الخميس 1 اغسطس 2024

أولمبياد باريس.. «تناقض محير»

مقالات28-7-2024 | 12:38

تنحدر كلمة "أولمبياد" من اسم جبل في اليونان حيث كان يعتقد أن الآلهة الإغريقية تقيم هناك وتشير إلى الدورة الزمنية التي تستمر أربع سنوات والتي كانت تنظم فيها الألعاب الأولمبية القديمة والتي كانت تقام تكريماً للإله زيوس وكان الهدف الرئيسي منها هو تكريم الآلهة وتعزيز الروح الدينية والثقافية بين المدن اليونانية وكانت الألعاب تعتبر فرصة للتنافس الرياضي بين الرياضيين من مختلف المدن اليونانية وكانت الألعاب بمثابة مناسبة للتعاون بين المدن اليونانية المتفرقة حيث توقفت الحروب والنزاعات خلال فترة الألعاب لتسهيل سفر الرياضيين والمشاركين أما الألعاب الأولمبية الحديثة التي بدأت في عام 1896 فكانت تهدف إلى تعزيز السلام والتفاهم بين الأمم من خلال المنافسات الرياضية وتعزيز قيم الصداقة والتعاون الدولي.

أما اليوم فقد انطلقت أولمبياد باريس وهي بعيدة كل البعد عن الأهداف الأولى حيث باتت ولو كأنها ساحة لتنفيس الغضب لكل مكلوم فنرى الشعارات السياسية وقد طغت على ساحاتها ونرى السباق المحموم لكل صاحب قضية أن يعبر عن قضيته وسط عالم انقسم وزاد من فرقته حروب وصراعات فرقت جهده وأنهكت عزائمه عن تحويل هذا اللقاء الأممي الرياضي إلى وقود لزيادة المحبة والوئام وتقوية أواصر التعاون بين الشعوب فباتت اليوم الأولمبياد حزينة كئيبة تنعكس ويلات الحروب الجارية والاضطراب في أوروبا عليها كما تنعكس مأساة العدوان الإسرائيلي على بهجتها لتفقد هدفها الرئيس الذي أنشئت من أجله وهو توحيد الشعوب وتقوية الروابط وتجنب النزاع.

وتحولت أولمبياد باريس إلى ساحة للانتقام السياسي نتيجة للتوترات والصراعات الدولية الحالية وظهور استراتيجيات سياسية تتجاوز المجال الرياضي وهناك عدة عوامل ساهمت في هذا التحول وأبرزها التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى مثل الصراع بين الولايات المتحدة والصين والنزاعات الإقليمية مثل النزاع في أوكرانيا والعدوان على غزة وهذه التوترات تؤثر بشكل كبير على الأجواء العالمية بما في ذلك الفعاليات الرياضية الكبرى مثل الأولمبياد حيث قد تستخدم الدول هذه الفعاليات كمنصات للتعبير عن مواقفها السياسية أو للتأثير على الرأي العام العالمي وهو ما انعكس على تعرض الأولمبياد لضغوط أمنية وسياسية وواجهت باريس تحديات في تأمين الحدث من أي أعمال شغب أو احتجاجات سياسية وفي بعض الأحيان قد تستخدم الدول الكبرى سياسة المقاطعة أو الانسحاب من الأولمبياد كوسيلة للتعبير عن معارضتها لسياسات معينة ما يجعل الأولمبياد ساحة للانتقام السياسي أو الضغط الدبلوماسي ما يهدد روح التنافس السلمي ويخلق توترات لتتحول الأولمبياد إلى منصة لترويج أجندات سياسية أو توجيه رسائل سياسية سواء من خلال الحملات الدعائية أو التصريحات العامة وسادت التغطية الإعلامية للأولمبياد عن حكايات تسلط الضوء على التوترات السياسية.

ولو جاز لي أن أكتب رسالة إلى من يهمه الأمر لتسليط هذا الضوء على هذا التناقض سأعبر فيها عن قلقي العميق وتوجهي باللوم بشأن التناقض البارز الذي نراه اليوم بين إقامة الألعاب الأولمبية التي تعتبر رمزاً للتعاون والتفاهم بين الشعوب وسلوكيات تشجع الحروب وتسهم في تفشي النزاعات الدولية مذكرا الجميع بأن الألعاب الأولمبية باعتبارها حدثاً عالمياً رفيع المستوى تمثل قمة الروح الرياضية والسلام والتعاون الدولي فهي تجمع بين الرياضيين من جميع أنحاء العالم في إطار من المنافسة السلمية والتفاعل الثقافي وتعزز القيم النبيلة مثل الوحدة والتفاهم بين الأمم وهذا هو المبدأ الذي يفترض أن تقوم عليه الأولمبياد وتسهم في نشره على نطاق عالمي واسع ومع ذلك فإن التناقض بين هذه القيم النبيلة والواقع الحالي يشير إلى مشكلة كبيرة ففي الوقت الذي تنظم فيه الأولمبياد لتكون بمثابة احتفال عالمي للسلام والتعاون نجد أن بعض الدول تتبنى سياسات وسلوكيات تشجع على النزاعات والحروب وإن الدعم السياسي والعسكري لبعض الصراعات والإجراءات التي تزيد من تفشي التوترات العالمية يسهم في تقويض المبادئ الأساسية التي يجب أن تدعمها الأولمبياد.

وهذا التناقض يثير تساؤلات خطيرة حول صدق الالتزام بالقيم التي تروج لها الألعاب الأولمبية وكيف يمكننا دعم روح التعاون والتفاهم من جهة وفي الوقت نفسه المشاركة في أو دعم سياسات تعزز الصراعات؟ كيف يمكننا الاحتفال بالإنجازات الرياضية على مستوى عالمي بينما نغض الطرف عن التصرفات التي تسهم في إشعال النزاعات وتقويض السلام؟ وتهلك الحرث والنسل فإنه من الضروري أن نعيد تقييم كيفية تأثير سياساتنا وسلوكياتنا على المبادئ التي نحتفل بها ويجب أن يكون هناك انسجام بين القيم التي نروج لها والتصرفات التي نتبناها على الساحة الدولية ونحتاج إلى التزام حقيقي بالسلام والتعاون الذي تمثله الألعاب الأولمبية وليس مجرد تصريحات جوفاء تفتقر إلى الأفعال الملموسة.

ولعل هذه الرسالة تكون بمثابة دعوة للتفكير وإعادة النظر في كيفية تحسين تناسق الأفعال مع القيم التي نعتز بها حيث يجب علينا جميعاً العمل من أجل عالم يتسم بالسلام والتعاون الحقيقيين وليس مجرد صورة زائفة تستخدم للتفاخر والتسويق.