث ساذج لا يتغير عن الصلاح والتقوى ونصيب المؤمنين في الدار الأخرى.

وكان "شعبان أفندي" يكره سرًا هذه الأحاديث ولا يسمعها إلا مضطر لأنه لم يكن من الصلاح في شيء،  فقد أهمل فرض الصلاة من زمن قديم كما أهمل فرض الصيام من عهد قريب، وله مزاج في الخمر لا يعرفه إلا صاحب الحان القريب من منزله ولأمر ما تغيرت مسامرة "عم سيد" البواب يوما من الأيام فأخذ يروي باهتمام زائد قصة شائقة سمعها من أحد أصحابه في الجامع عن دار سكنتها العفاريت منذ وقت قريب وطردت السكان منها وبعد أن أتم قصته سأل شعبان أفندي قائلا:

_ هل رأيت العفاريت في حياتك يا أفندي؟

فتمهل "شعبان أفندي" في الإجابة، يفكر في أي القولين يختار: هل يذكر الحقيقة فيخبر البواب أنه لم ير للعفاريت أي ظل في حياته أو يكذب فيفتخر أمامه أنه رآها، وأخيرا نطق بأكذوبة كبيرة شعر وهو يقولها بارتياح عظيم، فاجاب قائلا:

_ أجل يا "عم سيد"، كثيرًا ما أراها حتى اليوم.

فأهتز "عم سيد" منفعلا، وشعر بشيء من الهيبة لشعبان أفندي، فغضّ من بصره ولعبت يداه النحيفتان ببعضهما من غير قصد، ثم رفع صوته وقال:

- ولكنك لم تخبرنا بشيء من هذا يا أفندي! فانتفخ "شعبان أفندي"، في جلسته وانزلق بجسمه على كرسيه ليكسب هيئته شيئا من العظمة.

وأجاب وقد تضخم صوته واهتز: ولماذا أزعجكم بخبرها يا "عم سيد" وهي سر من أسراري الخاصة؟

فصمت البواب قليلا، ثم عاد يستجوب شعبان أفندي من جديد:

- وهل تراها ليلا؟

- لا أراها في النهار مطلقا

وهل تكلمها ؟

- بعض الأحيان

- ولا ترهبها؟

- مطلقا

- ما أشجعك يا أفندي!

فكح "شعبان أفندي" كحة الشجاعة، ومال على البواب وأسر في أذنه:

- "دمي زفر" يا عم سيد، والذي "دمه زفر" يرى العفاريت ولا يرهبها

- بالله ألا رويت لي حادثة وقعت لك معها

وكانت مباغتة ثقيلة لم يكن يتوقعها أوحيت عليه اعمال الفكرة حالا لاختراع قصة وقعت له مع العفاريت، فاستنجد بخياله الراكد فأنجده بحادثة تافهة صاغ منها قصته وكانت قصة طريفة في نظر البواب أصغي لها بشوق وسرور وعمل على إذاعتها بين إخوانه، ومن هذه اللحظة ذاع صيت "شعبان أفندي" كرجل شجاع يرى العفاريت ولا يرهبها، وله نوادر معها وأخبار عجيبة.

 

-2-

واستمر "شعبان أفندي الجمل" على أكاذيبه العفريتية يحضرها قبل إلقائها على سامعيه كما يحضر الأستاذ دروسه ومحاضراته، وصار مجلسه أمام دار سعد الله بك حلقة معروفة يحج إليها الناس، تضارع حلقات الأذكار في الموالد، وتضم بين أطرافها الصبيان والشبان والشيوخ.

ولم يعجز شعبان أفندي يوما عن رواية أقاصيصه إذ كان يستمد موضوعاتها من خادمته العجوز أم خليل" التي  كانت تحفظ في ذاكرتها من نوادر "العفاريت" ما لا يقع تحت حصر و"شعبان أفندي" يعيش وحيدًا في داره لا يؤنسه غير "أم خليل" المذكورة، يساعدها غلام مراهق يدعى "عبد الدايم" يقوم بمهنة الطهي ولا يبيت في المنزل، وقد شاء القدر أن يحرم "شعبان أفندي" من هذه الخادمة في وقت هو فيه أشد الناس حاجة إليها، إذ ماتت قتيلة بانزلاق قدمها على السلم ووقوعها على رأسها، وكانت العجوز تنام في حجرة واحدة مع "شعبان أفندي" لتؤنسه وتقضي له حاجته.

وفي اليوم التالي لوفاتها قصد "شعبان أفندي" حلقته فجاءه الناس كالمعتاد ليسمعوا قصصه، ولما علموا بوفاة خادمته اقتصروا على تعزيته وانصرفوا، وأراد "شعبان أفندي" أن يعود إلى داره ولكن "عم سيد" البواب كان ينظر إليه نظرات تجلت فيها رغبة خفية، فسأله "شعبان أفندي" عما يريد فقال له وهو ينظر إلى الأرض ينكشها بعود في يده:

- لم تذكر لنا شيئا اليوم يا "شعبان أفندي"؟

فمشط "شعبان أفندي" شاربه الغزير المنفوش ثم تكلم وقد فلتت الجملة من فمه بلا حساب:

- لقد زارني عفريتها ليلة أمس فصرخ البواب عجبا وقال:

- عفريت أم خليل يا أفندي! وبهذه السرعة!

- وهل في ذلك من غرابة؟

ومن ثم اضطر شعبان أفندي أن يروي للبواب خبر زيارة العفريت له وحديثه الغريب عن مصرع الخادمة، وكيف انتقلت روحها إلى السماء على أجنحة الملائكة، وكانت قصة جديدة في نوعها طرب لها البواب طربا شديدا، ورأى "شعبان أفندي" فيها من الطرافة ما جعله يفتخر بها ويعمل لإذاعتها، فجعل يتمشدق بها طويلا في الطريق أمام أصحابه، وكان يتصيد الغلمان في الأزقة ليحدثهم بها.. وهكذا حتى أصبحت شغله الشاغل في يومه.

-3-

وكان قد أوصى جيرانه على خادمة صغيرة تحل محل "أم خليل" فلما دخل البيت وجدها، وكانت فتاة في الحادية عشرة من عمرها، وسيمة المحيا، عليها مظاهر النشاط، فارتاح لمرآها وزودها بالنصائح والأوامر، ثم جعل يحدثها عن أم خليل حديثا طويلا، مطنبا في أخلاقها وصفاتها ثم تدرج من هذا الحديث إلى ذكر مصرعها وأسفه عليها وكيف اهتم بأمر جنازتها وكم كلفته نفقات دفنها، ثم تدرج من هذا إلى قصة عفريتها فرواها بإطالة وحشاها بزوائد جديدة، وكان يروي القصة كأنه يمثلها، فلما أتمها جلس على المقعد منتفخا وهو يجفف عرقه، وقد إزداد احمرار عينيه وتهدلت أشداقه، وانتفش شعر رأسه وشاربه على أثر حركاته العنيفة، فنظرت إليه الفتاة بتهيب وخوف إذ تخيلته عفريتا قد تقمص في شكل إنسان، فتراجعت القهقرى وقد انطبع على محياها الرعب بأكمله فأدرك "شعبان أفندي" ما جال بخاطرها فأخذ يضحك طربا وجعل يزيل مخاوفها حتى ركنت نفسها إلى الاطمئنان، وأتى بالطعام فأشركها فيه معه، وكان يشرح لها أثناء ذلك مهام وظيفتها، محببا لها العمل في منزله، واعدًا إياها بمرتب حسن، ومكافأة ثمينة عند زواجها وانقضى الطعام على أحسن حال فدخن "شعبان أفندي" ثلاث لفائف من التبغ واحتسى فنجانين من القهوة السادة، وكان يضاحك الفتاة من فترة لأخرى ويروى لها الحكايات اللطيفة، فاستأنست به وأحبته.

وأخيرا حل ميعاد النوم فبسط لها فراشا في نفس حجرته في المكان الذي كانت تحتله "أم خليل" وأطفأ الشمعة واستعد للنوم بعد ما قرأ بعض الآيات القرآنية، ولكنه لم ينم بل ظل يتقلب يمنة ويسرة على فراشه، ينبطح على وجهه تارة ويستلقي على قفاه أخرى متخذا أوضاعا مختلفة يتحايل بها على النوم، والنوم بعيد عنه لا يقربه، وكان يدمدم بين وقت وآخر قائلا:

- ألا لعن الله القهوة السادة، هي التي أقلقت منامي سوف لا أشربها ليلا بعد الآن.

ويتقلب من جديد ويدفس رأسه بين الوسائد ولكن بلا فائدة إذ كانت كل محاولة له لاسترضاء النوم محكوما عليها بالفشل، وأخيرا جلس وسط فراشه وقد شعر برغبة في إشعال النور فالتمس موضع أعواد الثقاب فلم يجدها، وكان يرى في الظلام بعض أشكال غريبة فأغمض عينيه، وشعر بجفاف حلقه ورغبته في احتساء كوبة ماء، فنادى على "أم خليل"، لتأتي له بالماء، وفي لحظة شعر بغلطته وأحس رجفة كهربائية سرت في جسمه، واستقر رأيه أخيرا على إيقاظ الفتاة ولكنه نسى اسمها فعزم أن يناديها: "يا بنت.. يا بنت" وما كانت أکثر دهشته عندما سمع نفسه ينادي "أم خليل" بتكرار وإلحاح وشعر كأنه محموم وتصبب العرق البارد من جبينه، وكان يتمتم بألفاظ متقطعة وغير واضحة، ولم يجد أمامه إلا طريقا واحدا يسلكه لإيقاظ الفتاة، وهو الذهاب إليها بنفسه، فنزل من فراشه باحتراس وأخذ يزحف ببطء وقد شد على أجفانه المغمضة شدا محكما، وبعد أن جال في غرفته جولات صغيرة لم تخرجه عن الدائرة التي حول فراشه توقف ليستريح إذ كان تنفسه مضطربا، وأخذ يناجي نفسه قائلا:

- لا أجد فراشها مطلقا، أتكون قد انتقلت به إلى حجرة أخرى.. إذًا أنا وحيد هنا، وأنصت انصاتا تاما فلم يسمع إلا دقات قلبه الغير المنتظمة فدمدم يقول:

- لا أسمع أنفاسها مطلقا.

وعاد إلى زحفه وهو يجر ساقيه المرتعشتين بجهد، واصطدم في هذا الوقت بفراشه فظنه فراش الفتاة فأسرع يفتش فيه باضطراب ثم أخذ يردد قوله:

- ليست موجودة.. ليست موجودة مطلقا.. لقد هربت اللعينة وتركتني في هذا المنزل منفردًا.

وفي هذه اللحظة وقف على ركبتيه وسط فراشه وخرجت من حلقه صيحة منكرة رنت في المنزل الصامت رنينا مزعجا، وتبعتها على الأثر صيحات أخرى، فإذا به يفرغ ما عنده من نداءات الاستغاثة الطويلة الحارة، وإذا بصوت رفيع يتعالى في الجو كصفارة القطار يجاوبه مرددًا: عفریت.. عفريت أم خليل.. عفريت.. عفريت أم خليل

فحول "شعبان أفندي" وجهه بحركة ميكانيكية نحو مصدر الصوت وحملق بالرغم منه في الظلام فإذا به يرى ماثلا أمام عينه شبح "أم خليل" يسير نحوه الهوينا، لقد كانت هي بذاتها، بقوامها النحيف وطرحتها البيضاء ومشيتها المتمهلة، فوقع على وجهه وهو يحاول إخفاء نفسه، وفمه لا يسكت لحظة عن الصراخ وظل هو والفتاة الصغيرة يصيحان صيحاتهما المنكرة حتى امتلأ المكان عليهما بجمع كبير من الجيران جاءوا يحملون معهم المصابيح والهراوات الغليظة

 

 

-4-

وفي الصباح ذاعت حادثة ظهور عفريت "أم خليل" في منزله "شعبان أفندي"، واستطاعت الفتاة أن تصفه لمن سألها عنه بأنه طويل القامة إلى حد كبير، ملتحف بالسواد من رأسه إلى أخمص قدميه وله عينان تشعان نارا حامية، وكان يزعق بأعلى صوته قائلا :

- أنا عفريت أم خليل

أما "شعبان أفندي"، فقد لزم الصمت في بادئ الأمر، ولكنه لم يستطع السكوت طويلا لإلحاح الناس عليه بالكلام، فانفجر، وكان انفجارا هائلا حشاه بجيش جرار من الأكاذيب، فزعم أن العفاريت ثارت في حجرته بزعامة عفريت أم خليل، واقتتلت قتالا عنيفا اضطر أن يقمعه بشدة وقسوة كلفتاه جهدا عظيما.

وكان "عم سيد"  البواب يسمع الحديث بشغف زائد ويراقب حماس "شعبان أفندي" بانفعال كبير، فلما ختم قصته بانتصاره المبين قام إليه البواب وعانقه وهو يردد قوله مبتهجًا:

-ينصرك دينك يا شعبان أفندي..!

وجفف "شعبان أفندي" عرقه وجعل يفتل شاربه المنفوش فتلا يكاد يقتلعه من جذوره، واتخذ له هيئة الأبطال كما أوحتها له مخيلته، فجنح يديه ونفخ شدقيه وعقد ما بين عينيه وهز رأسه عدة مرات متوالية.

وانفضت الحلقة وقام شعبان أفندي إلى داره، فجاءه غلامه عبد الدايم الطاهي وأخبره بأن أم الفتاة الصغيرة جاءت في غيبته وأخذت ابنتها معها بدعوى أنها لا تريد تركها في مكان تظهر فيه العفاريت، فحملق "شعبان أفندي" في وجه الغلام وقال بدون وعي:

- ومن إذا ينام معي الليلة؟

- وهل أنت في حاجة إلى من يؤنسك ياسيدي؟

فاستدرك شعبان أفندي خطأه وقال على الفور:

- لا أقصد مسألة الائتناس إنما أقصد مطالبي الكثيرة في الليل، فأنا رجل إذا دخلت الفراش لزمته، ولذلك أحتاج إلى شخص يقضي لى حاجتي.

- ان شئت أن أنام معك فأنا رهن أمرك

فتنفس "شعبان أفندي" الصعداء وقال له بلهجة الارتياح:

- أقبل.. وسأزيد مرتبك

- بارك الله فيك ياسيدي

وفي المساء بعد تناول العشاء قصد "شعبان أفندي الجمل" إلى الحانة القريبة حيث صرف فيها جانبا من الليل يحتسى النبيذ في ركن منفرد، وعاد إلى منزله ورأسه مثقل بالخمر وكان الغلام "عبد الدايم" ينتظر سيده على باب المنزل فلما رأه تقدم إليه وحياه ثم أوقد الشمعة وسار أمامه ينير له الطريق حتى حجرة النوم، وغيّر "شعبان أفندي" ملابسه في صمت وسكون، ثم فحص الغرفة على عجل اطمأن قلبه حينما وجد فراش خادمه مبسوطا في المحل المعد له، وبعد أن وضع الشمعة بالقرب من وسادته وأدخل علبة الثقاب في جيبه أطفأ النور ونام ملء جفنيه.

وقصد "عبد الدايم" إلى فراشه وهو يتحسس موضعه في الظلام، إذ باغته سيده بأطفاء النور، وكان السكون رهيبا والظلام حالكا فشعر الفتى بوحشة شديدة أفلقت نومه، وأراد أن يستأنس بسيده فتنحنح وكح ليوقظه ولكن سيده كان لاه عنه بنومه اللذيذ، وعرف عبد الدايم في هذه اللحظة فقط انه احتل مكان المرحومة "أم خليل" وأن فراشه الذي يتقلب عليه، بلحافه ووسادته، كان لها من قبل، استعملته سنين طويلة وأشبعته أنفاسها ورائحتها، وكانت تملأ خياشيمه تلك الرائحة الغريبة التي امتازت بها هذه المرأة، وخيل له في وقت من الأوقات أنها تشاركه أو تنازعه الفراش، وكان يشعر آنا بأنفاس حارة تهب على وجهه ويسمع تارة صوتا ضئيلا يهمس في أذنه، فتنهد مرعوبا وارتعش فكه الأسفل كأنه مقرور من شدة البرد، وأقسم أن تكون هذه الليلة هي الأخيرة التي يبيتها في هذا المنزل المسكون بالعفاريت، وأخيرا لم يستطع السكوت إذ طرق سمعه صوت أقدام على السلم فرفع صوته وأخذ ينادي سيده، ولكن بلا جدوى، فصاح بصوت أعلى وجعل يكرر قوله:

- سیدی.. سیدي شعبان أفندي.. استيقظ.. استيقظ يا سيدي أني أسمع صوت أقدام على السلم.. ولكن لا حياة لمن تنادي، فاضطر الغلام أن يزحف إلى فراش سيدة وأن يهزه هزات عنيفة، فهب "شعبان أفندي" جزعا وصاح من فوره مناديا:

- یا عبد الدايم.. يا عبد الدايم

- أنا هنا يا سيدي بجوارك

- ومن أتي بك؟

قال ذلك بصوت مضطرب وهو يشغل الشمعة بعجلة، فلما بدد النور شيئا من الظلمة تنهد "عبد الدايم" وتشهد، وجلس متربعا على حافة فراش سيده، وأعاد شعبان أفندي سؤاله وهو يدعك عينيه المنتفختين ويمسح أنفه المتورم ولكنه لم يحظ بجواب ما، فتضايق ووكز الغلام في جنبه قائلا:

- إني أسألك لماذا جئت إلى فراشي لتوقظني.. تكلم.. وبعد تردد قليل أجابه الغلام قائلا:

- جئت لآخذ منك الشمعة ياسيدي

- تريد أخذ الشمعة!!.. أليس عندك خلافها؟

- کلا یا سیدي

- لا أفهم كلامك.. وهل أنت في حاجة إليها؟

- أكاد أموت عطشا

- وأين القلة؟

- في المطبخ

-وتريد الذهاب إلى المطبخ بشمعتي هذه وتتركني بدونها؟

- لن أغيب طويلا.

فنظر "شعبان أفندي" بغيظ إلى الغلام وهو جالس بقحة على حافة فراشه، وجعل يفكر في الأمر برهة، وأقسم أن يطرد  الفتى من خدمته في الصباح جزاء له على فعلته هذه وأخيرا تنهد وناجى نفسه قائلاً:

- حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا عبد الدايم

ثم سأل الخادم بصوت مرتفع:

- أما زلت تريد الشمعة؟

- أكاد أموت عطشا يا سيدي

- إذًا خذها لا بارك الله فيك، وعد على عجل فربما احتجت إليك

وخطف الغلام الشمعة وخرج بها، وأخذ "شعبان أفندي" يشعل أعواد الثقاب الواحد بعد الآخر وهو يقرأ آية الكرسي ويستعيذ بالله من الشياطين، ولم يذهب الفتى إلى المطبخ بل قصد إلى الحجرة المجاورة حيث مكث فيها برهة قصيرة وعاد على الإثر وهو يقول:

- من الغريب ياسيدي أنني لم أعثر على القلة في المطبخ لابد أن تكون هنا وقصد إلى مكان القلة وأخذ يكرع منها، بينما كان شعبان أفندي يراقبه بحنق وهو يناجي نفسه بقوله:

- إن الوقح يتجاسر ويشرب من قلتي .. ولكن لا بأس فلننتظر إلى الصباح وعاد الغلام إلى فراشه، وأطفأ "شعبان أفندي" الشمعة ونام، ولكنه بعد قليل استيقظ على صوت الخادم يناديه بإلحاح، فتغاضى عنه، ولكن الخادم استمر على ندائه بصوت مرتفع، ففزع "شعبان أفندي"، وقام برأسه وأجاب الغلام بشدة قائلا:

- ألا ستطيع أن تتركني أنام بهدوء هذه الليلة!

- ولكني مضطر لايقاظك يا سیدي

- لماذا؟

- لأن.. لأن..

-لا تريد أن تتكلم

شرع "عبد الدايم"، يزحف ناحية شعبان أفندي ثم اعتلى المرتبة كالسابق، فتمتم شعبان أفندي مناجيا نفسه:

- إن رائحته كريهة لا تطاق، ومع ذلك فهو مصر على اعتلاء مرتبتي والجلوس بجانبي وتكلم "عبد الدايم" بصوت مرتجف قائلًا:

-اشعل الشمعة يا سيدي أولاً

فأشعل "شعبان أفندي" الشمعة، ودنا الغلام من سيده وأسر في أذنه:

- ... إني خائف يا سيدي

فسرت في جسم شعبان أفندي رجفة شديدة، وفي لحظة تخاذلت قواه واضطربت دقات قلبه وسأل خادمه بصوت منخفض متقطع النبرات قائلًا:

- خائف من أي شيء يا عبد الدايم؟

- سمعت صوتا ياسيدي

فتمتم شعبان أفندي متلجلجا:

- أي صوت.. يا.. بني؟

- صوت عفريت أم خليل

فأمسك شعبان أفندي بيد خادمه وشد عليها بقوة وسأله بتلعثم:

- كيف؟.. كيف؟..

- سمعته يرقص على السلم

فالتصق شعبان أفندي بخادمه، وجعل الإثنان يخفيان رأسيهما تحت اللحاف، وهمس عبد الدايم في أذن سيده:

- ألا تسمع ياسيدي؟ أنه يرقص بالصاجات

- بالصاجات..!!

وأرهف شعبان أفندي سمعه ثم دمدم قائلا:

- هذا صحيح.. أنه يرقص بالصاجات

قال ذلك وهو يحاول ابتلاع ريقه الجاف، ثم أخذ يقرأ بصوت منخفض آية الكرسي وضرب الهواء الشباك في هذه اللحظة فسمع له صوت مفزع، وانطفأت الشمعة على الأثر، فصاح الإثنان في وقت واحد يستغيثان كأنهما يندبان ميتا، وجاء الجيران فزعين كالليلة السابقة.

-5-

وطرد "شعبان أفندي" الغلام عبد الدايم، واستعاض عنه برجل قوي شجاع، لم تطل خدمته أكثر من أسبوع إذ انتهى به الأمر أن رأى عفريت "أم خليل" وسمع صوته وهو يرقص بالصاجات وبدأ الناس يشكون في شجاعة "شعبان أفندي" ويتوجسون منه شرًا، وانتهى به الأمر أنه لم يجد من يخدمه واضطر أن يهجر مسكنه هربا من عفريت "أم خليل" واستأجر شقة صغيرة في حي آخر بعيد، عن الأول ولكن العفريت لاحقه إلى مسكنه الجديد مصحوبا بشرذمة من صغار العفاريت كانت تفزعه بغنائها ورقصها.

واستيقظ مرة من نومه على أثر مواء ونبح عاليين، فأرهف أذنه فإذا به يكشف مؤامرة دبرت لاغتياله من جمع كبير من العفاريت على رأسه عفريت "أم خليل" وإذا بالأخير يقول:

- لقد هزيء بنا طويلا فيجب أن ننتقم منه.

ومن ثم أصبحت لزيارة عفريت أم خليل وأعوانه غاية واضحة وهي القضاء على "شعبان أفندي" انتقاما منه، ففزع المسكين إلى الأولياء يطلب معونتهم، ونذر النذور ووزع الصدقات بلا حساب على أرواحهم، ولكن كل ذلك بلا جدوى إذ كانت العصبة تطارده من منزل إلى منزل كما يطارد الجيش المنتصر العدو المهزوم.

وضجت الجيران بالشكاية من شعبان أفندي وصراخه المتواصل في الليل، وأصبح المكان الذى يحل فيه موبوءا لا يسكنه أحد، فأقصاه أصحاب الدور عن دورهم ورفضوا تأجير مسكن له، وأصبح الرجل طريدا لا يجد له مأوى إلا بشق النفس، وحيدا لا يجسر أن يقربه إنسان، واعتراه السقم والإعياء وهجمت عليه الشيخوخة بكامل عدتها فهصرت عوده وأذبلته، وأصبح وهو في سن الستين كأنه قد أربي على الثمانين.

وأخيرا لم يرهب عفريت أم خليل الضوضاء ولم يخجل من النور فأصبح يزور "شعبان أفندي" في رابعة النهار، وكان يرقص أمامه بالصاجات ويلعب كالبهلوان، يقفز ويدور في الهواء، أو يجرى من حجرة إلى أخرى يضرب الأرض بقبقابه الرقان، وربما انقلب إلى قط هائل يملأ الدار جلبة ومواء، أو إلى حمار في حجم الفيل تردد الحيطان صدى نهيقه المزعج الكريه.

وانتقل "شعبان أفندي" إلى دار أخرى في حي غريب عنه لم تطأه قدماه قبلا، فسبقته أخباره إلى هناك وانتشرت بين الجميع انتشار البرق واستقبله الناس بشغف وحذر –شغف برؤية هذا المخلوق العجيب، طريد العفاريت، وحذر منه رهبة وخوفا. وكان إذا جلس في القهوة أوسع الجالسون له المكان فيجد نفسه محتلا مائدة حولها عدة موائد ومقاعد خالية، ثم يبدأ يحوم حوله الهمس واللغط والنظرات المختلسة وكان يسمع خادم القهوة يصيح بطلبه في صحن المكان الداخلي قائلا: واحد شيشه.. وواحد قهوة سادة لعفريت أم خليل.

فتتطاول الأعناق وتزدحم الناس حول الباب والنوافذ لترقبه من بعيد، وكان الأطفال يجتمعون جماعات متكاثفة ويهرعون لمشاهدته وهو يسير متهالكا على عصاه، يتعقبونه من مكان إلى مكان، وإذا حانت منه التفاتة نحوهم ليرى ما يحدث خلفه صاح الأطفال فزعين بانفعال لا يخلو من لذة صبيانية ويتفرقون هاربين في الأزقة ليجتمعوا من جديد بعد حين ويقتفوا أثره باحتراس وتحمس زائدین.

-6-

وعاد يوما "شعبان أفندي" قبيل الغروب إلى داره، وكانت حجرة واحدة قذرة محبوسة الهواء مظلمة، رضى صاحبها أن يؤجرها له بمبلغ باهظ بعد إلحاح شديد، كانت تطل على فناء الدار من جهة وعلى الحارة من جهة أخرى، دخلها وهو لا يدرى أين يضع رأسه من شدة الإعياء الذي ناله في يومه، فارتمى على مرتبته بملابسه، ولكنه لم يكد يستغرق في النوم حتى قام مذعورا وجعل يصيح بأعلى صوته صياحا تقشعر له الأبدان، فإذا به يرى عفريت "أم خليل"، قد أحاطه بعصبة من جنوده بغية القبض عليه وجره إلى ساحة الإعدام، وأطل السكان من نوافذهم فزعين يتساءلون ما الخبر؟ وحل الرعب على الجميع فلم يتقدم أحد لنجدته، وكانت النساء تصوت كأنهن في مأتم، وكم منهن من أغمى عليهن أو أصابهن التشنج (أي مستهن العفاريت).. وظل شعبان أفندي يستغيث بلا انقطاع. فيرن صوته في رجاء المنزل رنينا يكاد يزلزله، وظل على حاله هذا وقتا طويلا حتى تج صوته، فأصبح إلى فحيح الأفاعي أقرب منه الى صوت الآدميين. وأخيرا خارت قواه وعم حجرته السكون، وغربت الشمس وأقبل الليل بظلامه وأسراره فانتشرت رهبة عميقة على الحى بأجمعه.

في صباح اليوم التالي جاء ملاحظ القسم ومعه ثلة من الشرطة على أثر دعوة حارة تلقاها من سكان الجهة، فصف عكره أمام الحجرة وأخذ يلقي عليهم التعليمات بصوت أجش، ثم جرد سيفه وأمرهم أن يقلدوه، وصاح فيهم صيحة عالية فاندفع الجيش نحو الحجرة مقتحما إياها، وما كانت أعظم دهشته حينما وجدها هادئة ليس فيها أثر للعدو المنتظر، وأخذ الكل يبحثون في أرجاء الغرفة عن "شعبان أفندي" أو عن سواه فلم يعثروا على أحد. وأخيرا وقد بدأوا ييأسون في مسعاهم إذ زلت قدم أحدهم فوق كوم صغير من الهلاهيل مطروح بجوار الباب، فإذا بهذا الكوم "شعبان أفندي" جثة هامدة مثخنة بالجراح والرضوض وملوثة بالدم المتجمد، تكسوها الملابس الممزقة، فجروه خارج الحجرة وكان صحن الدار والحارة مكتظا بالناس، جاءوا مبكرين على إثر حضور رجال الشرطة، ليروا ما حل بشعبان أفندي، فلما وجدوه صريعا تجره الرجال جر الكلاب ارتفعت أصواتهم بالجلبة والصياح فرحين، وأخذوا يتشهدون على خلاصهم من الرجل وعفاريته، أما النساء فكانت تزغرد باستمرار كأنهن في فرح، وكان الأطفال يرقصون ويلعبون مشاركين الجميع جذلهم.. ووسط هذه المظاهرة الكبيرة حمل "شعبان "أفندي الجمل" ـ ضحية  العفاريت - إلى مقره الأخير!.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة