الثلاثاء 23 يوليو 2024

قصص دار الهلال النادرة| «الأرشيدوق والراقصة» قصة تاريخية لـ جرجي زيدان

جرجي زيدان

كنوزنا21-7-2024 | 13:33

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر في 1 مارس 1923، نشرت مجلة الهلال، قصة تاريخية للأديب الكبير جرجي زيدان بعنوان "الأرشيدوق والراقصة"، تدور هذه القصة حول شخصية الأرشيدوق سالفاتور، أحد أفراد الأسرة الملكية النمساوية، الذي تخلى عن لقبه وامتيازاته من أجل الزواج بفتاة من عامة الشعب، رغم معارضة الإمبراطور، وهرب مع حبيبته.

وقد كتب محرر "الهلال": من العظاميين مَن يولد في وسط أرستقراطي بنفس ديمقراطية عصامية فيبقى طول حياته وهو يتقلقل بين نزاعات نفسه وقيود وسطه، ثم تأتي ساعة الإنفجار فينطلق من القيد، ولكن إلى أين؟ أن من تعود القيد تؤذيه الحرية كما يرى القارئ من هذه القصة التالية.

نص القصة

كان الأرشيدوق سالفاتور أحد أعضاء الأسرة الملكية النمسوية - أسرة هابسبرج، وكان يكره الإمبراطور فرانز جوزيف الذي مات والحرب الكبري تستمر، وكان هذا الأمبراطور علة هذه الحرب بما أرسله من الإنذار إلى صربيا يطلب منها أشياء تجحف بحقوقها في سيادة حكومتها، وكان هذا الأرشيدوق صديق ولي عهد النمسا الحميم، وأراد ولي العهد أن يتمتع بجلال الملكية لأنه رأى أن الإمبراطور فرائز جوزف قد تبنك على العرش وكأنه لا يريد أن يبرحه الى الأبد، فدبر بمساعدة الأرشيدوق سالفاتور مؤامرة وجعلا غايتها أن تستقل المجر عن النمسا ويرتقي ولي العهد على عرشها.

ولكن فرانز جوزيف لم يكن بالملك النؤوم فإن جواسيسه نشطوا وعلموا بالمؤامرة وقبضوا على جميع من يمت إلى الأمير بسبب ورأى الأمير حبوط تدابيره وفشل مؤامرته وما جره على مؤازريه من الضرر فقتل نفسه وختمت بذلك هذه المأساة القصيرة.

ولم يكن الأرشيدوق سلفاتور يخشى العقاب لأنه كان أحد أفراد الأسرة الملكية ولكنه كان يعرف أن الإمبراطور لن يغتفر له سيئته وأنه قد تسول له نفسه أن يرسل إليه من يغتاله تحت أستار الظلام فكان لهذا السبب لا يخرج ليلا إلا وهو محوط بالحرس وكان الإمبراطور يعتبر الأرشيدوق رجلاً شاذًا ذا شخصية خطرة وذلك لأنه لم يكن مغفلا كسائر أفراد الاسرة الملكية ولم يكن يعني كثيرًا بالشراب وسائر الملاذ وكان فوق ذلك قد ارتكب جناية ليس أفحش منها في نظر الإمبراطور وهي أنه عند ما كان ضابطا في الجيش كان يحبب نفسه إلى الجنود فتعلقوا به، وكانت الجنود تعامل أسوأ معاملة من حيث الطعام والمسكن فألف الأرشيدوق رسالة أنحى فيها باللائمة على الحكومة لعدم إلغائها هذا النظام وعدم رعايتها للجنود وصار يعمل بما يقول، وعرف الإمبراطور ما استحدثه الأرشيدوق من البدع في فرقته فقال:

"إنه معتوه.. أما من حرب؟ فأرسله إلى أول خط فيها".

وكان أحد أصدقاء الأرشيدوق من الوزراء حاضرا عندما فاه الإمبراطور بهذه العبارة فنقلها إلى الأرشيدوق وحذره مما يضمره له الإمبراطور، وكان جواسيس الإمبراطور واسعي الحيلة في إدراك مأربهم عندما يوعز إليهم بالتخلص من أحد الأشخاص، ولكن الأرشيدوق لم يكترث لهذا التحذير ومضى في البر بجنوده ورعايتهم حتى جاءه رسول من الإمبراطور يقيله من الخدمة.. فخرج شاكرًا.

ومضى إلى قصره وهو أطم قديم من أطام القرون الوسطى يشرف على بحيرة جمندن فسكن فيه ولكنه كان يحرق سآمة إذ لم يكن فيه سواه هو وحاشيته، فأضناه الإنفراد وآلمته هذه العزلة عن العالم وقد كان قبلا يجد بعض السلوى في ألفة الجنود به، وهو كذلك وإذا بخطاب قد وصله من أحد الضباط الذين زاملوه في الجيش يدعوه إلى القنص، فما هو أن فضه وعلم بما فيه حتى هب إلى ملابسه ومهمات الصيد فأعدها وسار إلى حيث دعاه صديقه.

وكان مكان الصيد يدعى سمرنج وكان به قرية صغيرة وعرف الأرشيدوق شارعًا صغيرًا في القرية يخرج منه السائر إلى الخلاء حيث يرى الطبيعة ويستروح النسيم وكان الأرشيدوق يسير في الشارع كل يوم وبينما كان يسير أحد الأيام وإذا بضحكة قد خرجت من فم فتاة تترقرق مع النسيم كأنها خرير ماء، فالتفت وإذا بفتاة هيفاء قد حاطها أبواها وساروا وكأنهم لم يروا الأرشيدوق، وجاء اليوم التالي فخرج الأرشيدوق ومضيفه إلى القنص، ولكن نفسه هذا اليوم كانت خائرة فلم ينشط إلى المشي والركوب، وتقى سارح اللب لا يهوى سوى أن يرى تلك الفتاة مرة أخرى.

وقد أسعده الحظ في رؤيتها مرة أخرى بعد المرة الأولى بساعات قليلة، ثم مضى يومان لم يرها فتقدم إلى مضيفه وسأله عنها، فقال رب البيت: "هذه "ملي شتوبل"، وهي تشتغل في تياترو الأوبرا في فيينا، أما أبواها فيسكنان هنا وأظنها جاءت في إجازة وستعود قريبًا".

وكان هذا كل ما يرغب أن يعرفه الأرشيدوق فإنه سار توا إلى بيت الفتاة فوجد أبويها فسألهما عنها فأدخلاه إلى المطبخ حيث كانت تشتغل في صنع كعك ويداها ملوثتان بالعجين والدقيق، فلم يكترث لذلك وأصر على تقبيلهما قائلاً: "إن الآنسة تعرف فن الموسيقى وأنا أيضًا من هواة الموسيقى، وقد جئت لكي نتكلم سويا عن بعض شؤون هذا الفن"، فتحادثا مليًا عن الموسيقى وعن غير الموسيقى وأدرك الأرشيدوق من الحديث أن "ملي شتوبل" قد حصلت على نصيب وافر من التربية، وخرج من البيت وقد نشب في قلبه سهم الحب، فزارها ثانية وثالثة وطلب إليها الزواج، فقالت "ملي": "إني لا أجسر، ولو كان الأمر متوقفًا عليك لاقترنت بك في الحال ولكن أقاربك - ماذا يقولون؟"

فقال الأرشيدوق: "ليس لأحد عليَّ سيطرة ولا لأحد دخل في أعمالي، فلا تخافي، فقد نضطر إلى مغادرة النمسا وأضطر ألى أن اشتغل لكي أعيش أنا وأنت، وكل شيء لأجلك هيّن عليّ، إني أكره هذه الأبهة وهذا الترف سأشتري باخرة وأكون ربانها لأني قد نجحت في جميع امتحانات القبطانية، ثم نسيح العالم كله أنا وأنت".

وكان في صوته رنة تفاؤل فاطمأنت ملي إليه وزالت عنها الشكوك التي اعترتها وقالت وهي تتفزز بالعاطفة: "سأتزوجك في أي مكان أردت ومتى أردت". وهكذا تم كل شيء ولم يبق سوى أن يذهب الأرشيدوق إلى الإمبراطور ويخبره بأنه قد عزم على أن يقترن بفتاة من فتيات تياترو الأوبرا... ولبس الأرشيدوق ملابسه الرسمية وذهب للمثول أمام الإمبراطور فرانز جوزيف، فلما مثل أمامه قال: "جئت مولاي لكي أخبر جلالته بأني قد نويت الزواج".

فقال الإمبراطور وكأنه أحس بالعاصفة القادمة: "تعني أنك تريد أن تخبرني عن الأميرة التي نويت أن تتزوجها؟"

فقال الأرشيدوق: "أريد أن أخبر جلالتك بأني قد عزمت على الاقتران بفتاة من الشعب، اسمها "ملي شتوبل" وهي تشتغل في تياترو الأوبرا".

فاربد وجه الإمبراطور وقال: "كيف تجرؤ على إهانتي، ابتعد عني، واعتبر الآن أنك مسجون، هذا الجنون يجب أن نضع له حدًّا.. ستنفى الفتاة وأنت...".

فلم يستطع الأرشيدوق أن يضبط نفسه وقال: "إذا مسست شعرة واحدة من رأسها فأنت مسؤول عنها، فلا تنسَ هذا، فإذا حدث لها أي حادث فأني سآتيك هنا وأقتحم عليك غرفتك وأقبض عليك من خناقك، أني رجل.. أني لست آلة، ومن هذه الساعة أنزل عن جميع حقوقي في الأرشيدوقية وأخرج عن سلطتك.. والآن السلام عليكم".

وغلى دم الإمبراطور من وقاحة الأرشيدوق فهجم عليه وخلع بيديه جميع الأوسمة التي كانت تزين صدره ثم قال له: "الآن يمكنك أن تذهب.. اذهب واخرج عن البلاد، اذهب قبل أن أغير فكري وأطلب من الشحنة القبض عليك".

وذهب الأرشيدوق توا إلى حيث كانت تسكن خطيبته وأخبرها بما جرى، وطلب إليها أن تعد نفسها للسفر إلى خارج النمسا، فتركته وقامت تتهيأ للسفر وجلس هو إلى نافذة تطل على الشارع وإذا به يرى جملة أشخاص يروحون ويغدون أمام المنزل نحو ست مرات في أقل من خمس دقائق، فجعل يتأملهم ولا يدري شأنهم، ثم التمعت في رأسه الحقيقة، فهرول إلى الباب وخرج وقبض على واحد منهم من قفاه وقال له: "إني أعرف من أنت، اصغ إليّ، أنا الأرشيدوق سلفاتور وأنا آمرك بأن ترجع عن مضايقة خطيبتي، وإذا عصيت أمري فسأدعو البوليس وأتهمك، وأنت تعرف أن الإمبراطور لن يغفر لك أن تكون سبب فضيحة الأسرة المكلية، فاذهب وأخبر رفاقك بما قلت لك ولا ترني وجهك".

فخنس الجاسوس وولى هاربًا، ونزل الخطيبان وأكتريا عربة إلى المحطة وسارا ميممين لندن، ولما خرجا من الحدود النمسوية تنهد الأرشيدوق وقال لخطيبته: "الحمد لله، أنا الآن جون أورث، ولن يخاطبني أحد منذ الآن بصاحب السمو، الحمد لله.. لقد صرت حرًّا".

وعقد زواجهما في لندن، ثم بحث جون أورث عن باخرة حتى اهتدى إلى واحدة فاشتراها وكانت نيته أن يكون ربانها ولكنه غير فكره إذ كان لا يزال في شهر العسل فاستأجر لها ربانا وركب هو كأحد المسافرين وقبل أن تقلع الباخرة جاءه رسول من الإمبراطور يخبره بأنه يأذن له بالرجوع ويرد اليه جميع حقوقه، وأما عن الفتاة فالزواج لاغ إذ لم يصدق عليه الإمبراطور. فقال جون أورث للرسول: "اذهب الى مولاك وقل له أن ما أنا فيه من السعادة يحول دون رجوعي إلى ما كنت فيه من الشقاء، إني لن أقبل بزوجتي بدلا ولو كان تاج النمسا، أني رجل من الشعب الآن".

وسافرت الباخرة إلى جنوب أميركا وسرَّ بها جون أورث غاية السرور وطرب لهذه الحياة الجديدة، حياة العمل والكسب التي لم يكن يعرفها وهو أرشيدوق فلما وصل إلى الميناء عزم على أن يكون ربانها في سفرتها إلى فالباريزو فسافر بها يقتحم الأمواج حتى وصل إليها ثم أراد ان يعود إلى لابلاتا، وكان يتفزز شوقا إلى وقت إقلاعها عن الميناء، وأقلعت الباخرة وكان ثم بحارة مجربون يقولون أن الوقت لا يوافق السفر فكان جون أورث لا يعلق على قولهم كبير شأن وكان كثير التفاؤل، فأقلع وما هو أن توسط المسافة حتى هبت الأعاصير فرفعت جبالا من الأمواج حتى ملئ بطن الباخرة بالماء ولم يقو البحارة على نزحه، وخرجت الباخرة تميد والبحارة يحاربون الطبيعة ولكن ذهب كل سعيهم عبثًا إذ غاضت الباخرة في البحر تحت موجة قوية.

وسمع الإمبراطور بالحادثة فأبى رياؤه إلا أن يرسل طرّادًا لكي يبحث عن الأرشيدوق، وذهب الطرّاد وجعل يتسكع في البحار جملة أشهر ثم عاد يقول ربانه أنه لم يجد شيئًا.