الإثنين 5 اغسطس 2024

إبداعات الهلال.. «ذهب مع الريح» قصة قصيرة لـ نهى إبراهيم

نهى إبراهيم

ثقافة28-7-2024 | 12:56

دار الهلال

تنشر بوابة دار الهلال، ضمن باب "إبداعات" قصة قصيرة بعنوان "ذهب مع الريح" للكاتبة نهى إبراهيم، وذلك إيمانا من المؤسسة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.

نص القصة

في ظهيرة يوما ما كانت تحدِّث "سارة" نفسها بما ينقصها بزواجها، وحتى لا يختلط عليها الأمر حاولت أن تدون كل ما جال بخاطرها لأنها تشعر بأنها قد تفقد ذلك العقل قبل إتمام الزواج، تحركت سارة وهي تحرك تلك الخصلات الشقراء يمنة ويسرة لتطلق ابتسامة تخرج من شفاه مكتنزة لتبرق تلك المقلتين بعينين تحمل لون الخضرة داخلها فتصطدم بوالدتها التي فور رؤيتها صارت تطلق الزغاريد على الطريقة الفلسطينية، تحتضنها سارة بقوة ثم تندفع نحو مكتبها المقابل لذلك الريف قبالها: يا إلهي  لا أشعر سوى بالبهجة فور جلوسي هنا فتلك الأغصان دوما تذكرني، كيف التقيت خطيبي وكيف صرنا وها هي أيضا تلهمني بما سنكون عليه، الشجرة هناك تحمل كثير من الأغصان وبدورها كثير من الأوراق، أتمنى أن تكون روايتنا كتلك الشجرة عتيق .

نادتها والدتها من الداخل فأجابتها: آتية أمي؟

والدتها المسنة بحبور كبير: ها قد انتهيت من إعداد المجدرة ولا يتبقى سوى قدوم خطيبك!.. احتضنتها من جديد: شكرا لك أمي.. لكن هل تأخر اليوم أم ماذا !

ابتسمت الأم ممسكة ذقنها الصغير: لا يتبق سوى دقائق ويأتي، لا تقلقي حبيبتي سعيد دوما لا يتأخر عليكِ أبدًا ..

أسرعت صوب حجرتها الصغيرة وأخرجت ثوبها الأخضر لكن تلك الحقائب جعلتها تلقيه بعيدا وأخذت تخرج بهم واحدة تلو الاخرى

الأم بانزعاج : لم كل تلك الجلبة "سارة" فقد قمت بعمل كثير من الفوضى هنا؟

سارة وهي تمسك بالملابس: لا بأس أمي فعيوني سقطت عليهم وأحببت رؤيتهم لآخر مرة .

الأم بابتسامة واسعة: لا عليكِ حبيبتي، ها هو الباب يدق وأنت لم تنتهِ من  ملابسك بعد.

سارة بنشاط: سوف أجهز فورا .

الأم بترحاب: أهلا سعيد.. ولدي لمَ تأخرت .

سعيد بخوف: لقد تأخرت بالمواصلات، غير أنه كانت هناك بعض المضايقات اليوم كالعادة .

الأم بانزعاج يرتسم على وجهها لأول مرة باليوم: الله لا يبارك لهم.. ماذا يريدون منا لقد سئمنا الاحتلال؟

سعيد بحزن: أنها الدائرة التي لا نفرغ منها أبدا، لا يعلم لها نهاية سوى الله .

سارة باندفاع: فلنغلق ذلك الحوار جانبا، أنها نفس الكلمات التي نرددها بكل يوم تطلع به الشمس، لكن اليوم الشمس شديدة البزوغ والهواء منعش وجميل .

ابتسم سعيد المنهك: هيا فلننتهِ من الطعام سريعا حتى نذهب كي  نختار فستانك ياعروس .

اكتسى وجهها بابتسامة خجول جعلت الحمرة تعلو وجنتيها، جلس الثنائي يتبادلان النظرات سويا فهو يشعر لأول مرة بأنها بعيدة عنه وكأن الطاولة اتسعت كثيرا في  حين لا تشعر سارة سوى بالنغزات لقلبها الذي صارت دقاته تفضح سرها وسط الجميع .

أنهت سارة طبقها ثم إذا به يضع يده عليها برقة فتزيل ذراعها برقة وبراءة في حين يلقي سعيد ظهره نحو الحائط بقوة كبيرة كادت تصدم سارة لولا ابتسامته فور رؤيته وجهها البرئ الذي يشع منه الأمل، دقائق من الانتظار أسفل الشجرة العتيق وهم يتناولان كأس الشاي الذي أحضرته الوالدة: لم  يتبق كثير وتفارق سارة شجرتها الأم

سعيد: أعلم مدى أهميتها عندها لذا سنحاول زراعة واحدة أمام منزلنا .

صمتت سارة تتابع الأغصان وهي تتشابك من المنتصف حتى كادت أن تصل لأعالي السماء ثم تلك الأوراق الشديدة الخضرة التي طالما احتمت تحتها عند أي قصف، حتى أيقظها سعيد من سباتها هذه المرة: فلنخرج حبيبتي، ها هي الدقات تشير السادسة.. لامست سارة بأصابعها البيضاء الأغصان وهي تخرج وعيونها مرتكزة على الشجرة.

امتدت الساعات وهي تدور باحثة عن بدلة فرحها، يغازلها سعيد بكل فستان ترتديه لكنها تسارع بخلعه فور مواجهتها للمرآة حتى تلك البدلة الناصعة البياض، تحمل قليلا من الزينة عليها فالبساطة هي ما جذبتها نحو ذلك الفستان فأشارت سارة نحو برقة: هذا.. هو ...

سعيد: فلترتديه كي نراه .

أجابته سريعا: لا.. (ثم تداركت الموقف ) ليس الآن ..

عاد الجميع إلى المنزل وكل منهم يحمل مشاعر فياضة تكاد تملأ الدنيا فرحا، انزوت سارة بغرفتها وهي ممسكة ببدلتها الجديدة التي سوف ترتديها فقط بعد يومين، بينما غادر سعيد نحو بيته وهو يتابع آخر التحضيرات كي يصبح المنزل جاهز لاستقبال عروسه في حين غفت الأم على الطاولة المقابلة لحجرة سارة .

جلس سعيد على تلك الكراسي الخشبية بذلك الصالون الجديد، يبتسم إلى غرفة النوم وكأنه يغازلها: سوف تأتي أميرتك بعد قليل، سيمتلئ ذلك البيت بشعاع وجهها المضئ، ستفتح تلك النوافذ التي قدر عليها الإغلاق طيلة سنوات من الغربة، لقد عدت فقط من أجل عيونها التي تضم شجرتها الخلابة بها، سوف تأتي أميرة قلبي وتبني لي كثير وكثير من الأمنيات التي طالما لم يصدقها قلبي هنا ببلدي ...

تتابعت الدقائق وسارة لم تنم بليلتها فقط هي متيقظة أمام ذلك الفستان تلامسه بيدها ثم تحتضنه بسواعدها حتى كانت الدقائق الأولى بفجر اليوم التالي، شعرت سارة بكثير من الضوضاء بالخارج فأسرعت صوب والدتها على الأريكة: أمي.. أمي

الأم برعشة: أنها الضربات يا أمي ..

سارة بقشعريرة: أنها قوية هذه المرة يكاد قلبي يخرج من جوفه .

احتضنتها أمها بقوة: سوف ينجينا الله كما فعل ذلك من قبل .

نظرت سارة صوب والدتها محدثة حالها بصمت: أتتذكرين يا أمي.. تلك الليلة التي اشتد القصف علينا وكان والدي بالخارج، كم ارتعدنا ولم أجد سوى حضنك يضمني لكن الكارثة الأكبر أن والدي لم يعد أبدا لم نحصل سوى على قطعة مدممة من قميصه تحت الأنقاض .

أشعر بأن تلك الليلة تهاجمني هذه المرة وبكل قوة فالجدران تهتز كسابقها وذلك الزجاج يصدر صوتا بالغ الوحشية، ارتمت والدتها من بين يديها على الأريكة وقلبها يدق بسرعة كبيرة جدا وكأنه يسابق الضربات العنيفة التي أصابتهم بالصمم.

سارة بخوف: أمي.. أمي.. فلتلتقطي أنفاسك عزيزتي أمي .

نظرت صوبها وهي تحاول أن تتشبث بذراعيها: لا أدري ما بي لقد.. وهنا تهشم الزجاج بكثرة وتساقط الجدار المواجه لهم فسقطت والدتها من يدها، سارة محركة جسدها بخوف: أمي.. أمي.. لا تتركيني.

حاولت سارة أن تحمل والدتها خارج المنزل حيث الشجرة هناك، قامت بازاحتها بكل قوة لكن والدتها لا تحرك  يدا فقد ذهبت الأم، لكن الابنة في حالة من الهياج جعلها تسرع  أسفل الشجرة وأصوات النيران تحاصرها بكل مكان .

على الجانب الآخر تزايدت الضربات حتى  هشمت ذلك الصالون الذهبي  قطعة قطعة وسقط جدار البيت وسعيد داخله، ارتعدت سارة من جديد وهي تتابع انهيار المنزل أمام عينيها وهي صامدة أسفل الشجرة ووالدتها ممددة الجسد، فارغة الهواء هذه المرة، أطلقت سارة كثير من الصياح الذي لم يسمعه أحد كعادة البشر، لكنها قامت بضبط والدتها أسفل الشجرة ثم أسرعت نحو البيت وهي تقول: فستاني.. فستاني، توقفت ممسكة بجدار البيت الخارجي لكن سرعان ما انهار هو الآخر فوقها والدموع تكسو وجهها المشرق...

انتهت الضربات بعد ساعات من الوحشية والدمار الذي حل بالقرية بأكملها، صارت القنوات تذيع والأخبار تنقل والكل خلف الأجهزة يشعر بالخزي الكبير والعار على أمة أبت أن تسمع وهي بكامل وعيها..

الغريب بالأمر أنه وبعد عدة أيام خرجت إحدى الفتيات الصغيرات وهي ترتدي بدلة بيضاء للزفاف جامعة إياها من تحت الأنقاض وصارت تهز جسدها يمنة ويسرة.. إذ به فستان عرس سارة التي ذهبت هي وحلمها مع الريح..