الجمعة 16 اغسطس 2024

البحث الأبدي عن التعبير.. الفن التجريدي في العالم القديم

الفن التجريدي في جدارية

ثقافة16-8-2024 | 07:59

أبانوب أنور

التجريد في الفن ليس ظاهرة حديثة، ولم يكن ابتكارًا عصريًا، بل هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الفن الإنساني.

وله جذور عميقة تمتد إلى الحضارات القديمة، قد لا نجد لوحات تحمل اسم "تجريدية" بشكل صريح في تلك العصور، ولكن نجد الكثير من العناصر التجريدية في الفنون المختلفة، والتي كانت تعبر عن معتقدات ومعارف تلك الحضارات بطرق رمزية. من خلال دراسة الفن التجريدي في الحضارات القديمة، نكتشف أن الإنسان كان دائمًا يسعى للتعبير عن نفسه وعالمه بطرق مبتكرة.

الفن التجريدي في الحضارة المصرية القديمة

تلك الحضارة العريقة التي سحرت العالم بآثارها العظيمة وفنونها الرائعة، لم تكن مجرد حضارة تبني الأهرامات وتنحت التماثيل الضخمة، بل كانت أيضًا حضارة تمتلك نظرة عميقة للتجريد والرمزية في الفن.

يظهر الفن التجريدي في الحضارة المصرية القديمة من خلال الزخارف الهيروغليفية، برغم كونها نظام كتابة، إلا أنها تحتوي على العديد من العناصر التجريدية التي تمثل الأفكار والمفاهيم الدينية والكونية، ونجدها تبرز أيضًا في الأشكال الهندسية في العمارة، حيث استخدم المصريون القدماء أشكالًا هندسية بسيطة مثل المثلث والمربع والدائرة في بناء الأهرامات والمعابد، والتي تحمل دلالات رمزية.

كانت تتميز تماثيل الفراعنة والآلهة المصرية بطابع تجريدي، حيث كانت تركز على الجوانب المثالية للشخصية، وتتجاهل العيوب الجسدية. كما أن العديد من التماثيل كانت تصور الأشكال البشرية والحيوانية بشكل مبسط ومجرد. وكانت لوحات المقابر المصرية غنية بالزخارف والرموز التي تصور الحياة الآخرة، وكانت تحمل الكثير من العناصر التجريدية.

الفن التجريدي في الحضارة السومرية والبابلية

تشتهر الحضارات السومرية والبابلية بتراثها الغني والمتنوع، والذي يمتد إلى آلاف السنين. كان الفن جزءًا لا يتجزأ من حياة هذه الحضارات، حيث استخدموه للتعبير عن معتقداتهم الدينية، وقصصهم الأسطورية، وحتى تسجيل الأحداث التاريخية، ويعد الخط المسماري أحد أقدم أنظمة الكتابة في العالم، وهو عبارة عن مجموعة من الرموز المكونة من أشكال أساسية. هذه الرموز تمثل حروفًا وكلمات، ولكنها في نفس الوقت تحمل دلالات رمزية عميقة. يمكن اعتبار الخط المسماري شكلًا من أشكال الفن التجريدي، حيث يتم تحويل الأفكار المعقدة إلى رموز بسيطة.

استخدم السومريون والبابليون زخارف هندسية ونباتية مجردة في تزيين المعابد والقصور والأواني الفخارية. هذه الزخارف لم تكن مجرد زينة، بل كانت تحمل دلالات رمزية مرتبطة بالكون والطبيعة والقوى الإلهية، وكانت الأختام الأسطوانية تستخدم للتوقيع على الوثائق والطبع على الطين الرطب. كانت هذه الأختام تحمل نقوشًا بارزة تصور مشاهد من الحياة اليومية أو الأساطير، ولكنها غالبًا ما كانت تحتوي على عناصر تجريدية مثل الأشكال الهندسية والزخارف المتكررة.

كان الفن في الحضارات السومرية والبابلية مرتبطًا بشكل وثيق بالدين، وكان التجريد وسيلة للتعبير عن المفاهيم الدينية والمعتقدات الروحية بطريقة رمزية، وكانت الأشكال الهندسية والزخارف المتكررة وسيلة لتبسيط الأفكار والمعاني، والتركيز على الجوهر بدلاً من التفاصيل الواقعية، كانت أيضًا تحمل دلالات رمزية معينة في الحضارات السومرية والبابلية، مما جعل التجريد وسيلة للتواصل والتعبير.

الفن التجريدي في الحضارة الكيكلادية

ازدهرت الحضارة الكيكلادية، تلك الحضارة البحرية في جزر بحر إيجة، قدمت لنا إرثًا فنيًا فريدًا يتميز ببساطته وعمقه. وعلى الرغم من قلة المعلومات المتوفرة عن هذه الحضارة، إلا أن فنها التجريدي لا يزال يدهشنا حتى اليوم، حيث تُعد التماثيل المجردة هي أبرز سمات الفن الكيكلادي. تتميز هذه التماثيل ببساطة أشكالها، حيث تصور الجسم البشري بشكل هندسي، مع التركيز على الخطوط العريضة والأجزاء الأساسية من الجسم. عادة ما تكون هذه التماثيل تمثل أشخاصًا عراة، وغالباً ما تكون النساء الحوامل أو العازفين على آلة موسيقية.

تتميز الأواني الفخارية الكيكلادية بأشكالها الهندسية البسيطة وزخارفها الخطية. غالبًا ما تكون هذه الأواني مزينة بأشكال مثل المثلثات والدوائر والخطوط المتعرجة، وكانت الأختام الكيكلادية تستخدم للتوقيع على الأواني والوثائق. تتميز هذه الأختام بنقوشها البسيطة التي تصور أشكالًا هندسية أو حيوانات.

إن التجريد في الفن ليس ظاهرة منعزلة، بل هو جزء من تطور فني مستمر. فالفن التجريدي في الحضارات القديمة يشكل الأساس للكثير من الحركات الفنية التي ظهرت لاحقاً. ومن خلال دراسة هذا الفن، ندرك أن الإنسان على مر العصور كان يبحث عن لغة مشتركة للتعبير عن تجاربه ومشاعره، وأن الفن التجريدي كان ولا يزال أحد أهم الوسائل لتحقيق ذلك، كما يتركنا الفن التجريدي في الحضارات القديمة مع العديد من الأسئلة التي تستحق البحث والدراسة. ما هي الدلالات الحقيقية لهذه الرموز والأشكال؟ كيف تأثرت هذه الفنون بالبيئة والمجتمع؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها من هذه الحضارات؟ أسئلة تبقى مفتوحة، تدعونا إلى مواصلة استكشاف هذا الإرث الغني.