تتحرر الشعوب من قيد الاستعمار الطويل فتجد نفسها أسيرة سؤالين في غاية البساطة والتعقيد في آن، من نحن؟ وماذا نريد؟، وربما كانت مصر أكثر شعوب الأرض وقوعًا تحت مخالب المستعمرين على كافة أنواعهم وأغراضهم، لقد مر على تلك الأرض السمراء من جعلوا السؤال أكثر صعوبة. لكن العبقرية المصرية تجد دائمًا طريقاً للحياة كما تنمو الزهور بين الصخور؛ فلقد نبت في وادينا الطيب نجيب حاول الإجابة على السؤال، سؤال الهوية؛ فلو تأملنا أعمال نجيب محفوظ سنلاحظ إجابة تتكرر في ذلك الامتداد المتصل الذي جمع بين أقدم نقطة وأحدثها. الإنسان المصري عند محفوظ ينتمي للإنسانية قبل أي شيء، تشكل بخصوصية الدين ورموزه، واللغة ومفرداتها، والأرض وألوانها، وازداد خصوصية بما صنعه الظرف التاريخي وأحداثه، وشق طريقًا أسطوريًا بين الفلسفة والوجودية، والصوفية والواقعية، للوصول إلى الله والذات.
بدأ محفوظ رحلته في البحث عن ملامح الهُوية من الجذور القديمة للقصص المصرية، بترجمة كتاب (مصر القديمة) -عندما كان في السنة الثانية بكلية الآداب، قسم الفلسفة سنة 1932- للكاتب الإنجليزي جيمس بيكي (1866-1931)، الذي تناول بطريقة مُبسطة لمحات من تاريخ مصر القديمة، ولم يكن غريبًا أن تكون أول أعمال محفوظ الروائية ثُلاثية تعكس حكايات الإنسان المصري القديم مُنذ بناة الأهرامات، فخرج الشاب برواية (عبث الأقدار) سنة 1939 ثم (رادوبيس) سنة 1943، وأخيرًا (كفاح طيبة) سنة 1944، واستلهمت الثلاثية التاريخية أحداثها من التراث المصري القديم في نوع من الإسقاط التاريخي على المرحلة السياسية التي سادت مصر تلك الفترة، ولم يعد محفوظ ليتناول تلك الأزمنة التاريخية في أعماله سوى مرة واحدة في رواية (العائش في الحقيقة) سنة 1985، فقد اتخذ فيما بعد طريقًا صار علامة من علامات أدبه ورؤيته الفلسفية للواقع المصري، فأصبحت الحارة الشعبية هي ملعب الأحداث الذي يستوعب جميع أنماط الحكايات، وصارت هي الرمز الجديد الذي تتوارى خلفه رموز أكثر عُمقًا.
جاءت رواية (خان الخليلي) سنة 1945 لتؤسس عالم الحارة المحفوظية، وجسدت أحوال مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، كما جسدت مشاعر المصريين تجاه القوى العظمي المتصارعة؛ الألمان والإنجليز والروس. ومن هنا صارت الحارة الشعبية وأهلها محور أعمال محفوظ، بداية من (القاهرة الجديدة) سنة 1946 التي تحولت إلى فيلم من أفضل مئة فيلم مصري (القاهرة 30) لصلاح أبو سيف، مرورًا بـ(زقاق المدق) سنة 1947، (السراب) سنة 1948، (بداية ونهاية) 1951، والثلاثية الأشهر (بين القصرين) سنة 1956 و(قصر الشوق والسكرية) سنة 1957، وقد انتقلت تلك الثلاثية كذلك إلى السينما والدراما، وانتقلت معها ملامح المجتمع المصري الحديث إلى مستوى جديد من الواقعية جعل محفوظ رائدًا في صناعة حكايات الإنسان العادي.
انتقل محفوظ إلى مستوى جديد من التعبير عن ملامح الشخصية المصرية المُشبعة بالتراث الشرقي القديم في رواية (أولاد حارتنا) سنة 1959، أشهر روايات اﻷديب الراحل وأكثرها إشكالية، وهي واحدة من أربع رواياتٍ أهلته للحصول على جائزة نوبل للآداب، كما أنها كانت السبب المباشر في التحريض علي محاولة اغتياله، مثيرة الجدل التي بحثت عن معنى العدالة والعظة الحقيقية، لتبدأ من تصورات مجازية عن نشأة الكون وأصل ثنائية الخير والشر والصراع الإنساني، فلقد نهلت من الكتب المقدسة والسير الدينية ما جعلها نقطة ارتكاز لفهم تصورات محفوظ عن الله والعالم والذات، يقول "الله هو الذي يعطي للقيم معناها، الله هو الذي يعطي للوجود معناه، بدونه لا معنى للوجود، لا معنى للقيم، وبَديله هو العبث، واللا معنى"، وقد جاءت تلك الرواية تحديدًا كدليل على مشروع مُمتد للبحث عن الصِلة التي رسمت ملامح الهُوية المصرية والعربية، كما أنها أعادت تجسيد أساطير أبطال الشرق الخالدين.
بينما خرجت رواية (اللص والكلاب) سنة 1961 من رحم الصُحف اليومية وأخبار الجريمة، فتحولت حكاية (محمود أمين سليمان) الشهيرة إلى عمل فلسفي يرصد المشوار الوجودي لـ(سعيد مهران) في مواجهة المجتمع، والبحث عن معنى العدالة، وظلت حيرة الوجودية قائمة في (السمان والخريف) سنة 1962، التي بحثت عميقًا داخل النفس البشرية، حتى وصلنا إلى رحلة قادمة من الماضي السحيق في شكل رواية عصرية تجمع بين ملحمة كُتبت منذ أكثر من خمسة آلاف سنة أو يزيد، ملحمة (جلجامش) السومرية، أول ملحمة إنسانية معروفة، فقد بدأ الميلاد الحقيقى لـ(صابر) في رواية (الطريق) سنة 1964 من الموت، كما بدأ الميلاد الحقيقى لـ(جلجامش) في الملحمة السومرية من الموت، وقد دفعهما القدر المحتوم للبحث عن الخلاص، كلٌ فى طريقه، راح (صابر) يبحث عنه عند والده (سيد سيد الرحيمي)، وراح (جلجامش) يبحث عنه عند جده (أوتنابشتم)، وفي الرواية والملحمة تصنع آلهات وكاهنات الحب مصائر الرجال، ويشكلن وجدانه، ويرسمن الطريق، تمامًا كما فعلن في الأساطير الشرقية الخالدة. ففي نفس الوقت الذي صَنعت فيه الأم الإلهة -البقرة الوحشية نينسون- شخصية البطل المغرور (جلجامش)، صنعت (بسيمة عمران) في الطريق البطل المغرور (صابر)، الذي عثر على إلهة الحب والجمال (عشتار) على صورة (كريمة)، بينما رآها (جلجامش) الذي رأى كل شيء على هيئتها الجبارة في الملحمة، وحين ظهرت إلهام في طريق (صابر) تُلقنه الحكمة وتُعلمه الحب، ظهرت كاهنة الحب والحكمة (شمخات) في طريق (إنكيدو وجلجامش)، وفي تناص غير خفي مع الرواية كان لديها القدرة على تحويل الوحش البري إلى إنسان رقيق.
يمكن القول إنه عند تلك المرحلة ظهرت ملامح الإجابة عن سؤال هُوية الإنسان المصري من وجهة نظر محفوظ، بدأت من الأصل القديم في الثلاثية التاريخية واختلطت بواقع الحارة المعاصرة، ثم عاد ليلتقط تلك الصلات بين وجدان المصري الحديث وروافد التراث الديني والأساطير الشرقية، حتى أصبح من الصعوبة التفرقة بين ما هو قديم وحديث، صارت الشخصية المصرية عند محفوظ بلا فجوات بين ماضيها وحاضرها، لم يعد هناك حيرة كبيرة في الإجابة عن السؤال، حتى خرجت (ملحمة الحرافيش) سنة 1977 لتُكمل صورة تلك الهُوية وعناصرها الأصلية، في الحرافيش ظهر من المجهول (عاشور الناجي) أمام التكية كأنها سقط من السماء أو كأنه شجرة نبتت وحدها من تحت الأرض، وامتدت فروعها عملاقة عبر عشرة أجيال، ومثل ثالوث إيزيس وأوزوريس وحورس، أو الثالوث المقدس الشرقي المسيحي، نبت فرع (شمس الدين) من شجرة (عاشور الناجي) و(فُلة)، الأب والزوجة والابن. وفي فرع آخر من شجرة (الناجي) ازدهرت (زهيرة) في شهد الملكة وخرجت من جدران المعابد المصرية والألواح الطينية السومرية كأنها إلهة الحب والحرب الشرقية، قاهرة قلوب الرجال، بنفس عنفوانها القوي وسحرها الذي لا يرحم، حتى صار اسم (زهيرة) من كوكب الزهرة -المعبود الشرقي الأزلي- يشير إلى قوة النسوية الشرقية، فكانت زهيرة والزهراء. حتى رحلة (جلال الناجي) الذي يبحث عن الخلود في (صاحب الجلالة) جاء من ملحمة (جلجامش) الذي انطلق في رحلة أسطورية للهروب من الموت الذي اقتنص صديقه (إنكيدو). وقبل أن يعود محفوظ للمعاني الفلسفية والوجودية العميقة في أعماله اللاحقة، صنع مجموعة (بورتريهات) لشخصيات واقعية ومتقاطعة مع حياته، وألقي الضوء على ما خَفِي من جوانب حياتهم، في (المرايا) سنة 1972، وفيما يشبه النميمة أو التلسين انتقد المُثقفين المُعاصرين له بتجسيد 55 شخصية تخلو من السذاجة المباشرة.
وكانت المحاكمة التاريخية أكثر وضوحا رواية (أمام العرش) سنة ١٩٨٣، حيث حاور أعضاء المحكمة الثلاثية (إيزيس وأوزوريس وحورس) حكام مصر بداية من الملك مينا وصولا إلى الرئيس السادات.
لم يبق في رحلة البحث عن ملامح هُوية الإنسان المصري الشرقي سوى الإجابة عن أسئلة أكثر تعقيدًا، بين حيرة الوجودية في (قلب الليل) سنة 1975، وحقيقة الموت وما بعده في (حديث الصباح والمساء) سنة 1987، ومرارة واقع الاستبداد السياسي في (الكرنك) سنة 1974، فربما تومض في الليالي الطويلة البائسة من تاريخنا وَمضة قصيرة من أمل، وفي ظُلمة اليأس قد تتمدد الهزيمة وتستقر الأوهام والهُموم، حتى يوشك النور أن يُفارق الطريق، يقول محفوظ في رواية (يوم قُتل الزعيم) ذات الأصوات المتعددة سنة 1985: "نحن قوم نرتاح للهزيمة أكثر من النصر، فمن طول الهزائم وكثرتها ترسبت نغمة الأسى في أعماقنا، فأحببنا الغناء الشجي والمسرحية المُفجعة والبطل الشهيد." أما عن ملاحم الأحلام العادية المُعاصرة فقد خرجت روايات (حضرة المحترم) سنة 1975، و(الحب فوق هضبة الهرم) سنة 1979، و(عصر الحب) سنة 1980. ليتخطى بتلك الأعمال مستويات أخرى من الإبداع تتجاوز رواد القصص العالمي مثل أنطون تشيكوف (1860-1904) وتشارلز ديكنز (1812-1870) وفيودور دستوفيسكي (1821-1881)، وصارت تلك المؤلفات الواقعية بمثابة مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبارها تدويناً معاصراً لهموم الوجود الإنساني.
يعود محفوظ إلى الأصول الشرقية للهُوية والبحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا في رواية (رحلة ابن فطومة) سنة 1983، في استعادة لاسم الرحالة المغربي التاريخي ابن بطوطة (1304-1377) يرصد محفوظ طريق رحالة عربي هاجر من بلاده بعد فشله في الزواج من محبوبته إلى دار الجبل بحثًا عن الكمال والعدالة المفقودين في بلاده، وفي استعادة أخرى لعنوان من أهم عناوين الإبداع القصصي الشرقي يُعلَّمنا في رواية (ليالي ألف ليلة) سنة 1982 "أن الحريةَ حياة الروح، وأن الجَنة نفسها لا تُغني عن الإنسان شيئًا إذا خسر حريتَه". وفي رحلة الوصول إلى الله نتأمل تجربته الصوفية الاستثنائية التي جسدت محنة الإنسان الحديث الذي تُرك دون مأوى، في عبثية لا منطقية وانتظار ما لا يأتي أبدًا، كتب قصة (زعبلاوي) من مجموعة (دنيا الله) سنة 1963، التي تقترب كثيرًا من التصور الوجودي للكاتب الإيرلندي ورائد مسرح العبث صمويل بيكيت (1906-1989) في مسرحيته (في انتظار جودو). لنقطع مع الراوي مجهول الشخصية طريق الوصول إلى (زعبلاوي)، الذي عرفه منذ الطفولة عن طريق أغنية قديمة، فسأل أباه من هو زعبلاوي؟ فرد أبوه "أنه ولي صادق من أولياء الله، وشيال الهموم والمتاعب"، واقتنع الراوي أخيرًا ألا خلاص له سوى بالوصول إلى زعبلاوي، وفي رحلة رمزية محفوفة بالهموم والحيرة الصوفية، تحَمَل الراوي المجهول! المشقة والتعب قبل الوصول والتواصل، حتى في النصوص غير الروائية مثل (أصداء السيرة الذاتية) سنة 1995 أو (أحلام فترة النقاهة) سنة 2005، استطاع النجيب التعبير ببلاغة عن النفس البشرية بنزعةٍ إنسانية رقيقة ورؤيةٍ فلسفية بصيرة.
لم يكن نجيب محفوظ مجرد روائي استثنائي وصل للمستوى العالمي في الإبداع الأدبي بأدواته الاستثنائية، بل كان فيلسوفًا وناقدًا حكيمًا، يكتب نصوصا شديدة البلاغة والمُتعة في آن بلغة متفردة سهلة مُمتنعة، تكاد تصنع من لغة الشارع المصري أهم مفردات الإجابة عن السؤال، سؤال الهوية، من نحن؟، في كتابات محفوظ نحن امتداد لا ينقطع لمن سكنوا تلك الأرض قديمًا، نتوارث أحلامهم ومخاوفهم ونعكسها على حاضرنا، كما أننا مُحملون بقدر لا يمكن تجاهله من التأثر -الذي لا مناص منه- بالأساطير وحكايات الأبطال القدامى وسير العظماء والمُقدسين، التي تتناص مع حكاياتنا اليومية في الحارة الشعبية، التي ربما تمثل أرض الوطن والمنطقة العربية أحيانًا، وربما تمثل العالم والكون نفسه في أحيان أخرى، نحمل في وجداننا جوهر الإنسانية وفي قلوبنا حيرة الوجود، نحاول التواصل مع الله والوصول إلى الذات، ونبحث جاهدين في الطريق عن إجابة السؤال.