الأحد 11 اغسطس 2024

قصص دار الهلال النادرة| «قصة مجنون» للمحامي رمسيس جبراوي

قصة مجنون

كنوزنا11-8-2024 | 14:11

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر 1 يوليو 1937، نشرت مجلة الهلال قصة بعنوان "قصة مجنون" للمحامي رمسيس جبراوي، وتدور القصة حول خلاصة كتاب وضعه رجل قضى سنوات مريضًا في مستشفيات الأمراض العقلية وقد وصف فيه المعاملة الشاذة القاسية التي لقيها في هذه المستشفيات، فأحدث به ثورة علمية هائلة اشترك فيها العلماء والجامعات، وانعقدت لها الجمعيات والمؤتمرات.

قصة مجنون

كثيرًا ما ألف المجانين كتبا يعنى بها الهواة، ولكن الغريب أن يخلد منها كتاب واحد يعاد طبع الملايين منه سنويا مدة خمس وعشرين سنة، ويترجم إلى اللغات كافة (ما عدا العربية للأسف) ثم هو لا يزال كتاب اليوم له جدته وجاذبيته وسحره ولست أعني المجنون في الاصطلاح العلمي، فإن علم النفس يكاد يجعل الجنون هو القاعدة، والسلامة منه في الاستثناء النادر الذي إن جاز اليوم نسبته إلى شخص ما فإلى أجل معين وإنما رجل القصة مجنون بالمعنى الذي يفهمه كل الناس، فهو نزيل مستشفيات المجانين ومعترف فوق ذلك بجنته في كتابه الذي يكاد يكون أروع ما فيه أنه اعتراف صريح مفصل، ثم يكفي أن تسمع العالم وليم جيمس وهو يقول عن ذلك الاعتراف: "إنه يلوح للقارئ العادي خيالا، ولكنه حقيقة واقعة، لكي تعرف قيمة الكتاب".

هذا المجنون هو كليفورد ويتنجهام بيرز، ولد سنة 1880 ونشأ كما ينشأ أولاد الأمريكان، إذا استثنينا شدة خجل بالغة، مع إحساس أدق وفكر أعمق وميل إلى الوحدة والتفكير الرزين، وكان دائم العناية بمن حوله، محملا نفسه مسئوليتهم، دائب التفكير في مصالحهم، فوق ما تسمح به حداثة سنه، وضعف حيلته وقلة خبرته، رأى ذات يوم عملة نقشت عليها آية من الإنجيل فحطمها، أليست هي معدة لاستعمال أي مراب وغاش ومنافق؟!

وكان لشدة خجله قليل الكلام، مدركا عيبه، محاولا تلافيه، ولذلك كانت جمله ملاحظات وآراء في قالب فكاهي يدق فهم مرماها على أكثر سامعيها، فقد لاحظ يوما كثرة الجالسين حول مائدة العائلة، وأدرك أن والده يتجنب البذخ في الطعام مسايرة لميزانيته، فقال: "وددت لو قل عديدنا، ويحسن الطعام" فكانت ملاحظة أكبر من عمره بكثير، إذ هي خلاصة نظرية "مالتوس" في تحديد النسل.

والتحق بجامعة "بيل" إحدى جامعتي أمريكا الرئيستين، وكانت له إذ ذاك ثلاثة مقاصد: أن يشترك في تحرير مجلة الجامعة، ثم يرأس التحرير - وهي خدمة مأجورة - ثم يتخرج في أقصر وقت، وولع بالتنس فكان لاعبا متوسطا، وحدث أن دخل مباريات الجامعة السنوية وانتهى إلى الشوط النهائي واجتمع الأساتذة والمدعوون والطلبة يشاهدون، وكان خصمه قويا متمكنا، وكانت جماعة من الطالبات تميل إلى ذلك الخصم، فإذا ما قابلن صاحبنا في الطريق بادلته التحية على طريقة لفت الوجوه إلى الناحية المضادة، وكان حسنا من هؤلاء الطالبات أن يصفقن لكل ضربة حسنة من خصمه، وكان حسنا ألا يصفقن لأية ضربة حسنة من صاحبنا، ولكن الذي لم يكن حسنا أنهن كن يصفرن استهزاء لكل ضربة منه إذا خابت، عندئذ غلى فيه مرجل الغضب، فلعب ولعب حتى لم ينتزع البطولة فحسب، بل محا خصمه محوًا، وأخرس هؤلاء الفتيات.

ثم أصيب أخوه الأكبر بالصرع فجأة، فكان يقضي أوقات فراغه بجوار أخيه وينصرف إلى أفكاره التي تركزت رويدا رويدا في فكرة واحدة: إذا كان أخوه وهو في تمام قوته جسما وعقلا، قد أصيب بالصرع، فما الذي يمنعه وهو الأضعف منه، والأقل استعدادا، أن تكون النازلة به أشد، وازداد إمعانا في التفكير وقل كلامه ثم تلعثم لسانه، ثم امتنع عن الكلام اطلاقا في حصص معينة، ونال الإجازة في موعدها وتحققت أغراضه الثلاثة، والتحق بعمل طيب في الحي التجاري بنيويورك، ثم مات أخوه فأيقن هو بقرب الآخرة ، وخيل إليه آلاف المرات أن نوبة الصرع آتية، وتمكن الهاجس منه فما يدري أصرع فعلا أم هو سيصرع، حتى اسودت الدنيا في عينيه وخال العالم ينظر إليه شزرا كمريض لا خير فيه، واشتدت عليه العلة فلازم الفراش، وأقبلوا يمرضونه وهو صامت يائس يفكر في جدوى الانتحار من عذاب ذلك الموت المؤلم البطىء، وتعددت في فكره طرق الانتحار فاستيقظ ذات يوم مبكرا ورأى أنه في غفلة من الرقيب فقفز من الفراش وفتح النافذة وألقى نظره على الأرض الصلبة تحته على عمق ثلاثين قدما، ثم أقفل النافذة متجنبا إحداث صوت، وما كاد يستلقي على السرير حتى دخلت قريبة له - ربما بذلك الدافع الحق الذي تلهمه المحبة - وحدثته في ريبة من أمره، فاضطر إلى محاولة طمأنتها بكلام اختلقه لأول مرة، إذ أي ضير في الكذب وماذا تهم مبادئ الشرف والصدق وقد فقدت الحياة كل ما لها من قيمة؟ وجاء الصباح، فما كان أكثره اشراقا في أعين الناس، وأظلمه في عينيه الساهمتين، وكان يحاول خداع مراقبيه فينطق كلمة بين آونة وأخرى، ويوهمهم أنه يقرأ في الجريدة وهو لا يرى فيها حرفا، حتى أتوا له بالطعام وانصرفوا ما عدا والدته فأكل، وعرضت عليه فاكهة أخرى فأجاب بالإيجاب، وخرجت أمه فقفز من النافذة إلى الموت المحتم، ولكنه تشبث بيديه في النافذة، ثم لف في الهواء ودار حتى هوى على قدميه وجنبه، فتهشمت عظام قدميه وذراعه وكتفه، وكان من توزيع ضغط السقوط إن خف الوقع هونا ما، فلم ينكسر رأسه، ولا سلسلته الفقرية، ونقله الإسعاف وعقله يضطرب، أليس الانتحار جريمة؟ أليس هو مجرما؟ فهو الآن مقبوض عليه، مساق إلى المحاكمة، وخال من حوله كلهم من رجال البوليس، وخال الاتهامات تنهال عليه يمنة ويسرة، وخال زملاءه والإنسانية جمعاء تتنصل منه، فهذا العذاب الذي يحسه ليس إلا إحدى درجات التعذيب التي قرأ عنها في وصف محاكم التفتيش، لنزع الاعتراف من المجرم، وغلت درجة الحمى وزاد لغوه، وهو محصور بين قوالب الجبس بينما تخز ظهره وعظامه آلاف المسامير الدقيقة، فتمحو البقية الباقية من عقله الهارب، وزاره والده فعاد عقله هنيهة، وحاول أن يصفي مع والده حسابه ويودعه بكلمة، فنطق بمنتهى الصعوبة والألم: "لقد كنت لي أبا طيبا" وأجاب الوالد وقد أطرق: "لقد اجتهدت دائما أن أكونه!".

وعاد صاحبنا إلى سكوت لا نهاية له، وانقضى الزمن والحوادث تمر سراعا يراها رؤية الحلم، واختلط الحابل بالنابل ونال المرض كل حواسه فما عاد يميز بين اختلاف الصوت أو الشكل أو المذاق أو اللمس، فكل ما حوله من أدوات التعذيب، وكل مأكل ومشرب حيلة لحمله على الاعتراف، وكل الأطباء والممرضين والخدم من رجال البوليس، ولكم خال جثث الموتى المشوهة راقدة بجواره، وأنواع الجن تلعب حواليه، واتسعت دائرة الاتهام فشملت كل أهل بيته، فكلهم في اعتقاده سجان وكل من زاره منهم بوليس ماهر في التنكر، ولماذا التكلم إذا كانت الكلمة قد تودي بالجميع، ولماذا الأكل وقد امتزج بدماء الضحايا ولحمهم، ولماذا الشرب، ولماذا الدواء، ولماذا العمل؟؟ ثم تحسنت صحته نوعا ما ونقل إلى مستشفى الأمراض العقلية ملقى على ظهره محصورة رجلاه في قوالب الجبس، وهناك كان يطلب إليه أن يتناول الشيء فيتردد فيكره عليه بالقوة ولا وسيلة لديه للمقاومة سوى ذراع ضعيفة، وعين متحدثة في صمت، ووصفوه بالعنيد، وكيف يكون عنيدا من فقد ملكة الحكم على الأشياء، ومقدرة التميز والادراك؟

وقد مر به الطبيب يوما فسأله عن حالته فلم يجبه المسكين بغير نظرة تعمد فيها أن يظهر احتقاره لذلك الذي يدعي الطب وهو من رجال البوليس، فلمعت عين الدكتور ببريق الغضب، وجذب المريض في عنف وألقاه على الأرض بعيدا، جسدا مشلولا مقيدا بالجبس، مهشم العظام متلف الأعصاب معدوم العقل والحيلة، وقال شامتا:

- والآن ألا تجيب؟

وهنا يقول المؤلف: "ولو أني قد تأخرت عليه أكثر مما يجب، إلا أني أبعث إليه الآن بإجابتي: كتابي هذا!".

وبعد لأى تقدمت صحته، وألزم أن يلمس الأرض بقدميه، فآلمه هذا كل الإيلام، إذ كان كعباه إذا لامستا الأرض فكأنما لامستا جمرا ملتهبا، فتطير نفسه شعاعا ويجف الدم في عروقه، وينضح العرق مدرارا، وتخور قواه في شبه إغماء، ولم يفهم ذلك إلا على أنه إمعان في التعذيب لحمله على الاعتراف، ولكن مدير المستشفى أمر بعد بضعة أسابيع بمنع كل معاونة له في محاولة السير، فلولا رأفة الممرض به ومخالفته لأمر رئيسه لبلغ العذاب منتهاه وكان من خطة هذا المدير أن يطرد المريض إذا عجز أهله عن الدفع وقد علم المؤلف أن ربحه بلغ ثمانية وتسعين ألف دولار في سنة واحدة وأنه مات تاركا مليونا ونصف مليون ولما رقت حال عائلة مريضنا نقلوه آسفين إلى مستشفى للمرضى الميئوس منهم، إلى مقبرة الأحياء على حدود العالم الآخر ولكن الحال تغيرت، فقد بدأ يلمس كم يحبوه أهله وصحبه بالعطف والحب، وكان لهذ الشعور ولحضوره الصلاة في الكنيسة الملحقة، أحسن الأثر في نفسه، برغم أنه كان واثقا بأن زائريه ليسوا من أقاربه وأصدقائه وإن شابهوهم، وأحسنوا اظهار عواطف الود، خصوصا ذلك الذي يتظاهر بأنه أخ ويكثر من زيارته والتلطف معه وأخيرا محت مخاوفه وأوهامه، وتمت المعجزة وشفي المريض!

ولكن لم يكن سهلا عليه أن يتكلم وقد تعطلت عضلات اللسان سنتين، ثم تركزت أفكاره في اتجاه واحد، فتكلم فكأنه لم يمرض أبداً

والعقل البشري ليس سهل التركيب،  بل هو معقد إلى حد لا يسمح للبندول أن يتحرك من أقصى اليسار إلا إلى أقصى اليمين: من هوان الضعة إلى زهو الغرور، من سكوت المحمول إلى صخب الهيجان، من الاحساس بضعف المرض، إلى الشعور بمنتهى القوة، وهكذا مرت به أيام وليال وهو دائم الحركة والكلام لا يفتر ولا يهن، وقد فهم أن الله وهبه العقل في هذه الظروف ليؤدي رسالة سامية، فهو مبعوث العناية الإلهية في ذلك الوسط المملوء في اعتقاده جهلا وظلما وقوة فأشهرها حربا عوانا، على كل قانون وذي سلطة في المستشفى، وكان يدرك أنه لكي يصلح يجب أن يعرف الصغيرة والكبيرة مما حواليه، وكان يرى كيف يعامل الجدد الذين ينقلونهم إلى العنبر الرابع، عنبر الهائجين، لذلك قرر دخول ذلك العنبر.

ومر به الطبيب ذات مرة، فطلب إليه أمرًا ماـ ولكنه رفض في صلف وتكلف، وتسلمه صاحبنا بلسانه ونكاته، فأنذره قائلا: "إذا لم تخلص فسأنقلك إلى العنبر الرابع".

فأجاب: "افعل ما بدا لك، ولكن اعلم أنني لن أخرس!".

وهكذا نقل إلى العنبر الرابع حيث غدا فيه السيد الآمر الناهي لملصحته حينا ولمصلحة زملائه أحيانا ودخل العنبر مريض جديد، كان يدمن الشراب، فاحتال أهله حتى أدخلوه المستشفى سجينا بين قوم أقل ما يقال فيهم أنهم مجانين، وعرف صاحبنا ذلك فشمله بحمايته، وأبى أن يخرج إلى النزهة إلا معه.

واعترضهما ممرض ذات مرة وجذب زميله بقوة، فما كان من صاحبنا إلا أن لكم الممرض في عينه اليسرى، أو حواليها لكمة قوية، فخنقه الممرض بيده، وفجأة هجم الزميل وقبض على عنق المعرض وكاد يخنقه، وكان من المحتمل أن يموت من ذلك لولا دخول المدير في الوقت المناسب وهو زميل من "بيل" تخرج قبل صاحبنا بقليل، فسمع منه القصة ثم قال: "لم يكن يجدر بأحد رجال بيل أن يتصرف كرجل الشارع!، فأجاب: "إذا كان الدفاع عن حقوق ضعيف يستلزم أن أكون رجل شارع، فأني أفضل دائما أن أكونه!".. واضطروا بعد ذلك إلى ترقية صاحبنا إلى عنبر خاص حتى لا يتدخل في شئون الآخرين

وعندئذ انصرف إلى الكتابة والرسم، ويدعي أنه كان يعتقد أن الفارق بينه وبين أعظم الكتاب أو أشهر الرسامين، هو فارق زمني لا أقل ولا أكثر، هم له سلف صالح وهو لهم خلف ممتاز! ولهذا كان يحرص على منتجات قريحته، ولا يكف عن إبدائها في كل وقت، وكل مناسبة - فلما حرموه من أدوات الكتابة، كان يكسر زجاج النوافذ، ويخفي قطعا يسطر بها على الجدران خواطره الفذة، حتى تضايق يوما فنقش على باب محبسه: "بارك الله منزلنا، فإن هو إلا جحيم! ".

وأمر يوما أن يتناول دواء كريها، لم ير منه فائدة، فرفض، وفي الحال جاءه الطبيب المعهود في رهط من الممرضين والخدم، وبيده خراطيم المطاط لوضعها في خياشيمه وحلقومه، فسألهم: "لم كل هذا" قال: "لإعطائك الدواء الذي رفضته"، قال: "ولكن هاتوه أشربه"، فأجاب الطبيب في شماتة وتحد: "هيهات فقد أضعت الفرصة الذهبية".. وأمر فهجم عليه الجمع وأحدثوا به من الإصابات والآلام ما كان لهم خير ثأر وانتقام.

وكان الخدم يفهمون أن واجباتهم هي - على سبيل الحصر - تقديم الغذاء للمرضى ثلاث مرات، فإن طلب مريض غير هذا فهي قحة تستحق التأديب..! وعطش صاحبنا بعد العشاء، فانتظر رجوع هؤلاء من حفلة رقص داخلية مع الممرضات، فلما سمعهم بعد منتصف الليل، صاح يطلب الماء، فأمروه بالسكوت، فصاح قارعا الباب بشدة، فعادوا محنقين ليؤدبوه ودفعوا الباب فأخذ يقاومهم، فلما دخلوا عليه حتى أعطوه درسا قاسيا لم ينجه من إتمامه إلا تصنعه الاغماء، ثم تركوه ليموت كما يشاء هو، أو يشاء له القدر.. ولم ينم حتى سجل تلك الوقائع بدقة، على جدار محبسه ومر الطبيب صباحا في حاشيته، فناداه صاحبنا: "أريد أن أقص عليك حلما مزعجا، لعله من قبيل تلك "الهلوسة"، التي انتابتني في أوائل مرضي، فإذا كان الأمر كذلك، فالعجب أنه لأول مرة يترك كل هذه الآثار المادية" وكشف للدكتور عن اصاباته، وهز رأسه، ثم مضى دون أن ينطق، وكان يذهب أخوه لزيارته فيرجعه الطبيب بحجة أن الزيارة ضارة، وشكى أخيرا لأخيه، فنقله إلى مستشفى حكومي، أرحب بقعة وإن لم يكن أدق نظاما ولا أكثر رعاية لمرضاه، ووضعوه في العنبر الثالث، فأخذ يطالب بما يظنه من حقه، منددا بهم مهددا إياهم وكان سلاحه لسانه، وسلاح المستشفى نقله إلى العنبر الرابع، عنبر الهائجين الذين يرون القتل أمرا طبيعيا لا غرابة فيه

وأخيرا تحسنت صحته، وسمح له بالخروج مع رقيب للنزهة وشراء الكتب، فانتهز الفرصة، وبعث إلى حاكم الولاية خطابا مطولا يكاد يبلغ حجم كتاب، وصف فيه بعض ما لاقاه وشاهده في المستشفيات، في لغة سهلة، خالية من التكلف، صادقة التعبير، ثم حار في إرساله، فألقاه خلسة في المكتبة التي كان يتردد عليها، وكتب على الغلاف هذا الرجاء: "سيدى موظف البريد.. ليست هذه الرسالة مختومة، ولكنها برغم ذلك عظيمة الأهمية، شأنها في ذلك شأن جميع ما أحرره، وقد وضعت عليها طابعين بسنتيمين، فإذا لم يكن هذا كافيا، فستقلد الحاكم جميلا بأن ترسلها إليه مغرمة بالباقي، واذا شئت أن تعرف من أنا، فسل سعادته" ثم كتب هذا الطلب: " كل من يجد هذه الرسالة، وقد لصقت عليها الطوابع، وعنونت المرسل إليه، عليه أن يلقيها في صندوق البريد، إذ هي في حمى الحكومة منذ لصقت عليها طوابع البريد".. ثم هذا التحذير: "كل مخالفة لقانون الدولة الذي يحرم على أي كان عدا المرسل إليه أن يطلع على الخطاب، تعرض المخالف للزج به في سجن الحكومة" وقد وصل ذلك الخطاب الطريف للحاكم وقرأه ، فكان له في المستشفيات أثر طيب نسبيا، وأضحى موظفو المستشفى يحسبون  لقلمه ولسانه حسابا

وزاد تمتعه بحرية الكلام والكتابة والخروج، وزار منزله كثيرا، ومكث فيه مرة ثلاثة أيام وكان يرجع الى المستشفى راضيا، منتظرا الحرية النهائية بملء الثقة حتى استعادها، بعد ثلاث سنوات في المستشفيات ومرض دام ثماني سنوات تقريبا، وكان أقاربه وأصدقاؤه يزورونه في منزله فيتحدثون في كل شيء إلا في ماضيه كمريض، فكانوا يتحاشونه خشية جرح احساسه، أما هو فكان يصر على أن يتحدث عنه كحدث عارض، فات بقضه وقضيضه، فلم يبق منه إلا ذلك الضمير الذي لن يستريح حتى يقدم العون لزملاء الأمس ليرفع عن كاهلهم يد الظلم والقسوة ومغبة الجهل والخشونة

ثم تقدم إلى البنك الذي كان يعمل فيه سابقا طالبا العودة إليه، وكان مديره واسع الفكر سليم التقدير، فرأى أن في إصرار محدثه على التمتع بأفضل المزايا ضمانا لشدة احتفاظه بمصالح البنك، فقال له: "يا صديقي، عند ما يمرض أحد موظفي البنك، فأني لا أعبأ بأي مستشفى دخل، وسواء لدى الحميات والأمراض العقلية، ولذلك فإن في وسعك، عند ما تشعر بحاجة إلى الراحة، أن تنالها في أي جهة أو مستشفى أردت، على أن ترجع بمجرد أن ترى نفسك قادرا على العمل"، وكان عمله كوكيل أعمال يتيح له السفر إلى الأقاصي والتسلي برؤية العجائب، كسائح ثري له فسحة من الوقت لإشباع مزاجه الخاص، ولكنه كثيرا ما كان يفكر في هؤلاء الزملاء الذين تركهم وراءه، وأهمه أمرهم

ثم تفرغ للقراءة وكان من جملة ما قرأ "البؤساء" لفيكتور هوجو، فملك عليه عواطفه، وفكر في أن يكتب هو الآخر كتابا، يدافع فيه عن مرضى العقل، كما دافع هوجو عن البؤساء وشغل ذلك الموضوع عقله، فما عاد يفكر في غيره، وخاطب في شأنه الكثيرين من المفكرين، أخصهم مدير جامعة "بيل" الذي أصغى إليه ثم أشار عليه بالتريث، ولكنه لم يستطع إليه سبيلا، فكان طول أيامه مشغولا بالحديث في تكوين جمعية وبالبحث في تأليف الكتاب ونشره

وأشار عليه أخوه بأن يحضر إليه في مكتبه للتحدث في هذا الموضوع في سعة من الوقت، فذهب في الموعد المحدد، وما أن جلس حتى أقبل رجل أمرد في شكل مرب، فما قدمه إليه أخوه حتى فهم الحقيقة، وبطيبة خاطر مدهشة، توجه من جديد للمستشفى، مقتنعا بأن في ذلك راحة لخاطره ولخواطر أقاربه والأصدقاء، وكم كان يلتذ بأن يكتب لصحبه رسائل على ورق مطبوع باسم فندق كبير يقول فيها: "إن أحوالا خاصة تضطرني للتغيب مدة لا أستطيع اليوم تحديدها، وآمل ألا تطول، فإلى اللقاء القريب"، وكم كان طريفا أن يدخل محلا تجاريا، والممرض المراقب في الخارج، فيتناقش في صفقة هائلة للبنك الذي يعمل فيه، ثم يعقدها بنجاح مدهش  ويقفل راجعا لمستشفاه!

ثم خرج من المستشفى سليم الرأى ماضي العزيمة، فنشر كتابه هذا الذي مررنا به في هذه العجالة، وقال فيه ما قاله عالم مشهور: "إن أفيد شيء للمجنون، هو الصديق، فحيث توجد المحبة يكون الشفاء" وكان من أثر ذلك الكتاب، أن تكونت جمعيات الصحة العقلية في ولايته ثم في أمريكا ثم في مختلف الدول، وعقدت المؤتمرات الدولية لهذه الجمعيات واشترك فيها أعظم علماء النفس في العالم وتراكمت عليه الدرجات العلمية، وألقاب الشرف، والأوسمة الرفيعة من كثير من الدول والجامعات.