بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.
تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.
يتناول الفصل الأول من هذه المذكرات، أصل أسرته، وعصامية والده ووالدته، وما كانا عليه من جد ونشاط، على الرغم مما أحاط بهما من ظروف قاسية.
الفصل الأول: والد عصامي
لم يكن والدي يعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت مدارس الإرساليات الدينية لا تزال قليلة، ولم يوفق لمن يأخذه إليها، وحتى لو أتيح له ذلك لا يستطيعه، لأنه مضطر لإعالة والدته وأخوته، ولا يعرف صناعة، وإنما كان رأسماله الرغبة في العمل، فاهتدت والدته إلى طريقة تستطيع هي أن تعينه بها، فأخذت تصطنع خبزا، وهو يحمل الخبز على فرش، ويدور لبيعه على الناس في الأسواق: الرغيف بخمس بارات أو عشر، فيربح بذلك ما يسد جوع العائلة.
وبقى والدي على ذلك مدة حتى كبر قليلا، فعلم أن في المدينة فرنا أو عدة أفران تصطنع خبزا للجند، فدخل في خدمتها، وتعلم العجن بمقادير كبيرة، أي مائة آقة أو مائتين يضعونها في المعجن دفعة واحدة، وكان وقتئذ شابا في عنفوان الشباب، وقد أخذ على ذلك أجرًا حسنًا وكانت أختاه قد كبرتا وتزوجتا، وهما أكبر منه، فبقى هو وأخوه ميخائيل، والعمدة في العمل عليه، لأن أخاه كان ميالا للهو، ثم ارتقى من صناعة الفرانة أو الخبازة إلى الأطعمة.
وكانت بيروت قد تحولت التجارة إليها، وكثر فيها الغرباء الوافدون، فرأى أن يفتح مطعما ففتحه، فربح منه وتحسنت حالته، ففكر في الزواج وهو يومئذ في السابعة والعشرين من عمره، فخطب أمي، وهي من بيت الحائك، وأمي أخت عدة أخوات لا أخ لهن! خطبها سنة 1860، فحدثت في تلك السنة الاضطرابات المشهورة، وخاف أهل بيروت من ثورة عامة، كما حصل في جبل لبنان والشام، فأخذوا يتأهبون للفرار، فقالت جدتي لوالدي: "نحن في حال قلق، والمدينة في خطر، فإما أن تتزوج الفتاة وتهتم بها، أو تحل الخطبة ونأخذها معنا"، ففضل الزواج وتزوجها في تلك السنة.