الأربعاء 4 سبتمبر 2024

قصص دار الهلال النادرة| «الكوخ الخشبي» قصة قصيرة لـ أليفة رفعت

الكوخ الخشبي

كنوزنا4-9-2024 | 10:33

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر 1 أغسطس 1981، شرت مجلة الهلال قصة قصيرة بعنوان "الكوخ الخشبي" للكاتبة أليفة رفعت، تدور الصقة حول امرأة تزور قبر ابنها المتوفى حديثًا، وهي تحمل سرًا ثقيلًا حول هوية والده الحقيقي، تتذكر ماضيها وعلاقتها خارج إطار الزواج، والشكوك التي راودتها حول أبوة ابنها، عند القبر، تجد زوجها منهارًا وتقرر مصارحته بالحقيقة.

نص القصة

نزلت من العربة في ميدان السيدة نفيسه، سار السائق وراءها، استدارت إليه وأشارت بيدها تامره بالرجوع ثم تقدمت وحيدة، توقفت عند باب المسجد، ترحمت على الميت وقرأت الفاتحة لسليلة الرسول، ورفعت عينيها إلى السماء المكثفة بالسحب تتشكل تكوينات يخيل إليها أنها ترى فيها وجهه، فكرت أنهم لابد وأنهم صلوا عليه في داخل المسجد قبل أن يدفنوه، ترددت، هل يجب عليها أن تدخل وتصلي؟ كانت توصيه دائما أن يتجله حين موتها، ثم يجل بخاطرها أبدا احتمال أن يموت قبلها.

كان لا يزال حيا حتى هذا الصباح وتناول الإفطار وخرج لمدرسته - قبلها قبل أن يخرج ووخزب الشعيرات الثابتة في شاربه كزغب الكتكوت شفاعها فضحكت للبشرى، لم يذق اللذة بعد وكان يحدق في النساء بفضول، كان يقدسها ولم يخطر على باله أنها قد تكون مثل الأخريات.

كانت تؤجل مصارحته بالحقيقة حتى يتم تعليمه ويستقل بحياته، ولكن هل تعرفها هي؟ وهل عرفها هو الآن؟ هل في وسعه أن يعود ليقول لها؟

حين عاد بعد خروجه بقليل كان محمولا على الأكتاف وقد داهمته سيارة ولفظ أنفاسه بين ذراعي زوجها، ولم ينطق، وإنما أجال بصره باحثا عنها وشملها بنظرة شوق حنون، لم تستطع الاقتراب منه، وماتت رغبتها في احتضانه تحت وطأة السؤال الذي عاد يسوطها بعنف بعد أن حاولت التملص من قسوته طويلا.

تخلخلت ركبتاها وهي تتقدم إلى يسار المسجد وتطويها ظلال العطفة المسقوفة، ارتج خداها كزلال بيضة مكسورة، قشدت أطراف علالتها تحبكها حول وجهها كإنما لتمنع تقاطيعه من الانسكاب مع دموعها المنهمرة.

جرجرت أقدامها على الأرض بحجارة كبيرة فثارت زوابع تراب صغيرة نفذت إلى ساقيها من خلال الجوارب وردمت حدادها بمسحوق ناهم أبيض تتناثر من بين أقواس الحائط القديم يحجب مقابر مندثرة ربما هو المتبقى من ناس عاشوا من قبل على وجه هذه الأرض!.

كانت على وشك أن تحك ساقيها للدهشة حين طرقت ذراعين ساقيها تمنعهما من السير، وتبعثر جسد متسولة أمام أقدامها وكان كومة هلاهيل مسندة إلى الحائط، ارتفع أذان المغرب وطرف الفخذ المقطوع يبرز في العتمة والرأس المعصوبة العينين تنشق من فجوة الفم صارخة:

- ربنا يصبرك ويعوض علیکي!

هبت نسمة باردة لها رائحة من بين الأقواس فسرت برعشة موجعة في جسدها، هل رأتهم العمياء وهم يمرون بنعشه من أمامها بعد صلاة العصر؟ وهل طلعت وراءهم وشاهدتهم وهم يغيبونه في القبر؟ كيف علمت أنه ابنها الوحيد؟ أخرجت من حقيبتها بضعة قروش ودستها في كف المتسولة، ففكت ذراعيها من حول الساقين وتكومت لصق الحائط.

أخرجت منديلها وثبتت عينيها في محاجرها بضغطات متتالية ومسحت الدموع من وجنتها وطرف أنفها وعادت تسير، تجمع حولها عيال يصدون أيديهم بالسؤال، لو أم تتكتم سرها كربما عاش مثل هؤلاء، أخرجت قروشا أخرى ونثرتها عليهم، فاختفوا.

لم تجد قبل اليوم جدوى من الاعتراف، حتى هو ذلك الرجل، صديق زوجها، ذلك الذي يلاحقها برغبته، ويبذر التمرد في نفسها من أحوال زوجها، ويغذيها بأخبار مجونه ونزواته مع أخريات حتى خلخل اطمئنانها واستقرارها ببيت الزوجية، وشككها باحتمال انهياره، وأشعل شيطان الغيرة، فظنت أنها باستجابتها له منتقمة لكرامتها تمد جسر أمان لمستقبل أفضل مع هذا الرجل لو تركها زوجها، حتى هو حين أخبرته بجملها وأنها لا تدرى من منهما الآب الحقيقي - قال ببرود:

- إن القانون يعتبر الطفل ابن الفراش الشرعي.

فذهبت كلماته بمتعة النزوة والعاطفة التي حركها، وبقى الندم والسؤال الرهيب عفريتا شوكيا متغلغلا في خلاياها، يخزها في ليالي السهد الطويلة ليال طويلة متعاقبة الأعوام ممتدة بعمر ابنها الذي رحل اليوم ورقد في مدفن العائلة، وما تحملت الصبر الثقيل كل هذه السنين إلا لتحتفظ له باب وبيت.

وكثيرا ما تأملت تقاطيعه، وهو بين ذراعيها طفلا، وراقبت نموه صبيا ثم على أعتاب الرجولة متفرسة في ملامحه لعلها واشية بالشبه لأحدهما، ولكنه كان يشبه الزوج في متانة أطرافه، وإن كانت لمساته أرق، أما عيونه فكانت عسلية وأسمه كعيونها هي، وأما شعره وجبينه فتحمل سمات الآخر الذي اختفى من محيط العائلة.

قلبت شفتيها حين عاودتها ذكراه وارتد الاحتقار لنفسها أكثر من احتقارها له، ولكنها ظلت طوال هذه الأعوام معتكفة ببيتها عاكفة على تربية ابنها وخدمة زوجها ومن الغريب أن زوجها رجع عن مجونه بعد أن رزقا بالولد فصار كلفا به بجنون يرعاه ويلازمه دائما، ولكن لم تكن تظن أنه يحبه للدرجة التي يرفض فيها العود مع المشيعين بعد دفنه وقد رجعوا بغيره يخبرونها أنه متهافت على القبر ينشج كالأطفال مصرا على أن یبيت ليلته بجواره يؤنسه بعد أن قام المقرئين وانفض الناس.

جاءت لتقول له السر وتنفضه عن كاهلها بعد أن ناءت بحمله طويلا، لترحم نفسها من العذاب وترجمه من الحزن العميق الذي قد يخففه علمه بالحقيقة، ولتحمله على الرجوع، فما عادت تبالي بأن تستمر حياتهما مهما بعد موت الولد ولكن لا تريد أن يلحقه الضرر أكثر من ذلك.

تنهدت في توجع وهي تخطر لداخل الكوخ الخشبي الذي أقامه الجد الأكبر حول قبر النساء وقبر الرجال وقبر الصدقات محددًا ملكية حوش المدفن، بقى الكوخ يقاوم الفناء أجيالا وإن تقشرت أليافه بفعل الزمن، اتحطت بجوار الرجل المنهار على الأرض بجوار القبر الذي تبللت فوهته المردومة، وتصاعدت منها رائحة أشبه برائحة مهد الولد عندما كان وليدا، وارتفع نواح الرجل حين شعر بوجودها وألقى رأسه على كتفها، قالت تغص بدمعها: شد حيلك لازم أقولك الحقيقة

- أرجوكِ، اسكتي فأنا أعرف، قال وهو يشد بذراعيه عليها ويمسح دموعه بصدرها، أجفلت وانهمرت دموعها وأغمضت عينيها والظلام يبتلعها فأمالت رأسها عليه.