الأحد 25 اغسطس 2024

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الثاني «في مطعم والدي» (7-4)

جرجي زيدان

ثقافة25-8-2024 | 08:56

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.

ويروي جرجي زيدان  الفصل الثاني قصة السنين الأولى في حياته الدراسية وما تخللها من ظروف وملابسات ومشاهدات، وما تلاها من اضطراره إلى ترك المدرسة لمساعدة والده، ومحاولاته تعلم صناعة من الصناعات فترة من الوقت، وما كان للقصص الشعبية من أثر في نفسه، وماذا كانت عليه الآداب العامة في بيروت في ذلك الحين، وهو يصف ما شاهده من ذلك بأسلوب يمتاز بالبساطة والصراحة والإيمان بالنجاح

الفصل الثاني:  في مطعم والدي

وفي أواخر السنتين، وأنا في السنة الحادية عشرة من عمري، ومعارفي ناقصة، احتاج والدي إليّ في مطعمه لأتولى مساعدته مؤقتًا في تقييد الأسماء وإرضاء الزباين، ريثما يوفق إلى مساعد غير الذي تركه بالأمس، وذلك أنه كان عنده خادم للمائدة من «بيت شباب» ربي عندنا، وكان والدي يعول عليه في التقييد والطهي وغيرهما، فغضب عليه، لا أدري لأي سبب، فخرج الشاب إلى بلده ولم يعد، ولم يلح عليه بالرجوع لاعتقاده أن ولده جرجي صار «متعلما»، ويقدر يساعده ولو مؤقتًا حتى يرجع ذاك برغم أنفه فقال لي: «تعال یا جرجي لمساعدتي سبعة أيام أو ثمانية ريثما أجد من يقوم مقامك» فأتیت کرهًا، لأني كنت أحب التعلم كثيرا، ولكنني أطعته وأنا أعلل النفس بالرجوع إلى المدرسة، فامتدت تلك الأيام السبعة إلى سبعة أعوام أو ثمانية، قضيتها في أسواق بيروت بين عامتها، وأنا مضطر لمعاشرة أحط الطبقات فيها، لأن محلنا - أي المطعم - كان حوالي ساحة البرج، وانتقل إلى مكان آخر لم يبعد عن تلك الساحة

وساحة البرج كانت يومئذ ملتقى الرعاع وأهل البطالة، وفيهم السكير والمقامر وأهل الدعارة والخصام، وكنت أتجنب عشرة هؤلاء لأني لم أكن أملك من وقتي فراغًا للهو ولم يكن في طبعي، أما الذين كنت مضطرًا لمعاشرتهم من الزباين الذين يترددون على المطعم فأكثرهم غرباء قدموا بيروت لتجارة أو عمل آخر، وإن كان منهم أحد من أهل المدينة فلا يخلو أن يكون فارا من بيت أبيه، لنقيصة ينوي ارتكابها في تلك الليلة، لأن أهل بيروت لا يأكلون في المطاعم إلا أثناء النهار، إذا كان أحدهم في مخزنه وبيته بعيد عنه، أما في المساء فكلهم يأوون إلى منازلهم يتناولون العشاء مع أولادهم ونسائهم وآبائهم.