تنشر «بوابة دار الهلال» قصة قصيرة بعنوان «الدائرة» للكاتبة صابرين خضر
نص القصة:
لأمزج الأسود والرمادي وأخلط اللونين جيدًا، يا له من لون رائع، لنضيف القليل من الأبيض، القليل فقط _ لا تفسد الأمر _ واِخلط بعناية، يحتاج الأمر نعومة واستمرارا ليتجانس الخليط، اللون جاهز الآن.
لتختار الفرشاة المناسبة، ها هي لقد اختبرتها من قبل كثيرًا، وأبدت نتائج رائعة.
للحظة التقاء اللون بشعر الفرشاة هيبة ما، كاحتضان الشقوق العطشى لأول قطرة مطر تتدحرج حتى تستقر بالجوف ــ لنتخطى الأمر، ها هما التقيا ولم يحدث شيء.
آه .. ماذا عليّ أن أرسم؟!
نعم لقد اخترت الألوان ومزجتها كمحترف _ لم تكن إلا محترفًا _ واخترت الجدار، لكنك لم تقرر شيئًا آخر بعد!
نعم، أعي جيدًا أنه الأهم، امهلني قليلًا وسترى.
سأبدأ من المنتصف، نقطة كثيفة من اللون _ كثيفة جدًا _ ستتخيل أنها ستصل باللون للناحية الأخرى من الجدار، لنعلو بالخط قليلًا، لا.. لا بل كثيرًا، ولنترك اللون ليخفت ويخفت، حتى يصير خطوطًا متباعدة، يفصلها اللون الطبيعي للجدار، ترى في تباعد اثنين منهما كتلة صغيرة، يبدو أن حشرة نوت على اتخاذ هذا الجدار مسكنًا، لكنها وبدون ابداء أي سبب رحلت، تُراها إلى أين؟! هل وضعت بعض الصغار هنا، لتقترب قليلًا، لا.. ما من صوت بالداخل كما أن الكتلة صغيرة على أن يسكنها كائن، ماذا إن عادت ووجدت لون الجدار قد تغير، وعلمت أنك أزلت ما خلفته وراءها من ذكرى، ماذا ستفعل بك، من المؤكد أنها ستبحث عنك، وتستغل كونك تترك نافذة غرفتك مفتوحة، وتدخل ليلًا، لتغرس شوكتها ربما بذراعك أو بقدمك، آه لو اختارت وجهك.. آه.
آه... يا له من دبوس لعين، كاد يخترق حذائي ويسبب نزيفا.
ثمة طبقة رقيقة من التراب _ التراب سيربك استرسال اللون _ أرى أن تترك هذا للفرشاة، ولك أن تمر على بعض الخطوط لاحقًا.
لندور في دائرة تشق الخط من منتصفه، الخط الآن منعزل، وممتد في عزلته لأعلى والقليل منه منعزل من أسفل، لكن العزلة تتكثف أكثر داخل الدائرة، الخط أضعف من أن يحتمل العزلة والدوار في آن واحد، الخط شرق الدائرة متصل بآخر حولها، لكنهما لا يلتقيان، يمران على بروز أسمنتي خشن وقاسٍ، هكذا ترى الخط عنيفًا في تغطيته للون الجدار القديم، الخيوط تشابكت لكن بعضها باهت وبارد، عليَّ الضغط على الفرشاة باتقان أكثر.
لنترك ما تم، ونرمي في الفراغ هناك لخط آخر، الخط واهن لكنه مستقيم، يسير صوب الدائر كقطعة معدنية لا تستطيع الخروج من مجال ممغنط.
هاهي الخطوط تشابكت أكثر، وبدأت في التنامي، بل الدائرة تدور، يا إلهي لقد أصيبت رأسي بالدوار، أحد الخطوط ينسلخ، يسقط على الأرض، ويتخبط قليلًا كأنه يلقي ببعض الشحنات الممغنطة، أراه اصطدم بظهر فتاة تعبر الطريق وتلاشى، ألمح آخرَ ينفلت ويتجه صوب عيني، آه ياله من ألم، عيني تؤلمني كثيرا، ونقطة ارتكاز الدائرة، تطبق كثافتها على أنفاسي، الدائرة تدور وأنا معها، تبعثر خطوطها على المارة دونما رحمة، ودونما انتهاء، إن بقيتُ أكثر سيلتف الفائض كله حولي، ولن أستطيع ساعتها أن أصنع شيئًا.
الفرار _ ما له من بد _ ها أنا قريب من البروز الأسمنتية، لأمسك بها قليلًا، خط قبالتها انفلت منذ قليل صوب طفل يركض، بعض الخطوط تلتف حول خصري الآن، وتحكم القبضة، أتنفس بصعوبة، يدي المرتعشة اللزجة لا تساعدني، أحتاج لمزيد من الوقت.
يا إلهي كم تبدو تلك السنتيمترات كطريق جرداء موحشة، ها أنا أشعر بخشونة ما، لقد أمسكت بها إذا، لأدفع جسدي قليلًا للأمام، يشدني خط التف للتو حول قدمي اليمنى، لكنه ضعيف، استطعت قذفه بحركة لا إرادية فاستقر في قاع الدائرة، أرى خطين متجهين ناحيته، الدائرة تدور بسرعة وتلد خطوطًا أكثر شراسة.
عليّ دفع جسدي _ الثقيل بفعل الخوف والعزلة _ أكثر، الخطوط تقترب من ذراعيّ، لا مشكلة فالمهم الآن أن تبتعد الخطوط من أمام عينيك _ مازالت عيني تؤلمني _ متى صارت حواف الدائرة حادة، تزداد حدة بزيادة التقدم، رأسي تؤلمني، الخطوط التفت حول ثلثي جسدي تقريباً، وما بقي منه ها هو يتفسخ بفعل المرور.
ماذا يضير الدائرة إن تمكنت أنا من الفرار، أكرر، ما له من بد.
الفرار ضروري
آه ........ يؤ.........
الفرار لا غنى ع ن...
الفرار
الف
رار