الثلاثاء 6 اغسطس 2024

تحرير المستقبل من براثن الماضي: التنوير الثقافي في مصر


د. زين عبد الهادي

مقالات5-8-2024 | 14:59

د. زين عبد الهادي

ثمة العديد من الأخطاء الشائعة حول التنوير الثقافي، كما أنه من المؤكد أنه ليست هناك عصا سحرية لغربلة أفكار المجتمعات وخروجها من أسر الماضي، ومن المؤكد أن التنوير كما يمارس في المجتمعات يمارس الآن في المؤسسات والشركات في قطاع الأعمال، وتبحث المؤسسات الضخمة والكبيرة عن التنوير كوسيلة لتوحيد هدفها، وتحسين هياكلها ومنتجاتها وحجمها بالسوق، من خلال بناء عقل جمعي اقتصادي، واجتماعي وفكري، ودفع العاملين بهذه المؤسسات إلى استخدام العقل والتجربة العلمية ونتائجها في تحسين أداء هذه المؤسسات، إلى الدرجة التي أصبح معها التنوير الثقافي واحدا من أدوات قطاع الأعمال وليس العلوم السياسية فقط، كل هذا من أجل بناء مجتمع حتى لو كان صغيرا جدا يؤمن بالتفكير  بطريقة مختلفة، لكن ما هي هذه الطريقة المختلفة للتفكير؟  

إذن وقبل أن نستمر، علينا أن نقدم تعريفا للتنوير الثقافي، التنوير ببساطة هو مقاومة الأفكار الخرافية والأسطورية بالعلم والمعرفة وإعادة الاعتبار للنتائج المادية للعلم، أو هو طريقة لإعادة بناء السلوك الثقافي المبني على المنطق والتفكير، كما يمكن القول بشكل أكثر تحديدا أن التنوير هو حدث فكري تم في القرنين السابع عشر والثامن عشر وامتد إلى القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، بدأ الحدث بإصلاح الفكر الديني، وتم على أيدي مجموعة من الفلاسفة والعلماء، الذين نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته. اعتمد أهل التنوير على التجربة العلمية ونتائجها الملموسة بدلا من الاعتماد على الخرافة والخيال، بهدف محدد هو تحرير عقول الشعوب من خلال نشر المعرفة العقلانية والإيمان بحرية الفرد.

الأسئلة التي علينا الإجابة عليها:

كيف لأمة أن تتقدم إذا مارست طرقا مختلفة للتفكير ومواجهة مشكلاتها وحلها؟ وإذا كان ذلك قد تم في المجتمعات الغربية منذ قرنين أو ثلاث، فكيف يمكننا أن نحتذي التجربة بأقل قدر من الخسائر في المجتمعات العربية أو على أقل تقدير في المجتمع المصري؟ وهل يمكن أن نبدأ التنوير بمجموعة من التجارب في المؤسسات المصرية؟ وما تلك المؤسسات التي يمكنها تحمل العبء الأكبر في معركة التنوير الثقافي في المجتمع المصري؟ والتي يمكنها أن تقود المجتمع ككل، وما الأساليب التي يمكن أن تستخدم في ذلك؟ وكيف يمكن لمؤسسات عربية على الأقل وشركات أن تنجح في الأسواق العالمية بممارسة طرق مختلفة للتفكير والتعامل تمكنها من تحقيق أهدافها؟ وإلى أي مدى يرتبط ذلك بالتحول في السلوك والأفكار؟ وإلى أي مدى أيضا يمكن للتنوير الثقافي أن يحمل راية التغيير الثقافي في المجتمع؟ ثم ماذا بعد التنوير الثقافي؟.

مناهج التفكير من أجل تقديم الحلول

كثيرة هي الأسئلة، وفي محاولتنا للإجابة عليها جميعا أو على بعضها فإننا عادة نلتزم بمنهج له طبيعة تفكيكية للوصول إلى الحقيقة وراء كل فكرة نتناولها، ظهر عصر التنوير في أواخر القرن السابع عشر والثامن عشر بالتركيز على العقل والتجريبية. باعتبارها فلسفة تشكيل رئيسية للثقافة الغربية، كان لها تأثير تاريخي على المؤسسات الدينية والثقافية والأكاديمية والاجتماعية هناك في ذلك الوقت. فالنجاح الذي تم في مواجهة الكنيسة التي كانت تسيطر على أنفاس الناس وأفكارهم في العصور الوسطى كان ضخما من خلال تفكيك الكنيسة وتحجيم مدها في السيطرة على الإرادة الشعبية بظهور تيار تحرري معارض في الفكر الديني المسيحي في أوروبا، كالبروتستانتية والتي تعود أصولها إلى الحركة الإصلاحية التي قامت في القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر من أجل اصلاح الكنيسة الكاثوليكية، هذه الحركة الإصلاحية التي تم البناء عليها. لقد كانت أكبر عوائق النهضة الفكر الكنسي السائد في القرون الوسطى، وبسقوط هذا العائق بدأت الحركة الإصلاحية تمتد إلى كل المجالات ليمثل عصر النهضة القاعدة الأساسية للتنوير الثقافي في أوروبا، ولكن على الرغم من أن أوروبا تواصل النجاح على طريقتها الخاصة إلا أن هناك أيضا حدثت انحرافات ومازالت تحدث وهذا ما يتطلب الانتباه إلى الإجابة على السؤال ماذا بعد نجاح التنوير؟

التنوير الثقافي والقضايا السياسية والفكرية

من المؤكد أيضا أن التنوير يعتمد على مجموعة من المبادئ الأساسية المتعلقة بالحرية والديمقراطية والمساواة والتسامح وقبول الآخر والعدالة الاجتماعية والفصل بين السلطات والحكومة الدستورية، وبجانب ذلك تقف مسألة قبول نتائج المعرفة المكتسبة ونتائج العلم وخاصة العلم ذى الطبيعة التجريبية والفكرية ناهيك أيضا عن قبول العلوم الإنسانية والفنون في المجتمع، ولا يتم ذلك دون تعليم، ولا يتم ذلك دون تنوير  في المجتمع، فبدون هذه المبادئ لا مجال للتنوير ولا يمكن فرضه خاصة مع شعوب تمتلك عشرات القرون من التفكير الديني وعاشت في الخرافات لمئات السنين، لذلك اتجهت كل الدول لممارسة التنوير على قطاعات صغيرة تتعلق بمؤسسات أو شركات أو تجمعات ثقافية أو تعليمية، وهكذا فما لا يدرك جله لا يترك كله، من هنا تلجأ الشركات والمؤسسات الضخمة إلى تطبيق مفهوم التنوير الثقافي بين قطاعات بعينها لمساعدة بقية المجتمع في النهضة المنشودة، تأسيا بتاريخ وممارسات التنوير في الدول الأوروبية في هذا الوقت.

إن المشكلة الرئيسية والمتعلقة بعوائق التنوير الثقافي إذا أمكننا وصفها سيمكننا حلها، تبدو المشكلة في مجموعة من الظواهر التي تجذرت في المجتمع المصري نتيجة لمجموعة من الممارسات المؤسسية منذ عهد بعيد، وكذلك تفضيل نماذج الخطاب الديني داخل المجتمع على نماذج الخطاب العلمي، وغياب مصداقية الخطاب نفسه، والتعامل بشكل ساذج مع طرق حل المشكلات وعلاجها، وعدم القدرة على تطبيق المبادئ التي وضعت للمجتمعات الغربية وقادتها إلى الحضارة العلمية والفكرية التي نشاهدها.

الكنيسة والتنوير

في عصر التنوير الأوروبي فقدت الكنيسة والدولة مصداقيتها أمام الشعوب الغربية، ورغم ذلك ظلت الكنيسة الكاثوليكية والإصلاح البروتستانتي هما قلب العالم الغربي ويخطئ من يظن أن التقدم تم بعيدا عن الكنيسة، يقول المؤرخ بول ليغوتكو من جامعة ستانفورد إن الكنيسة الكاثوليكية "هي في قلب تطور القيم، والأفكار، والعلوم، والقوانين، والمؤسسات التي تشكل ما نسميه الحضارة الغربية" كما لعبت الكنيسة الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة دورًا بارزًا في تاريخ وثقافة شرق وجنوب شرق أوروبا والقوقاز والشرق الأدنى.

أدوات التنوير في المجتمعات الغربية

كان العلم والتعليم هما الضمانات الوحيدة لعودة الروح للقارة الأوروبية، انتشرت المقاهي الثقافية والصالونات والعلماء والجمعيات العلمية والمعارض الفنية، ومنها – على سبيل المثال لا الحصر - ركن المتحدثين Corner Speakers الذي أنشئ في منتصف القرن الثامن عشر في القسم الشمالي الشرقي من حديقة الهايد بارك في لندن كواحد من أهم نماذج طرق التنوير، وهي المكان الذي يجتمعُ فيهِ المُتحدثون كل أحد من كل أسبوع لإلقاء كلمةٍ أو مُحاورة حول موضوعٍ مُعيَّن، متمتعين في ذلك بميثاق الحرية في التعبير داخل المجتمع الإنجليزي. حيث تتاح الفرصة بعد ذلك للنقاش الجمعي، كما أن هناك تجمعات العلماء والمثقفين ومحاولة توصيل كل ذلك لأبناء الشعب بدلا من تركهم ضحايا لأفكار الكنيسة أيام الأحد وعلينا أن ندرك المغزى من جعل يوم الأحد أيضا مكانا للحوار داخل الحديقة ولا يوجد هذا النموذج داخل لندن فقط بل ستجدونه في مقاطعات أخرى مثل لينكولن إن فيلدز وكننجتون بارك وفيكتوريا بارك، كما أنه متناثر في كثير من العواصم الأوروبية فهو موجود في أمستردام في هولندا تحت مسمى مختلف  حيث يسمى هناك SPREEKSTEEN   وهذا مثلا مفتوح 24 ساعة يوميا للكلام،  بل هو متناثر  في أستراليا في  سيدني وفي ملبورن وهو واحد من أسباب سعادة السكان والمفكرين في هذه المجتمعات، وبقياس نبض الشارع هناك تم وضع وصفة النجاح الأوروبية، للتغلب على سيطرة الكنيسة وسيطرة القوى الأرستقراطية، وتم التحكم في التطرف الديني، والتطرف السياسي وكل أشكال التطرف داخل هذه المجتمعات، لم يكن هناك بد من تطبيق الديمقراطية وتحمل تبعاتها لإنقاذ المجتمعات هناك، لم يكن هناك بد من طرد الأرواح الشريرة داخل المجتمعات التي سيطرت هناك لقرون، دون العلم التجريبي ودون العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، ودون تخارج الكنيسة من السيطرة، ودون الفنون بكل اشكالها، ما كان يمكن لعصر التنوير أن يمتد.

يمكن الإشارة إلى تاريخ صغير لعصر التنوير في أوروبا الذي سبقه وتداخل معه الأعمال العلمية والموسوعية مثل موسوعة ديدرو والموسوعة البريطانية وغيرها، وتمثل الأعمال الموسوعية والقواميس ظاهرة كبيرة في عصر التنوير، كما تمثل أيضا حدا فاصلا بين ما قبل التنوير وما بعده، ولا يمكن للمجتمع أن ينتج أعمالا موسوعية إلا بتكاثر العلماء ذوي العقلية الشمولية، التي تمثل أيضا أحد أعمدة قيادة عصر التنوير، وأعمال فرانسيس بيكون وجون لوك، من بين آخرين. يرجع البعض تاريخ بداية عصر التنوير إلى نشر خطاب رينيه ديكارت حول المنهج في عام 1637، والذي يتضمن قوله الشهير Cogito, ergo sum ("أنا أفكر، إذن أنا موجود"). ويستشهد آخرون بنشر كتاب إسحاق نيوتن مبادئ الرياضيات (1687) باعتباره تتويجا للثورة العلمية وبداية عصر التنوير. تقليدياً، يؤرخ المؤرخون الأوروبيون بدايتها بوفاة لويس الرابع عشر ملك فرنسا عام 1715 وانتهائها باندلاع الثورة الفرنسية عام 1789. ويؤرخ العديد من المؤرخين الآن نهاية عصر التنوير على أنها بداية القرن التاسع عشر، مع أحدث الفرضيات المقترحة. العام هو وفاة إيمانويل كانط عام 1804.

شروط تحقيق التنوير الثقافي

العقل هو محرك الانسان وفق الأفكار التي وضعت فيه، ولايمكن تحرير أي مجتمع دون تحرير عقله، ولا يمكن تحرير العقل دون القضاء على الأفكار الخرافية، والأسطورية، والظلامية، كما لا يمكن تحرير العقل بدون أن يؤمن هذا العقل بقدرة العلم على تحسين حياة الإنسان، وقدرة التجربة العلمية على اكتشاف الحقيقة، ولا يحدث ذلك دون أعمدة  رئيسية يستند إليها، فكما لايمكن تفريغ العقل تماما مما فيه، فإن الأمر يشبه الاناء الفارغ والملآن، فإذا أردنا أن نفرغ العقل من أفكاره القديمة البائسة فعلينا أن نملأه سريعا بالأفكار الجديدة، لايمكن للإنسان أن يؤمن بالعلم والمعرفة إلا إذا تم تبسيط حياته، لتكون حياة خالية من المتاعب مع الوقت، ربما امتلك الانسان في أوروبا القدرة على المشاركة في التنوير وهي عملية استغرقت قرنا أو أكثر  هناك تقريبا، مع تحققه من أنه يمتلك مصيره وقدره، وأنه حر فيما يفعل دون أن يؤذي الآخرين، ومن هناك تلتئم شروط التنوير، لايمكن تحقيقه دون شروط مكتملة وعقد اجتماعي جديد يجب اكتشافه.

أخطاء أوروبية على الطريق

على الرغم من حدوث التنوير في أوروبا، إلا أن ذلك تم في خضم خطاب استعماري سابق على التنوير بدأ مع عصر الكشوف الجغرافية الذي بدأ في القرن الرابع عشر أي ما قبل عصر التنوير بقرنين تقريبا أو ثلاث، وهو خطاب لم يتغير كثيرا رغم هذا التنوير الذي تم، فلم ينته الخطاب الاستعماري، ولم ينته الصراع على المستعمرات، ولم تنته المستوطنات، فقد اختارت أوروبا طريق الهيمنة الاستعمارية واستغلال الدول الفقيرة وتمكنت من العبث بالعقول ومن بث أفكارها وشيطنة الإنسانية، لكن بلا شك حققت الكثير داخل مجتمعاتها وهو ما يجذبنا لهذه التجربة، لكن خارجيا لم يكن التعامل الأوروبي مع العالم منضبطا.

كلمة أخيرة

من هنا نقف أمام خيار  مصر منذ آلاف السنوات، أننا لسنا ولن نكون دولة استعمارية فهو قدر المبادئ العظيمة والراسخة، كما أن مصر أيضا تمثل نموذجا للإسلام الوسطي، وهناك تقارب الآن يحدث بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية من خلال اعتراف الكنيسة في الفاتيكان بالكنيسة الشرقية الذي تم عام 1965، وهناك أمور كثيرة ستحدث من هذا التقارب الذي نأمل دائما أن يكون في صالح أقباط مصر والشرق بشكل عام، ولابد للتنوير المنشود من التصالح مع هذه المفاهيم، وعلينا أن نأخذ هذا النموذج من دول مثل أندونيسيا وماليزيا التي هي أقرب لنا في المفهوم الاسلامي، وهذا يحتاج إلى كثير من العمل على مستويات عدة سياسية واقتصادية وفكرية وعلمية، وثقافيا فمصر أرض خصبة للتنوير الثقافي، فقرنين من الزمان انتقلا بمصر من العصر الزراعي لعصر الصناعة والمعرفة والمعلومات، وعلى المستوى الثقافي والتعليمي تحققت الكثير من الإنجازات، وهناك المدارس والجامعات التي يجب أن تعكس مقرراتها الإرادة السياسية في التنوير ويرتبط نفس الأمر بالمعلمين وأساتذة الجامعة، وهناك الجمعيات الأهلية وغيرها، ولا يمكن القياس على أي أخطاء سابقة فلا تجربة دون أخطاء، لاشك أن الأفكار المتعلقة بالقضايا السياسية والاقتصادية والتعليمية يمكنها أن تلعب أدوارا كبيرة في التنوير المأمول، ولا شك أن تجهيز الأرض لعصر ما بعد التنوير يجب أن يتم، ولا شك أن المكتشفات العلمية ستساعد كثيرا في هذا الأمر، وبلا شك أن المبادرات المتعلقة بالصحة والتكافل الاجتماعي وتوطين المشروعات الصغيرة أصبحت ملموسة، كل ذلك سيساعد كثيرا في حدوث التنوير المطلوب للتغيير الثقافي في مصر