الإثنين 5 اغسطس 2024

شهادة مثقف | محمد صالح البحر: الأدب عربة لا تكف عن الترحال في الزمن

الروائي محمد صالح البحر

ثقافة5-8-2024 | 20:02

دعاء برعي

تتشكل عوالم الروائي والقاص محمد صالح البحر في مجملها من ذلك الإرث الحضاري الممتد في عمق مخيلة أبناء جنوب مصر، هذا الإرث الذي يحمل كنوزًا من الحكايات الشعبية والفلكلور والأساطير والخوارق والعادات والتقاليد، والذي شكَّل التركيبة الفريدة لناس جنوب مصر، وجعل لإبداعاتهم في مختلف الفنون والآداب وهجًا خاصًا.. وهو ما تجلى في أعمال يحيي الطاهر عبد الله، وعبد الرحمن الأبنودي، وأمل دنقل، وعبد الوهاب الأسواني، وبهاء طاهر، وغيرهم من الرواد الذي يُعد صالح البحر امتدادًا لهم، بخصوصية أعماله التي تحمل ذات الإرث، ولا تكل من السير به عبر الزمن، والتي من أهمها "أزمنة الآخرين"، و"ثلاث خطوات باتجاه السماء"، و"موت وردة"، و"حقيبة الرسول"، و"قسوة الآلهة"، و"حتى يجد الأسود منْ يحبه"، و"نوافذ الضوء"، وغيرها.

وهنا لا يخص صالح البحر بوابة دار الهلال بشهادة تقليدية، بل يدلي بشهادة إبداعية تتجلى فيها مقومات السرد القصصي الفنية والجمالية، لذا سنتركها كاملة دون تدخل، حتى يتمكن القارئ من الاستمتاع بأسلوبها، يقول:

كلما فكرت في كوني كاتبا تذكرتُ ذلك الشعور البعيد، الذي اعتراني وأنا صغير، فأبتسمُ له ممتنا، ومعترفا بفضله الكبير، لأنه وضع قدميّ على بداية الطريق، "أنا عربة كارو تحلق في الفضاء، وتحاول أن ترى العالم بعين إلهية، لتكتشف أغواره"، فبلا أدنى قدر من السخرية من نفسه، أو الإحساس بانفصاله عن العالم، كان الطفل ينظر إلى كل الأشياء من حوله بعين مغايرة، نظرة أشعلتْ القراءة وقودها، وجلبها الإصرار الدائم على معرفة المزيد، وملأها ـ في سبيل ذلك ـ الكثير من التأمل والصبر، كأن النظرة العابرة التي كانت تخرج من عيون أقرانه، لا تكفي للرؤية، وكأن بداخل كل شيء يراه، أو يقف بإزائه، شيء آخر، بل أشياء أخرى عديدة، مختبئة في أعماقه، ويجب عليه أن يكتشفها ليصل إلى الرؤية الصحيحة، أو المعرفة الحقيقة، التي تؤهله لأن يقول بثقة ـ تُشبه اليقين ولا تماثله ـ أنا أرى ذلك الشيء، وأعرفه حقا.

 

وبديلًا عن الشكوى من وعورة الطريق الذي بدأ يُدمي عقله، ويَحْني ظهره من كثرة الانكفاء على الكُتب، كثيرا ما اعتبر الطفل نفسه محظوظا بنشأته على محبة القراءة، ففي البيت كانت القراءة أمرا طبيعيًا، كالأكل والشرب واللعب والنوم، رسَّخَ وجودها إخوته الكبار الذين صنعوا دولابا خشبيا كبيرا، أسموه مكتبة، واحتفظوا فيه بكل الكُتب التي اشتروها على اختلاف رؤيتهم للحياة، ثم تركوه مفتوحا لكل منْ أراد أن يقرأ من أفراد العائلة، وفي مراحله التعليمية المختلفة امتلك مدرسين كانوا يُدركون جيدا أهمية المعرفة إلى جوار العلم، لذلك ربطوه دائما بالمكتبة، فزادتْ بداخله محبة القراءة حتى صارت جزءا من ذاته، لم يستطع شيء أن ينتزعها من داخله، ولا حتى محبته لممارسة كرة القدم التي كان مجنونا بها، ومع بداية فترة الثمانينات التي شكلتْ مراهقته البكر، كان قد قرأ الكثير من الألغاز التي ربطته بمحبة القراءة، وسحر الحكايات، فانتقل لقراءة طه حسين، والعقاد، ومحفوظ، والحكيم، وإحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وأنيس منصور، وغيرهم الكثير من رواد الفكر والمعرفة والإبداع آنذاك، كان يقرأ كل شيء بلا ترتيب أو تصنيف أو دليل أو تفرقة، وفيما عدا الألغاز والقصص كان هناك دائما الكثير من المعاني، التي بدتْ كأبواب مغلقة على ما بداخلها، فراح يقرأ في وضع السجود ليستجمع بداخله أكبر قدر ممكن من التركيز، وعندما أصابه اليأس من العثور على مفتاح الكثير من الأبواب، التي أصرَّتْ على أن تظل موصدة في وجهه، سقط الكتاب من بين يديه، وسقط رأسه في الوادي الذي كونه التصاق فخذيه المرتعش، وسقط هو نفسه في قرار تعب شديد، لم يعرف من أين يأتيه بكل هذا الثقل الجاسم، الذي يُكلس جسده إلى حد الجمود والصنمية، فيما روح التمرد بداخله تدعوه إلى فرد جسده في الهواء لاجتلاب الخلاص، حتى أدرك بعد مجاهدات مضنية أنه تحت سطوة الجمود تماما، بحيث لم يستطع إلا أن يفرد ذراعيه، وعندما كانتا ممدودتين عن آخرهما إلى الوراء أغمض عينيه، فاجتاحهما بياض لامع، وهزَّة واهنة راحت تعبث بجسده على مهل، حتى شعر أنه ينسل من جسده، ويرتفع في فضاء الغرفة، وهناك رأى نفسه مثل عربة كارو صغيرة، مكورة على نفسها، ومركونة بإهمال كأنها تنتظر منْ يحركها، عربة تحمل الكثير من الكُتب المغلقة، وذراعاها مربوطتان بكتابه الأول، الذي يُشبه مُهْرا يعجز عن تحريك أقدامه ولو لخطوة واحدة إلى الأمام، كان يظن أنه يحلم بعدما أسلمه التعب الشديد إلى يد النوم، أو أنه لا يزال ممسكا بأحد ألغاز "المغامرون الخمسة"، ويتخيل أنه سادسهم الذي ينتظر انقاذَهم القريب، لكنه أقسم بعد ذلك كثيرا أن الوسوسة التي خرقتْ أذنه، ودعته إلى الامساك بلجام الحصان الصغير، وقيادة العربة، كانت تأتيه من كائن خرافي وقف خلفه في سماء الغرفة المغلقة، ومنعه الخوف من الالتفات إليه، وأنه لم يمتلك سبيلا لينجو من قهر وسوسته إلا بالانصياع لها.

 

الوجود فوق الناصية الخشبية للعربة الكارو بدا له أفضل كثيرا من جَرِّها، فقد شعر الطفل أنه يمتلك مساحة أفضل للرؤية، لذلك ابتسم كمن أصابته فرحة الخلاص من مجهول ما، وفي مرور الوقت كان كلما استدار إلى تل الكُتب المكدسة على ظهر العربة، وجد إلى جوار كل كتاب مغلق مفتاحا يخصه، فأصابته البهجة كأنه عثر على كنز، ولم يعد أمامه إلا أن ينعم بالدخول إليه، هكذا انفتح عقله على كل الكُتب، وبدأت يداه في نبش طريق الحكايات، حتى أنه كتب قصتين كاملتين، فامتلأتْ روحه بالحلم، وتمنى لو أنه يستطيع في يوم ما أن يتعلم القيادة، ويتحرك بعربته الصغيرة.

 

السقوط المباشر في النهر لن يعني شيئًا إلا الغرق، لكنك في سبيل انقاذ روحك ستظل تضرب بيديك في كل اتجاه، حتى تتعلم السباحة وتنجو، وفي الحي اليساري انفتح عقل الشاب الصغير ـ في تسعينات القرن الماضي ـ على طوق نجاة، بدا وكأنه كنز آخر لا يقل أهمية عن كنز القراءة، فكثرة النقاشات الجادة، وتبادل الأفكار المستمر، فتحا أمام عينيه أبوابا أخرى، بدتْ وكأنها كانت مختبئة من وراء الأبواب التي ظن أنه قد فتحها من قبل، فعرف أنه إذا كانت القراءة طريقا، فإن النقد هو الدليل الوحيد للسير الصحيح عليه، وأن العقل الناقد تصحيح لكل مفهوم، وتأكيد لكل ما هو صواب، وفضاء خصب لعربتك الجامحة كي تُهدئ من روعها، وتتعلم اكتشاف المسار الذي يخصها، واعلاءً لكفِّة العقل الناقد الذي نما بداخله اختار الشاب طريق الإبداع، وكان قد أتقن بعض دروبه الوعرة، وحصل بفضله على جائزتين كبيرتين في ذلك الوقت المبكر، وعندما استوى فوق عربته مرة أخرى ـ وكان قد كَبُرَ فيها كل شيء ـ مرتحلا عن جفاف الحي اليساري، بدا كأنه كان يستريح، أو كمنْ توقف فقط ليحمل زادا للرحلة، التي كانت لابد وأن تستمر به، وأنه الآن مسحوب بلا إرادة نحو شيء ما آخر، ربما يجهل كينونته لكنه يعلم أنه يُشبه روحه إلى حد كبير، وعندما أمعن النظر إلى داخله بصدق عرف أنه لم يكن اختيارا محضا، بل "طواعية التلبية" لنداء الكتابة، وسحر الحكايات الذي حلم أن يكون واحدا من أهله، وهكذا وجد الشاب الصغير اللجام كأنما يشَدَّ نفسه، وصهل الحصان كأن كائنا خرافيا، غير مرئي، نفخ في أذنه، فانطلق كأنه يعرف الطريق.

 

أن تعرف ذاتك فأنت تعرف الحب أيضا، ورغم أن الحب ـ في بلاد الجنوب ـ لم يكن غير متاهة أبدية، مسلوبة الروح تحت يد القبيلة، إلا أنه وقع في شراكها من أول نظرة، كأننا لا نختار مصائرنا، بل يدفعنا شيء ما باتجاهها، ولا نملك إلا أن نهرول للوقوع فيها، وبقدر ما كانت التجربة عميقة وصادقة كانت قسوتها الرافضة أيضا، القسوة التي امتلكتْ القدرة على أن ترميه في جُبِّ عميق من الزهد، تخلى فيه عن كل شيء، بيته وأهله ودراسته وأصدقاءه وبلدته كلها، وكان الجُبُّ صلدا بلا ماء، فبدا ارتطامه به كأنه صفعة خرافية، لم يكد يفيق منها لينتظر منْ يُنقذه، حتى وجد الجُبَّ ممتلئا بفتحات كثيرة، كل فتحة تؤدي إلى طريق كأنه سرداب، وكل السراديب متداخلة وملتوية ولا تنتهي إلى شيء بعينه، ليبدأ الشاب رحلته باتجاه التيه الذي لم يمتلك أي قدر من الرحمة لالتقاط الأنفاس، ولم يترك له أية فرصة للنجاة، ولو كانت العودة إلى قاع الجُبِّ من جديد، لينظر إلى السماء البعيدة من فوقه، عشر سنوات كاملة من القسوة المفرطة جعلته يستعذب الألم، ويمارس على روحه وقلبه وجسده كل أنواع العذاب التي سهلتْ الدنيا طريقه للعثور عليها، وكأن الأمر كله مؤامرة كونية عظيمة لآلهة شريرة، تختصم مصيره ولا تبغي شيئًا سوى القضاء عليه، وسحق وجوده في الحياة، وامعانا في العذاب جعلته يخط بيده ـ التي تعلمتْ فن السرد ـ كل ألم، وكل خيبة، وكل مرار طفح من داخله، بل ويُعيد تجويده على الورق، قبل أن ينشره على الناس.

 

"كما تقتلك الحياة تُعطيك الأسلحة التي تواجه بها مصيرك"

وإلى الآن لم يستطع الشاب أن يعرف، منْ الذي قذف بهذه الجملة داخل روحه؟! وعندما تعب من البحث عَزَّى الأمر كله إلى الكائن الخرافي الذي وسوس له أول مرة، وعندما التفتَ وجد بين يديه كمّا لا بأس من قصص التيه، وثناءات كثيرة من مبدعين ونقاد كثر، في الندوات التي كان يستريح فيها من جحيم المتاهة، فأحس أنه يُصفع للمرة الثانية، لكنها بدتْ له وكأنها صفعة إفاقة، فها هو الآن يعود إلى عربته الكارو مرة أخرى بعينين مفتوحتين على المدى، يمسك اللجام بيدين قوتين وثابتتين، وينزغ حصانه بمودة يعرفها كي يطير، وها هي العربة تُحلق به إلى مكان علوي، يرى فيه كل شيء بحقيقته وأبعاده الكامنة، ويرى نفسه وهو يسابق الوقت ليُعيد ترتيب حياته من جديد، لعله يُدرك بعضا مما فاته على طول عشر سنوات ضائعة بمقاييس الدنيا، وثرية جدا بما صَبَّته في روحه من خيال، وبما يمتلك الآن من رؤية، وقدرة على أن يسير في الحياة بخطى ثابتة، بعيدا عن الغواية، وقريبا جدا من طفل ومراهق وشاب ورجل يشبهونه كثيرا، وكأنه يرسم ملامحهم بيده على ورق أبيض.

 

سألني أحدهم ذات مرة، كيف تقود عربتك؟! فأخبرته أن المزاجية هي التوصيف الحقيقي لما أؤمن به، وما أؤمن أنه يجب أن يكون عليه كل المبدعين، ولا أعتبر نفسي مبالغا عندما أقول إن الإبداع الحقيقي يجب أن يتكئ على تلك المزاجية في الكتابة، طالما كانت تعني أن الكتابة هي التي تنادينا، وليس نحن منْ يذهب إليها، اختمار الرؤية لأي عمل إبداعي قبل الشروع في كتابته يحتاج إلى وقت، وعلامة اكتماله هي نداء الكتابة على المبدع، كي يرفعه عن وعيه المُثقل، ويضعه بعناية فائقة على الورق.

 

المبدع ليس موظفًا مرتبطًا بالوقت، ولا ممثلا مرتبطا بفكرة التواجد، ولا سياسيًا مرتبطًا بواجب الظهور، المبدع نبي ذاته فقط، ونبي منْ يؤمن به طواعية دون تبليغ، لذلك فارتباطه الوحيد يجب أن يكون بالوحي، ووحيه "نداء الكتابة" له، دون شرط أو قيد.

 

أنا سارد بطبيعتي، أعشق الرواية والقصة القصيرة، ولأنني أميل إلى الرؤية الشاملة، المكتملة، أعشق الرواية أكثر، وكل كتابة ما عدا ذلك ـ مقال، ومسرح، وسيناريو، ونصوص شعرية ـ هي "تمرين على الكتابة" بين روايتين أو قصتين، تمرين يصلح لإبقاء جمرة الإبداع مشتعلة بداخلي، وإبقاء يديّ قويتين في قبضتهما على لجام "عربة الكارو"، فأقودها حيث أشاء، كما أن هناك الكثير الأفكار الأخرى التي يفرض تجسيدها شكلا مغايرا عن السرد القصصي، ولا بد أن أستجيب، فما اكتشفته عربة الكارو في تجوالها الرحب، أن الروائي لا يكف أبدا عن التجريب، وروحه شاعره.

 

أستطيع الآن أن أقول بثقة، إن الكتابة كانت، ولا تزال، المنقذ الوحيد لي في كل مراحلي العمرية، المنقذ من اللهو وأنا صغير، ومن شتات الحب المستحيل وأنا شاب، ومن جنون العالم الآن، ورغبته المفرطة في الهرولة باتجاه مصير مجهول، وقد ألهمني ذلك الانقاذ إلى اكتشاف نفسي، وهو ليس بالأمر الهين على الإطلاق، فاكتشاف الذات يعني اكتشاف العالم كله، والقبض على سر وجودنا فيه، فتعمُقُنا في قراءة الكلمات يدفعنا دفعا للنظر إلى كل الأشياء بعمق تستحقه الأشياء، ويليق بنظرتنا الإنسانية إليها، هكذا اكتشفت محبتي لكتابة موضوعات التعبير، ومع الوقت استطعت تطويرها لتشبه القصص التي أقرأها، وعندما صنعتُ عربتي صارت قصصا موازية تخصني وحدي، ومن وقتها وأنا أطير فوق العربة، ولا أحلم بشيء إلا أن أكون كاتبا يقرأني الناس، وربما أيضا يتأثرون بما أكتب، لم أحلم إلا أن أكون واحدا مثل هؤلاء الذين شكلوا خيالي وأنا صغير، وعلموني أن محبة العالم تبدأ من محبتنا لأنفسنا، وقدرتنا على معرفة جوهرها الحقيقي، وسر وجودها في الحياة، الكتابة بالنسبة لي هي المنقذ من غواية العالم، وعبثيته المفرطة، ونزوحه الدائم باتجاه التفاهة.

 

ورغم أنها في مرور الوقت قد ارتدتْ لباس الحكمة الذي أثقل حركتها، حتى ليظن الناظر إليها من بُعد أنها قد توقفتْ، إلا أن "عربة الكارو" لا تزال تحلق في فضاء رحب، لا ينتهي، وتتوق إلى عمق أكبر.